لا اعتقد أن أحداً يطلق صفة القداسة على فضيلة الشيخ القرضاوي فهو انسان مثلنا تماماً يخطئ ويصيب وهو قابل للنقد. وليس صحيحاً أن مواقفه وآرائه التي يتوفر لها النشر في مجال واسع – ليس أقله قناة الجزيرة واسعة الانتشار-، تقتصر على تعليم المسلمين دينهم أي شأن يخص المسلمين فقط وليس أصحاب الاديان الاخرى كما يرى البعض، فهو مسيس حتى العظم ومن أهم من يخلطون الدين بالسياسة ويستخدمون الدين في خدمة السياسة والعكس صحيح.
فقد كان من القادة المعدودين للإخوان المسلمين في مصر ثم ممثل التنظيم القطري في التنظيم الدولي للإخوان قبل أن يستعفي. وهو يقول في مذكراته المنشورة في موقعه، أنه كان قد عُرض عليه منصب المرشد العام للإخوان لكنه لم يقبله لانه كما قال يريد ان يتفرغ للعمل الإسلامي العام- أي مرشداً للأمة الإسلامية بدل ان يكون مرشداً للإخوان فقط -، ليضيف “إني لا أنكر انتمائي لدعوة الإخوان نشأة وفكراً وعملاً”، وقال عن مشروع الإمام حسن البنا إنه “المشروع السني الذي يحتاج إلى تفعيل”….وانسحابه من التنظيم الرسمي للإخوان عالميا وإقليميا لا يعني انسلاخه من الدعوة نفسها التي قال عنها أنها: ” عقيدة وشريعة…ودينا ودنيا…ودعوة ودولة”.
لذاك من حق أي كان مناقشة مواقفه السياسية والمدنية التي نرى أنها عموماً تتعارض مع ما نراه مناسباً لمجتمعاتنا المبتلية بالاستبداد والتي من المفضل لها ألا تستبدله بالاستبداد الديني في الدولة التي يدعو لها تنظيم الإخوان والشيخ القرضاوي. هذه المناقشة لا تعني خلط الديني بالمدني فالإسلام السياسي ومنه القرضاوي هو من يفعل ذلك، ونحن مضطرون لمجاراته للرد على أفكاره التي لا تقارب الدولة المدنية ولكن الدولة الدينية، ونموذجها الدولة الإيرانية التي يحكمها المرشد الأعلى غير المنتخب من الشعب، دولة دينية تدعوا لها تنظيمات الإسلام السياسي السني، يسميها البعض دولة الخلافة، ولا نعلم إن كان القرضاوي فيما لو تحققت هذه الدولة سيعين مرشداً أعلى لها بصفته الآن مرشداً لجميع المسلمين كما يعتقد كثيرون.
كما أننا لا نرى أنه يمكن التعايش بين فتاوى دينية في شؤون الدنيا والقوانين المدنية الحديثة التي يسنها ممثلو الشعب المنتخبون التي تتعارض مع النصوص الدينية الممارسة منذ مئات السنين والتي لم تعد صالحة للعصر: منها مثلاُ الرق الذي لم يكن محرماً دينياً وهو الآن جريمة ضد الإنسانية، أو العقوبات الجسدية مثل الجلد والرجم وقطع الايدي والارجل التي هي من النصوص الدينية والتي باتت تعتبر من الافعال الهمجية، أو قتل المرتد المتعارض كلياً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أكد حق الإنسان في تغيير دينه كما يشاء، أو الحق في الزواج بين زوجين من ديانات مختلفة المسموح به بين المسلم والمرأة من ديانات اخرى والمحرم بالعكس؟. أو المفاهيم الفقهية التي تجعل للمرأة نصف نصيب الرجل من الارث وشهادة الرجل بشهادة إمرأتين “ناقصات عقل ودين”، هل يمكن أن تتعايش هذه النصوص الفقهية مع قوانين الدولة المدنية الحديثة؟
الشيخ القرضاوي يفكر بدولة، الرجم فيها أمر أساسي فليس بعيداً دعوته لرجم الرئيس عباس، المنتخب بأكثرية أصوات شعبه لأنه حماس اتهمته بمشاركة إسرائيل حربها على غزة!، كما رجم ابا رغال الذي دل أبرهة الحبشي على طريق مكة عندما غزاها! اتهام عباس لم يتأكد الشيخ إن كان مثبتاً بأدلة وبراهين أم أنه نبأ من فاسق ضمن حملة الاتهامات السياسية المتبادلة بين طرفي الصراع الفلسطيني- الفلسطيني الذي ارتضته حماس كبديل عن المواجهة المشتركة ضد الاحتلال الإسرائيلي. الاتهام لعباس ومسألة غولدستون الذي عملت منه حماس “إعصاراً” في محاولة لإسقاط عباس بالضربة القاضية تحول أخيراً لزوبعة في فنجان. كما سبق للقرضاوي أن افتى بأن العمليات الانتحارية التي كانت منظمات الإسلام السياسي تقوم بها ضد المدنيين هي عمليات استشهادية كما يسميها إخوان غزة والشيخ الزرقاوي والشيخ بن لادن… فيما العالم يعتبرها عمليات إرهابية.
كما أن الكثير من مواقف الشيخ القرضاوي مثيرة للجدل ومنها مثلاً الحملة التي شنها ضد الدانمارك والغرب إجمالاً، لان رساماً دانمركياً يعتقد بحرية الرأي كما هي مطبقة في بلاده نشر صوراً مسيئة، ودعوته الناس ليهبوا للدفاع عن الدين مما أدى لمسيرات غاضبة حطمت في طريقها ما استطاعت الوصول إليه مما يمت بصلة للغرب. وللقرضاوي دور كبير في التحريض لمبالغته في تصوير أن الغرب يخوض حرباً دينية ضد المسلمين!. كما حرض من على المنابر الإعلامية ضد بابا روما لملاحظته في محاضرة أن الإسلام نشر بالعنف، مما أدى لاحتجاجات غاضبة في دول إسلامية عديدة منها لبنان حيث هاجم الهائجون نتيجة التحريض كنائس في حي الاشرفية وحاولوا إحراقها، وحاول متشددون إسلاميون إحراق كنائس في الضفة وغزة. كما أيد القرضاوي الإخوان في دعوتهم لرفض زيارة البابا للأردن. وهو حتى الآن لا زال متشددا في رفض اتحاد علماء المسلمين الذي يرأسه لأي حوار مع القيادات الدينية المسيحية في العالم. وقد اعترض بقوة مؤخراً على حضور صحفي دانمركي للاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة في قطر لأنه يعمل في الصحيفة التي نشرت الرسوم الكاريكاتورية.
والفرق بين القرضاوي وبن لادن أن الأول يقول أن الغرب يشن حرباً دينية على المسلمين، فيما الثاني يقول ان المسلمين هم من يجب أن يشنوا حرباً من دار الإسلام ضد دار الكفر-الغرب- لنشر الدين. والشيخ القرضاوي يخوض حرباً أخرى ضد الشيعة. نفهم أن إيران الدولة تريد أن تمد نفوذها إلى الدول العربية ونعارض ذلك، ولكن القرضاوي وإسلاميون آخرون يفضلون صبغ الصراع بالصبغة الدينية كصراع بين السنة والشيعة وكغزو للمجتعات السنية لنشر التشيع. وفيما أن التبشير مسموح به في جميع البلدان الديمقراطية التي تعتمد قوانين مدنية تتناسب مع حقوق الإنسان التي شرعتها العهود الدولية، فأن التبشير بالدين محرم لجميع الديانات الاخرى في البلدان التي أكثريتها إسلامية، ولا نظن أنه سيسمح به في دولة الخلافة التي يدعو لها الشيخ القرضاوي ويقول عنها أنها حلم المسلمين.
والقرضاوي في العديد من المسائل الحرجة يستعمل كلمة “ولكن” فيقول انه لم يكفر الشيعة ولكنه اعتبرهم مبتدعون. ولمن لا ينتبه يظن أنه فعلاً لا يكفرهم فيما أن كل بدعة ضلالة أي كفر. وهو مثلاً أحل مصافحة الرجال للنساء ولكن اشترط ألا تقترن المصافحة بالتلذذ الجنسي! ورخص بمصافحة المرأة العجوز التي لا تشتهى! وقال أنه خالف إبن تيمية الذي أفتى بعدم تهنئة النصارى باعيادهم ولكن اشترط لتهنأتهم ان يكونوا مسالمين للمسلمين، دون أن يحدد من هم المسالمون ومن هم النصارى، ربما يكونوا فقط من لا يؤمنون بان المسيح إبن الله!. وهو لا يرى بأس من اعتبار اصحاب الديانات الاخرى مواطنين ولكن إن لم يعجبهم تعبير “أهل الذمة” لوصفهم فيمكن تسميتهم مواطنين في رعاية الحكومات الإسلامية، ويفهم من ذلك أن المعاملة كاقليات في ذمة المسلمين ما زالت سارية المفعول ولكن يمكن إطلاق إسم مواطنين عليهم.
وهو يستشهد بالآيات التي تحض على التعامل بالحسنى مع أهل الكتاب ويتجاهل الآيات التي تحض على قتالهم وتدفيعهم الجزية صاغرين. ولا أظن أنه اعترض على ما سبق أن صرح به المرشد السابق للإخوان في مصر من وجوب منع المسيحيين من الخدمة في الجيش المصري حتى لا يفروا إلى صفوف العدو أثناء المعارك، أو عندما صرح أن باكستاني أو ماليزي أو أفغاني مسلم، أفضل من أي قبطي لرئاسة مصر، رغم أن ذلك يتعارض مع مفهوم المواطنة وهو في التطبيق ذمية تمييزية. ولم نسمع انه شن لذلك حملة عرمرمية كما الحملات التي شنها ضد الرسام الدانمركي والبابا.
وهو أجاز هجرة المسلمين إلى البلاد غير الإسلامية، لكنه اشترط على المسلم المهاجر أن يحافظ على دينه ويتعاون مع إخوانه المسلمين ويدعو الأوروبيين والاميركيين إلى الإسلام ويعنى بقضية الامة الإسلامية. ويفهم من ذلك أنه أفتى بجواز هجرة الإخوان المسلمين فقط وإلا تكون الهجرة باطلة شرعاً! وهو سبق أن أفتى بجواز قتال المسلمين الاميركيين مع الجيش الاميركي ضد المسلمين في أفغانستان- صحيفة الشرق الاوسط-، لكنه عاد فتراجع عن فتواه فطالب الجندي الاميركي المسلم بالاعتذار عن قتال من هو بمثل عقيدته، ولكن إذا فرض عليه القتال فلا يبادر هو إليه!
منهج “ولكن” أحد الطرق المتبعة من الشيخ وهو احياناً كما قال بنفسه يكتم اجتهادات فقهية وفتاوى حول قضايا معاصرة مخالفة للآراء السائدة تجنباً لتشويش الجماهير عليه، لكنه في مكان آخر يدعو العلماء للتحلي بالشجاعة العلمية في اختيار الرأي الذي يقتنعون به وإعلانه للناس.
إجمالاً فإن إقحام رجال الدين أنفسهم في المسائل السياسية يعود بالضرر على صورة الدين، ويحذر عادة من مغبة خوضهم في الصراعات السياسية، لكن الشيخ القرضاوي رجل سياسي أكثر منه رجل دين. آرائه ليست شؤون دينية تقال من المساجد والمنابر بل هي لكل مجتمعات المنطقة وللعالم. ويحضرنا ما كان يذكر في كل خطبة جمعة في مكة المكرمة تذاع لجميع أنحاء العالم، من وصف للنصارى واليهود بأبناء القردة والخنازير، والذي لم يوقف إلا منذ بضعة سنوات.
الشيخ القرضاوي لا يدعو لدولة مدنية حديثة بل لدولة دينية. حيث حتى الآن لم يثبت أي إسلام سياسي أنه ديمقراطي فعلاً سوى حزب العدالة والتنمية التركي الذي رضي بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة والسياسة. التيار الإسلامي إجمالاً والقرضاوي من ضمنه أجل الديمقراطية والدولة المدنية عملياً لما بعد تحرير “الوقف الإسلامي” حسب تعبير حماس، كما فعل قبله القوميون والناصريون بتأجيلها حتى تحرير فلسطين! وهذا يذكرنا بالمثل الشعبي: “عيش يا كديش تينبت الحشيش”.
ahmarw6@gmail.com