إنه يوم آخر، لا شك في ذلك. كانت الساعة تقترب من السادسة صباحا. لم احتج
إلى منبه الهاتف يزعق كالديك تحت المخدة وأنا اضربه بيدي ليسكت ثم يزعق
من جديد كل خمس دقائق. استفقت من تلقاء نفسي بحماسة لم أشعر بها منذ زمن
بعيد. زمن هو نفسه كان شاهدا على رغبة هروبي للنوم، لا لشيء إلا تبديدا
لوقت كان في موت سريري.
استفقت وإذ السماء من فوق أسطح المباني ترسم ابتسامة كبيرة بيضاء على
بشرتها الزرقاء الصافية من أي عبث بيئي. لم يكن ذلك إعلانا لجبنة فرنسية
مشهورة. كان يقينا لا شك فيه. فتحت الصحف وإذ بعلامات الإنفراج ترتسم
سريعا على محياي “مبروك للبنان دولة وشعبا: الحكومة المعجزة تحققت بعد
122 يوما”، كنت أظنه مفعول تلك القهوة التي يقول الإعلان ان النهار يبدأ
سعيدا معها. لكن ما قرأته كان واضحا كعين الشمس، ظاهرا بالخط الأسود
العريض. فوق المانشيت فرشت صورة على ثمانية أعمدة وفيها وزراء الحكومة
العتيدة يمسكون أيديهم ويرفعونها عاليا علامة النصر ووراءهم تلوح الأعلام
اللبنانية لا ينازعها أي أثر للأصفر أو الأخضر أو الأورونج أو الأزرق.
كانت الصحف جميلة في هذا اليوم لا تشبه هدوءها أو هدنها الإعلامية في أي
يوم آخر. كانت تشبه قراءها وما يتوقون إليه من سلام داخلي لا تبدده مقالة
من هنا وشائعة من هناك. كان لا بد لي من التأكد أن ما قرأته في الصحف
حقيقي. كدت أفقد عقلي من كثرة الفرح. فهرعت إلى التلفزيون لأرى في اسفل
الشاشة خبرا عاجلا: نهنئ اللبنانيين بتشكيل الحكومة العتيدة. كان قلبي
يطير فرحا ويكاد يقفز من مكانه ليشارك الشبان في الأحياء القريبة
والبعيدة نشوة الإنتصار. الشباب اللبنانيون تجمعوا حول بعضهم في الطرقات،
حملوا كلهم الأعلام اللبنانية وراقصوها عاليا كعروس في ليلة فرحها، لفوها
على اجسامهم ورؤوسهم وراحوا يهتفون “بالروح بالدم نفديك يا لبنان”.
لبنان، استغربت لوهلة ان يعود الوطن ليحتل حماسة هتافاتهم وشعاراتهم.
لبنان، كنت أردد معهم من أمام التلفزيون وانا أنتظر زلة لسان تعيدهم إلى
تمجيد القائد. فالقادة المجيدون كثر في وطننا. لكن، الهتافات لم تضل
طريقها، بقيت تصدح باسم لبنان ولبنان فقط. مناطق التماس الجديدة
والقديمة، التم شمل ناسها من جديد، راحوا يزورون بعضهم في المناطق
ويوزعون البقلاوة، يزغردون ويضمون بعضهم وينثرون القبلات كأن شعبا بكامله
استفاق من نوم عميق ليكتشف أن ما مر من سواد لم يتعد الحلم المزعج الذي
انتهى أخيرا ليحرر الناس من سطوته.
في المباني الرسمية كان السياسيون مرتاحون، لا علامات غضب ووجوم تنفذ من
عيونهم، من عقدة حواجبهم أو من أفواههم المزمومة. يدخلون غرفا ويخرجون من
أخرى. لم أفهم، هل عادوا للخلاف من جديد. فإذ بصوت مقدم الأخبار ينتشلني
من كابوس كاد أن يغميني. بصوت واثق يقول المذيع: السياسيون يتشاورون فيما
بينهم على الحلول الأفضل للمواضيع التالية: مكافحة هجرة الشباب اللبناني،
الحد من العطالة، تأمين الفيول للكهرباء بتغذية كاملة، مكافحة الغلاء،
الحد من ارتفاع الشقق السكنية ووو… أفرك عيني اللتين تكر منهما سيول
مالحة من الدمع اللذيذ، هذا البكاء الذي يحلو وقت الفرح، وقت النشوة
والإنبهار، فيصير طعمه سلسا كماء عذبة. ثوان وتأخذني الكاميرا إلى المجلس
النيابي. ها هو يظهر كصرح وطني من جديد، تزينه الورود بألوان العلم
اللبناني وتطير في باحته البالونات البيضاء. في قاعته المهيبة يجلس
النواب الذين انتخبهم الشعب، لا مكان للخلاف السياسي هنا. الكل يجلس
بجانب الكل بغض النظر عن التكتلات السياسية، ينكبون على أوراق كثيفة بين
أيديهم، يتناقشون، يصوتون ويتخذون قرارت مصيرية. هذه الأوراق هي مشاريع
عديدة وكبيرة كل من النواب ساهم في إعدادها وها هم يتناقشون لإقرارها. ما
هي هذه المشاريع؟ الزواج المدني، فصل الدين عن السياسة، مكافحة الفساد،
دعم الجامعة والمدارس الرسمية، ايجاد حلول بيئية مناسبة لمشكلة الأوزون،
والأهم الإتفاق على استراتيجية للسلاح. مهلا، كاد أوزون رأسي أن يطير. هل
أنا في حلم أم في علم؟ أنزل إلى الشارع لأتأكد، تطير بي السيارة بسرعة،
اختفت الحفر عن الطرقات، الطرق ملساء كبشرة طفل صغير، ولا عجقة سير تأخذ
العاقل إلى الجنون، مع أن الساعة كادت أن تقارب الظهر وأنا مشغولة بنشوات
سياسية تهطل علي كالمطر، كخير وفير. ينظر إلي السائق باستهزاء، ألم تعرف
بعد؟ لقد وضعوا قوانين جديدة للحد من عجقة السير، وأصلحوا الطرقات،
ومنعوا الشاحنات ومن ثم بات هناك أنفاق ارضية للمواصلات كالمترو في بلاد
الغرب. آه، لحظة أحتاج إلى ثانية لالتقاط أنفاسي. هل أنا أليس في بلاد
العجائب أم مواطنة في بلد خرج من عجائبه الأزلية ليعود إلى طبيعية
البلدان بمعناها الحديث أو إلى وطن حقيقي؟
“كوكوكو” يزعق ديك منبه الهاتف. هذه المرة “عن جد”، أستفيق على مضض من
حلم جميل وأعود إلى العد: اليوم الـ23 بعد المئة، اليوم الـ24 بعد المئة،
مئتان، ثلاث مئات، أربع، خمس….. وما زال العد مستمراً.
المستقبل – الخميس 29 تشرين الأول 2009 – العدد 3467 –