في اعتقادي، تمكن الكاتب المصري يوسف زيدان، عبر سردية رائعة، من إقناع القارئ بأن روايته “عزازيل”، قد كتبها راهب مصري أسواني يدعى (هيبا..) قبل ستة عشر قرناً، وقد قام هو بترجمتها عن اللغة الآرامية، من لفائف البردي “المكتشفة في خرائب تقع على حوافي الطريق القديم الواصل بين حلب وأنطاكية”.
-1-
لا شكَّ، في أن الرواية قد امتارت الكثير من مخزون الوثائق التاريخية، وهي ميدان اختصاص كاتبها. وليس غريباً وجود راهب في ذلك الزمان، أن يكون طبيباً وشاعراً، وعارفاً لثلاثِ لغاتٍ أخرى إضافة إلى لغته (الأصلية)، ومتمتعاً بمثل هذا المستوى العقلاني الكبير، وهو قد ترعرع في بلد مثل مصر، التي كانت قد عرفت، حتى زمن الرواية، ثلاث حضارات عريقة، المصرية واليونانية والرومانية.
لكن لا يمكن أن يغيب عن ذهن القارئ لحظة، جهد يوسف زيدان، في إخراج هذه الرواية وكتابتها وسردها وحوارها، والأهم من ذلك، في إبراز مضمونها الفكري والسياسي والمعرفي. في كل الأحوال، سواء كان يوسف زيدان مترجما للرواية أو مترجماً ومشاركاً في تأليفها، ماله أهمية هنا، هو عودته الفكرية إلى عمق التاريخ، وخروجه منها برواية معاصرة تحاول أن تتلمس واقعنا وتتطلع إلى المستقبل، وهي تخاطب من خلال أحداثها مجتمعنا العربي وتقول له: إن التعددية الفكرية، بما فيها التعددية الدينية هي الحل لأزمتنا المستعصية، وليس الحل الدين الواحد أو المذهب الواحد أو الفكر الواحد.
وفي تقديمه للرواية، يقول يوسف زيدان عن لغة الراهب المصري “هيبا..” في سيرته الذاتية المكتوبة بالآرامية: “تعدُّ آية من آيات البيان والبلاغة”. لكن في الحقيقة، لم يكن هو أقلَّ شاعرية وبلاغة في النص العربي للرواية. ويبدو أنه استطاع أن ينضم بجدارة إلى الروائيين العرب الذين برعوا في تخييل التاريخي والواقعي؛ مثل جمال الغيطاني في رواية “الزيني بركات” التي حكت عن الشرطة والبصاصين والمستوى التقني الذي وصل إليه قمع الناس في عهد قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك، وكذلك تذكِّر”عزازيل” بأمين معلوف وصنع الله ابراهيم وعلاء الأسواني ومصطفى خليفة وخالد خليفة …
-2-
يبين سياق الرواية، أنه ليس كل ما قبل التحولات الكبرى (دين جديد أو ثورة اجتماعية) هو لاعقلاني (جاهلية)، وكل ما بعد هذه التحولات هو عقلاني ومتقدم. وهذا ما نستخلصه في الرواية، من المشهد المأساوي والمرير الذي قتلت فيه المحاضِرة (هيباتيا). فهذه التي كان يطلق عليها “أستاذة الزمانِ”، ابنة العالم الفيثاغورثي(ثيون)، المحاضرة في الفلسفة والرياضيات في مسرح الاسكندرية كل يوم أحد؛ هذه الأستاذة يقتلها الراهب بطرس، هو ورعاعه، بعد سماعهم خطبة نارية لأسقف الإسكندرية (كيرلس) يطالب فيها باستئصال “بقايا الوثنية”. فسُحِلَتْ هيباتيا في شوارع الاسكندرية، وتم تقشير جلدها بأصداف البحر وقتلت صديقتها (اوكتافيا) التي هرعت لتنقذها من بين أيديهم، ومن ثم حرقت في ظل نشوة غامرة. كل هذه الأمور لم تكن موجهة لجسد هيباتيا بقدر ما كانت موجهة ضد الفلسفة والرياضيات والمعارف والعلوم. وكذلك نرى هذا التعصب الأعمى واستئصال الآخر في مأساة صياد السمك (والد الراهب هيبا). فقد قتله الرعاع أيضاً تحت يافطة الإيمان، لأنه كان يقدم بعض ما يصطاده لرهبان معبد الإله الوثني المصري (خنوم ) عند الطرف الجنوبي من جزيرة إلفنتين في نهر النيل جنوب مصر.
تبدو بوضوح في الرواية مأساة الفكر (بما فيه الدين) حين يتحول إلى عباءة إيديولوجية رسمية وحيدة للسلطة. لقد حاول الكاتب عبر روايته، القيامَ بعودة فكرية إلى النصف الأول من القرن الخامس الميلادي، ليبين أن إلغاء فكر الآخر، كان يتم منذ تلك الأيام بالاعتداء على شخصه مادياً ومعنوياً، وقد شكل ذلك أساساً وتقاليد لا تزال جاثمة حتى الآن على صدور شعوب منطقة الشرق المتوسط. فالمسألة لم تبدأ منذ اضطهاد المسيحيين للوثنيين، واضطهاد الأورثوذوكسية للأريوسية والنسطورية والسريانية المونوفيزية. فهي أقدم من ذلك ويكفي أن نقرأ سفر يشوع في التوراة لنرى نظرة اليهود الإقصائية للاخر على حقيقتها. وكذلك الحال بعد الإسلام، الموقف من الآخر لم يكن أحسن حالاً. ولا تخفى على أحد محن غيلان الدمشقي ومعبد الجهني وعمر المقصوص وعبدالله ابن المقفع ومنصور الحلاج والسهروردي….. ومآسي إلغاء الآخر مستمرة في زمننا المعاصر، ونذكر على سبيل المثال فرج فودة وحسين مروة ومهدي عامل ونجيب محفوظ ونصر حامد أبوزيد…وآخرين كثر لا مجال لذكرهم جميعاً…).
من سياق الرواية وتاريخها، يبدو أن الروائي يحاول أن يقول، إن ظاهرات التعصب الديني والمذهبي والإيديولوجي، وإلغاء الآخر ونفيه وتعذيبه وقتله، لا تخص وطناً محدداً، أو مذهباً دينياً أو فكرياً دون الآخر. في اعتقادي هذه المحاولة مشروعة وضرورية وحقيقية. فكل هذه الأمور يمكن أن تحدث وبمنتهى العنف حين يتحول الفكر، أي فكر، ديني أو غير ديني، إلى ايديولوجيا سلطوية كاملة ومكتملة (مقدسة). وحينما تشكل “أونيفورماً فكرياً شرعياً” لكل المجتمع، دون الأخذ بعين الاعتبار موضوعية الاختلاف وتعدد وجهات النظر بين أفراده وفئاته..
وفي الرواية كذلك، إشارة واضحة إلى الموقف اللاعقلاني من العلم، نراه في الحوار الذي يدور بين الأسقف كيرلس والراهب (هيبا)الطبيب حينما كان في الاسكندرية، وقبل ان يأتي إلى اوروشليم (القدس).إذ لم يُقِمْ أسقف الاسكندرية أي وزن وأية قيمة للطبيب الفرعوني (امنحوتب) ولأبي الطب اليوناني (ابقراط) والطبيب الصيدلاني المشهور (جالينوس)، فكل القيمة لدى الأسقف كيرلس كانت للطب العجائبي، في الوقت الذي رأينا (هيبا الراهب) يعطي قيمة هامة للأدوية والمعارف الطبية المتراكمة من جيل إلى جيل، وفي الدير الذي كان يقيم فيه بالقرب من حلب يؤسس مزرعة للنباتات الطبية ويشجعه على ذلك رئيس الدير والأسقف نسطور..
تؤرخ الرواية، في محورها الرئيسي، للتواطؤ الذي يقوم بين السلطة الدينية والزمنية إزاء أي فكر آخر لا يتماشى مع الإيديولوجية الرسمية، وإزاء أي إصلاح ديني لايصب في مصلحتهما. وهذا ما يبدو بوضوح في محنة اسقف القسطنطينية نسطور حين طرده الأمبراطور البيزنطي من منصبه بتهمة الهرطقة معاضداً بذلك أسقف الاسكندرية المتعصب كيرلس ، ضارباً عرض الحائط حتى بمجمع (أفسس) في عام 431 الذي حرم آنذاك الإسقفين معاً. ولماذا نستغرب؟ فمثل هذا التواطؤ سائد إلى الآن في معظم بلداننا العربية إن لم نقل في جميعها…
وكذلك في الرواية إشارة واضحة جداً إلى ظاهرة الكتب الممنوعة، التي يبدو أنها ليست ظاهرة جديدة في الشرق بل هي قديمة وقديمة جداً، قبل الإسلام وبعده، وإلى يومنا الذي نعيش فيه. وكانت هذه الكتب الممنوعة قبل ستة عشر قرناً، تحظى أيضاً لدى القراء، كما هو الحال في أيامنا ، باهتمام خاص وكانوا يشعرون حين قراءتها بمتعة وسعادة وفرح… وهذا ما رأيناه في الحوارالذي جرى في عام 424 ميلادية حول أسوار كنيسة القيامة في (أوروشليم/القدس)؛ بين الراهب المصري، (هيبا..). والأسقف (نسطور) الذي كان في رحلة حج من انطاكية إلى القدس قبل ان يكون بطريركاً للقسطنطينية. ومن أهم الكتب الممنوعة في تلك الحقبة رسالة “ثاليا” لآريوس، وانجيل توماً وانجيل المصريين وانجيل يهوذا وبعض الأناجيل الأخرى وسفر الأسرار والتاسوعات لأفلوطين وبعض المؤلفات المصرية….
-4-
كانت قد بدأت تنقرض ظاهرة الكتب الممنوعة في غرب أوربا مع انتصارات الثورة الصناعية والحداثة، ومع تكريس مشروعية الفلسفة ونقد الفكر الديني، ومع توطد العقلانية والعلمانية والديموقراطية، وإن كنا أحياناً قد رأينا بعض الكتب التي تعرضت لضغوط ومحاصرة بعض السلطات واللوبيات الدينية، كما كان الحال بالنسبة لكتب الفيلسوف سبينوزا، وفيما بعد كتاب فرويد “موسى والتوحيد” وبعض الكتب الأخرى لكتاب آخرين.. وهذه الظاهرة كانت موجودة في القرن العشرين في الاتحاد السوفييتي وباقي البلدان الاشتراكية، وهذا المنع كان يشمل مؤلفات تروتسكي وأسحق دويتشر وانطونيو غرامشي وبعض كتب الماركسي المجري جورج لوكاش وكتاب “الشيوعية الأوربية” لسانتياغو كارييو.. وكذلك الصين لم تنج من هذا المرض في عهد ماوتسي تونغ ، خاصة في فترة الثورة الثقافية حينما حرمت كتب الحكيم الصيني كونفوشيوس والتاو وغيرها من الكتب التراثية الصينية…
وفي العهد الإسلامي منذ بداياته لم يكن وضع (فكر الآخر) بمأمن، وهذا ما رأيناه في حريق مكتبة الاسكندرية. طبعا كان هنالك بعض الفصلات التاريخية، في العهود العربية الإسلامية التي تحرر الكتاب فيها نسبياً، في زمن المأمون والمعتصم والواثق(فكر المعتزلة ونهوض الترجمة من اليونانية والسريانية والفارسية والهندية). وكذلك كان هنالك مثل هذه الفصلات المضيئة في الأندلس، وأهمها كانت في زمن المنصور بن يوسف. حيث ازدهرت الفلسفة ولم تعد كتبها ممنوعة وبرز فلاسفة مرموقون مثل ابن طفيل وابن رشد وابن ميمون وابن حزم…. ولكن لم تدم كثيراً هذه الفصلات التي ازدهر فيها العلم والفلسفة والترجمة. ومع انتصار السلاجقة في المشرق صارت كتب علم الكلام من المحرمات، ولوحق الفلاسفة والكتاب العقلانيون وتعرضوا لمختلف أنواع التنكيل والاضطهاد. و في الأندلس بدأت السلطة تلاحق الفلاسفة وكتبهم، وأحرقت كتب ابن رشد في ساحة قرطبة، وما بقي منها بعيداً عن عيون السلطة صار يتداول بالسر وتسربت وقتها إلى أوربا..
واستمرت مأساة الفكر الآخر على حالها، إلى أن جاءت حملة نابوليون وتجربة محمد علي النهضوية، فبدأت تتحسن نسبياً حرية الكتاب في بلادنا العربية، وتحسنت أكثر بعد سقوط الدولة العثمانية، سواء في عهد الحقبة الاستعمارية، أو لفترة قصيرة بعد الاستقلالات العربية.
لكن ظاهرة الكتب الممنوعة عادت لتزدهر في عهد السلطنات العربية المتجددة في ستينات القرن الماضي. وفي يومنا هذا يمكننا أن نتكلم على مئات وربما آلاف من الكتب الممنوعة. وهنالك سوق رائجة لها، ولقد منحها تداولها بالسر الكثير من الشهرة، ونذكر منها على سبيل المثال” كتاب الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس” للشاعر العراقي معروف الرصافي و”نقد الفكر الديني” للباحث السوري صادق جلال العظم وبعض قصائد الشاعر نزار قباني، ومجموعة كتب الباحث الليبي “صادق النيهوم”، ورواية “القوقعة” لمصطفى خليفة، و”مديح الكراهية” لخالد خليفة، و”محنتي مع القرآن والله في القرآن ” للشيخ الأزهري السوربوني عباس عبد النور من دمنهور، و”قس ونبي” لأبي موسى الحريري……و كذلك صودر في أواخر السبعينات في مصر، في عهد أنور السادات، كتاب المتصوف الكبير محي الدين ابن عربي “الفتوحات المكية”. وفي الواقع حين نتكلم في الدول العربية على سوق اقتصادية رسمية وأخرى موازية، فكذلك يمكننا الكلام في هذه الدول على سوق رسمية للكتب وسوق غير معلنة موازية لها في مجال الفكر والسياسة والأدب….
في اعتقادي رسالة الكاتب يوسف زيدان في رواية عزازيل ليست موجهة ضد المسيحيين كما رآها البعض، بل هي موجهة للتماميين والمتطرفين من كل الأديان والإيديولوجيات. وكذلك موجهة للحكام المستبدين الذين لا يطيقون مفكراً ولا مثقفاً لا ينضوي في خدمة أهدافهم ومصالحهم…..
دمشق
zahran39@gmail.com