كلما صدر سلوك غير سوي (عنيف، إرهابي، انتحاري، مناهض للمرأة، مناهض لحقوق الإنسان، معاد للحريات، رافض للتعايش) من قبل بعض المنتمين للتيار الديني، نجد آخرين تابعين للضفة الأخرى من التيار نفسه يفسرون ذلك بأنه لا يعكس حقيقة الدين الإسلامي. لنضرب مثالا على ذلك: حينما يفجر انتحاري سني من تنظيم القاعدة نفسه وسط الزوار الشيعة في مرقد الإمام الحسين بكربلاء، ويصف أنصار الانتحاري هذا العمل بأنه نابع من رؤية دينية جهادية أصيلة، ويسقط العشرات من الضحايا المدنيين من رجال ونساء وأطفال بين قتيل وجريح، يحتج الشيعة بشدة على ذلك وعلى رأسهم دولة إيران الشيعية، ويصفون التفجير بأنه لا يعكس حقيقة الدين. في حين أن الدولة الشيعية ذاتها تقمع أبناءها الشيعة المحتجين على حكمها وتتفنن في قتل المتظاهرين في الشوارع وفي السجون وتصف سلوكها بأنه نابع من مفهوم الدفاع عن الرؤية الدينية الشيعية الأصيلة في الحكم، إلا أن السنة يحتجون ويقولون بأن هذا السلوك الديني القمعي لا يعكس الإسلام. ونحن في خضم هذا التناقض نتساءل: إذن.. ما هو السلوك الديني الذي نستطيع أن نقول عنه بأنه يعكس حقيقة الدين الإسلامي؟
إن الأمثلة على وجود هذا التناقض لا تحصر، سواء بين السنة والشيعة، أو داخل كل مذهب. لقد وصفت حكومات في المنطقة الجماعات الجهادية الانتحارية بأنها “جماعات ضالة”، في حين أطلقت تلك الجماعات الوصف نفسه على الحكومات. ويتحدث السنة والشيعة عن أهمية “الوحدة الإسلامية”، في حين أن كل طائفة تصف معظم السلوك الديني للطائفة الأخرى بأنه لا يعكس حقيقة الدين الإسلامي، ما جعل مفهوم الوحدة يعيش غريبا.
في الكويت هناك واقع اجتماعي مر يستند إلى النظرة الاحتكارية للدين، وإلى الممارسة التعبدية في إطار هيمنة مفهوم الحقيقة المطلقة وسيطرة ثقافة الفرقة الناجية. ومن أبرز صور هذا الواقع المر رفض التقارب بين الأسر ومنع التزاوج بين أبنائها وبناتها، إذ ترفض الأسر السنية تزويج بناتها للأسر الشيعية، كذلك العكس صحيح أيضا. من جهة أخرى نسمع داخل كل طائفة عن رفض أسر سنية تنتمي للتوجه السلفي تزويج بناتها لأبناء أسر محسوبة على الإخوان المسلمين. وفي الضفة الشيعية هناك العديد من مشاريع الزواج الفاشلة بسبب النزاع التاريخي حول “تقليد” المرجعيات الدينية، واختلاف الرؤى الدينية والسياسية والاجتماعية بينها، وهو ما أثر على الواقع الاجتماعي والنسيج الأسري.
إذن نحن أمام سلوك ديني متأثر بالمطلق الديني وبالفرقة الناجية، مما أفرز نهجا يرفض الآخر ويعتبره خارج إطار الدين. وساهم ذلك في إيجاد وضع سياسي واجتماعي منفور. وقد ينتج هذا السلوك ما يمكن تسميته مجازا بأديان عدة لا دين واحد. فالمشكلة في نظري تكمن في تأكيد أنصار كل دين على أن سلوكهم الديني، سلوك وصائي، يعتقدون بأنه الحق المطلق، بالتالي هو الوحيد الذي يعكس الإسلام الصحيح، وأن غيره خارج دائرة الدين، وقد يقبل الآخر المخالف له كفرد في المجتمع، لكنه لا يعترف به دينيا.
هذا التأكيد يتحقق في غالب الأحيان من خلال مبدأ القوة، أي من خلال ادعاء كل مذهب أو طائفة أو توجه بأن الله ينصره في جميع معاركه، الداخلية مع الآخرين من المسلمين، والخارجية مع غير المسلمين. وهذه القوة تعتمد على وسائل مختلفة، تتوزع بين استخدام العنف والإلغاء. فالقوي يصبح قويا استنادا إلى كثرته ومن ثَم إلى سلوكه الديني الوصائي. والضعيف يسعى إلى القوة استنادا إلى “عظمة الباري” التي يعتمد عليها في جميع تصرفاته، إذ إن اعتماده قائم على إيمانه بأنه خليفة الله في الأرض. كذلك هناك من يفضّل أن ينتقل من طائفة إلى طائفة أو من جماعة إلى جماعة داخل الدين الواحد انطلاقا من اختلاف موازين القوى. إن كل طائفة أو جماعة تلغي الأخرى دينيا استنادا إلى نصوص دينية متعددة، من أبرزها “حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة”، حيث تفعّل عملية الإلغاء انطلاقا من أن الجانب الآخر أحلّ ما حرم الله أو حرّم ما أحل الله.
إن فهم القرآن والسنة النبوية لم يعد متعلقا بالجغرافيا التي نزل النص الديني في إطارها، ولا مرتبطا بإنسان هذه الجغرافيا. لذلك ظهرت المشاكل الإلغائية الإقصائية. وهذه المشاكل من شأنها أن تستمر ما لم يتغير الفهم الديني ويصبح فهما تاريخيا. والفهم التاريخي للنص الديني هو بمعنى فهم الأوامر والنواهي الدينية في إطار ظروفها التاريخية. على هذا الأساس لا يمكن للفهم التاريخي أن يتوافق مع الفهم القائل إن الشريعة الدينية صالحة لكل زمان ومكان.
لقد اختلف السنة والشيعة على موضوع من يخلف النبي الأكرم بعد وفاته. وقد سالت الكثير من الدماء من أجل هذا الأمر. كل ذلك من أجل تحديد من هو الأحق في قيادة شؤون المسلمين ومن له السلطة في تنفيذ شريعة الدين. وإذا ما فهمنا موضوع وفاة النبي الأكرم فهما تاريخيا، وفسرنا مسألة من يخلفه تفسيرا تاريخيا، لاستطعنا حقن الكثير من الدماء، كذلك لاستطعنا أن نعتبر موضوع الخلافة شأنا تاريخيا غير مهم، لأنه لا يرتبط بواقعنا الراهن، كذلك لاستطعنا أن نقزّم المطالب العنيفة في الوصاية على أمور المسلمين والتي تندرج تحت مطلب الخلافة والقيادة وتنفيذ الشرع الإسلامي، ولساهمنا في مواجهة الاستبداد الديني والوقوف بوجه الديكتاتورية الدينية.
إن رجال الدين يعارضون بشدة أي تفسير تاريخي للدين، لأن ذلك يساهم في إيجاد فهم جديد للدين ذي نتائج حساسة. من أبرز تلك النتائج ومن أشدها خطورة على مستقبل رجال الدين، فقدانهم سلطتهم السياسية وضياع اعتبارهم الاجتماعي، بسبب فقدانهم الأرضية التي تمنحهم التشريع باسم السماء والتي يهدفون من خلالها إلى الهيمنة على الأرض. وهذه النتيجة من شأنها أن تفقدهم أي مبرر ديني يهيئ لهم الطريق للتدخل في كل صغيرة وكبيرة من حياة الإنسان.
إن الخطاب الديني دأب على إثارة قضايا تاريخية وهوّل من مخاطر الخروج على فهمه لها. فقد وصف كل من ينتقد الثقافة الدينية التاريخية والعادات والتقاليد النابعة عنها، أي تاريخ الدين وسننه السياسية والاقتصادية الاجتماعية، بأنه خارج عن الدين. فالمدرسة الدينية التقليدية تعتقد أن الإنسان المتدين يجب ألا يقطع علاقته بتاريخ الدين. في حين أنه لابد من وجود سعي حثيث يستطيع أن يضع حدا للعلاقة التقليدية بين المسلم وتاريخه الديني، وهي علاقة قائمة على التبعية والتقليد، ومستندة إلى الخضوع لأحداث وتشريعات وخطابات تتناقض مع واقع الحياة وتطورها وتغيّرها. وهذا السعي ينبع من الإحساس بأن تلك العلاقة لا تتماشى مع الحياة الجديدة، بسبب وجود تعارض بين الاثنين. والمدرسة الدينية التقليدية، بسلطاتها القوية والمتعددة، تعمل على إلغاء حامل هذا النوع من الرؤى، وتجهد لإخراجه من الدين، وتتهمه بجملة من التهم، لأنها نصبّت نفسها سلطة سماوية وصية على من يعيش في الأرض.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com
هل هناك سلوك ديني يعكس حقيقة الدين؟
Outstanding and couragous analysis