الحداثة والتخلف جوهر مأزق المجتمعات الإسلامية والعامل الأساسي في تحديد حاضرها ومستقبلها فيما إذا كانت ستلحق بالمسيرة الإنسانية وتتجاوز أوضاعها المتخلفة أو تزداد تدهوراً وتهميشاً.
أهم معوقات حل هذه الإشكالية الفهم السائد للنصوص الدينية باعتبارها صالحة لكل زمان ومكان مما يوقف التطور عند حدود الأوضاع التي كانت سائدة في القرون الوسطى، فلا جديد تحت الشمس و”ما صلح للسلف يصلح للخلف” و”ما ترك السلف للخلف شيئاً”، مما يعني تقييداً لأية محاولة للبحث وإعمال العقل لمواكبة الظروف الجديدة المتغيرة لمصلحة حياة أفضل للبشر.
هذه المجتمعات ليست متروكة لمصير عفوي فعوامل وقوى عديدة تتدخل إما لدفعها للنكوص للخلف بالاعتماد على نصوص جامدة، أو تسريع تطورها للأمام حسب أحدث المفاهيم وأساليب الحياة الإنسانية المتقدمة. ويدفع بالاتجاه الأول الإسلام السياسي ومفكرين إسلاميين ورجال دين يرون أن “الإسلام هو الحل” لكافة مشكلات المجتمعات الراهنة بالعودة للنصوص وتطبيقها بحذافيرها لتصنع المعجزات كما فعلت في سنين الدعوة الأولى، غير مكتفين بمنع التغيير بل ساعين لإزالة كل ما لحق بالمجتمعات القائمة من تطور جزئي.
ويدفع في الاتجاه الآخر مجموعة من المثقفين وقوى سياسية تعمل تحت لافتة “الإصلاح الديني” منذ محاولات الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وآخرين في القرن التاسع عشر، إلى طه حسين وعلي عبد الرازق في القرن العشرين انتهاءً بصادق جلال العظم وحسن حنفي ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني وأحمد صبحي منصور ووفاء سلطان وجمال البنا وغيرهم.. ممن اعتبر كيفية فهم وتطبيق النصوص الدينية عاملاً مسئولاً عن التخلف ومعيقاً للتطور.
وإذا كان بينهم من يرى أن المشكلة في الدين نفسه، فالغالبية ترى أن هناك مشكلة في نصوص دينية وليس في الدين بشكل عام، فإلى جانب آيات روحية إيمانية وأخلاقية إنسانية صالحة لكل زمان ومكان هناك نصوص دينية تجيب عن قضايا اجتماعية ومدنية في أوقات نزولها، فهي مرتبطة بزمان ومكان معين ولا يمكن تطبيقها على مجتمعات في أزمان وأماكن أخرى. وقد لخص المفكر سعد الدين إبراهيم المسألة في أن “الإسلام كدين ليس المشكلة بل فهم وممارسة النصوص المقدسة في ظروف دنيوية متغيرة”.
كفر الإسلاميون المجددين والمجتهدين وهدروا دمائهم واعتبروا الإصلاح الديني هدماً للدين، بينما هو بالنتيجة النهائية تجاوزاً لجمود النصوص الفقهية القديمة وتخليصاً للدين من الشوائب التي علقت به خلال العصور المتعاقبة وإحياءه وملاءمته للعصر، وليس نقضاً لمفاهيمه حول الإيمان بخالق ولمبادئه الأخلاقية الداعية لخير الإنسان، مما يعطيه حيوية وقبول ضمن مجتمعات حديثة تعيش مفاهيم وأساليب حياة لم تعد تتناسب مع ما كان سائداً عند انطلاق الدعوة. وحتى لو كانت دعوة الحداثيين للإصلاح الديني غير مترافقة مع تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية فهي تهيأ البيئة لهذه التحولات وتواكبها لتوضيح الإشكالية ولإيجاد الحلول العقلانية المناسبة لها.
ومن المساهمين في هذه الجهود الكاتب “إحسان طالب” الذي سبق أن أصدر في العام الماضي كتابه “التشدد الديني والإسلام السياسي” وتلاه إصداره الجديد “العدل والنساء-إشكالية النص” * الذي تعرض فيه لأهم جوانب الإصلاح الديني، وهو تحرير المرأة –نصف المجتمع- من الهيمنة الذكورية المعتمدة لإدامتها على نصوص التراث في زمن أصبح فيه التمييز بين الجنسين أحد أهم علائم تخلف المجتمعات الإسلامية.
فالرجل حسب المفاهيم التراثية الدينية رمز لكمال العقل البشري وقوة الجسد، الحاكم والقاضي والمفتي والسيد المتصرف في حاضر ومستقبل المرأة، له حق الوصاية والولاية ليفعل ما يشاء وفق تصوره لحقوقه عليها وواجباتها تجاهه المكرسة في نصوص أهمها: “الرجال قوامون على النساء..” و”ليس الذكر كالأنثى..”، ويكاد الرجل يكون إلهاً بالنسبة للمرأة “فلو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها..” وغير ذلك..
أما النساء ففي مرتبة دنيا فهن “ناقصات عقل ودين..” و”أكثرهن حطب جهنم..”، ولهن نصف حظ الذكر من الإرث، وشهادتهن في المحاكم والعقود نصف شهادة الذكر. والمرأة لا يحق لها التصرف في مالها دون أخذ رأي زوجها، وهي لا تخرج من بيتها إلا بإذن منه. وهي مهما كبر عمرها لا يمكنها تزويج نفسها بغير موافقة وليها. كما أفتى عديدون بصحة عقد زواج بنت الثلاث سنوات، أما الدخول فيها فمحلل في التاسعة دون الحاجة لموافقتها، وحتى لو تم تزويجها لمن يكبرها بخمسين سنة فهي عندما تكبر وتعي لا يحق لها الاعتراض على زواجها الجائر الذي تم دون رغبتها..
المرأة ذات المرتبة الدونية هي لمتعة الرجل فالشرع يمكنه من حق تعدد الزوجات والتمتع بعدد لانهائي خارج الزواج فيما سمي زواج المتعة، وله حق شرعي على زوجته ألا تمنعه نفسها “ولو على ظهر جمل”، رغم أن إكراهها على الجماع دون رغبتها يعد اغتصاباً في المفاهيم المعاصرة. أما المرأة التي تمارس الجنس خارج الزواج فهي حسب الشرع زانية تستحق الرجم حتى الموت، وإذا كانت هناك دول لا تعاقبها بالقتل فيتولى أقربائها قتلها فيما يعرف بجرائم الشرف. كما أن أجواء التمييز ضد المرأة ومرتبتها الدنيا بالنسبة للرجل تمكن أحياناً كثيرة من حرمان الفتيات من التعليم والعمل بقرار من رب الأسرة الذكر، أو بقرار رسمي في الدول الدينية كما فعل الطالبان استناداً للشرع في مناطق سيطرتهم.
والمرأة عورة بكل وسائل التواصل الحسي في صورتها وصوتها ورائحتها، مما يشرع للحجاب لسترها ولمكوثها في البيت وعزلتها عن المجتمع منذ طفولتها حتى موتها. وإذا خرجت عن طاعة زوجها فالنصوص تعطيه حق تأديبها “واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن..” والعنف ضد المرأة في العالم يعد انحرافاً يستوجب العقاب، بينما هو محلل في المجتمعات الإسلامية بالاعتماد على النص.. ولا يعترف الإسلاميون بتهمة التمييز ضد المرأة فيستندوا للنص للرد “بأننا أكثر شعوب الأرض تعظيماً وتقديراً لها” وهو تجاهل وتغطية للظلم الفادح الذي تعانيه المرأة في الواقع المعاش.
رغم تركيزه على معالجة أحوال المرأة في المجتمعات المسلمة، فقد تعرض الكاتب لمسائل أخرى حيث النص الديني لم يعد صالحاً للعصر مثل “فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم..” وهو ما يفسر كأمر لقتل غير المسلمين في أية بقعة من العالم. كما تناول ما شرعه النص من أحكام حول الرق مع عدم تحريمه كلياً، ففي حال رفضت حكومات إسلامية الضغوط الدولية التي اضطرتها لتحريمه أواخر القرن الماضي، فلا يستبعد عودته بالاستناد للنص الذي سمح به مع محاولة تهذيبه.كما تطرق للحدود –العقوبات الإسلامية- من قطع رؤوس وأطراف وجلد ورجم، ولمسألة قديمة تتعلق بإخراج النصارى واليهود من جزيرة العرب بالاعتماد على أحاديث بأنه لا يجتمع فيها دينان، وبقي من آثارها حالياً منع المقيمين في السعودية من ديانات غير إسلامية من بناء معابدهم وممارسة شعائرهم. وحتى الآن لم تحسم مسألة الجزية، إذ يطالب الإسلام السياسي بتطبيقها بين وقت وآخر ولا يقبل بإلغائها نهائياً على أساس المواطنة المتساوية.
النص الإلهي “إنساني الفهم والتفسير، والمعول في فهمه وتحويله لواقع معاش هو الإنسان الدنيوي..” إذ يمكن إطلاق حق الاجتهاد والتأويل والتفسير لإعادة النظر في النصوص الدينية لملاءمتها للعصر بتبني قيم إنسانية عالمية توافقت عليها الحضارات. وفي حالة التناقضات العديدة التي تحفل بها النصوص ومنها مثلاً آيات متسامحة: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..” و”أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة..” مناقضة لآيات أخرى: “وقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون بدين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية وهم صاغرين..”. فإن الإسلام السياسي ينتقي منها ما يشاء ليستخدمه في تبرير سياساته الإرهابية.
يمكن تعطيل العمل بنصوص لم تعد صالحة ونزلت لحاجات مجتمعية في حينها، فقد عطل الصحابة الأوائل نصوصاً ورجحوا المقاصد الكلية للنصوص وقيمها الأخلاقية، ويذكر عادة تعطيل عمر بن الخطاب للعمل بحد السرقة وتعطيله لسهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة رغم النص الواضح بشأنيهما. فإذا عطل عمر النص في السنين الأولى للدعوة، فهل من المنطقي الإصرار بعد 14 قرناً على تطبيق نصوص أصبحت متعارضة مع المفاهيم الإنسانية المتوافق عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
وقف تنفيذ (تعطيل) النصوص المتشددة ليس أمراً مخالفاً لجوهر رسالة الدين لصالح نفاذ النصوص المتسامحة التي تحترم الآخر وحرية تفكيره وتعبيره وسلوكه وتقبل بالتعايش معه في ظل علاقات إنسانية واحترام متبادل. ويمكن وقف تنفيذ النصوص التي تميز بين الرجل والمرأة لصالح النصوص التي تأمر بالمودة والرحمة بينهما وتحض على العناية بالنساء والتعامل معهن برفق. ويمكن وقف تنفيذ النصوص التي تحض “على إطاعة أولي الأمر منكم..” المبررة للإذعان للأنظمة الاستبدادية، ووقف تنفيذ النصوص التي تدعو لفرض الشرع بالقوة أو نشره بالعنف الذي يبرر به الإسلاميون دعوتهم للجهاد في ما يدعونه “دول الكفر”، والتمسك بالنصوص التي تعتمد الإقناع والموعظة الحسنة، ووقف تنفيذ العمل بالحدود –العقوبات- التي وإن كانت منتشرة في الأزمنة القديمة فهي الآن مصنفة كأعمال همجية..
لن ترضي هذه الحلول الكثير من الإسلاميين، فمقاومة الحداثة والتطور مصلحة خاصة للإسلام السياسي ورجال دين، فالإصلاح الديني يعني تفكيك ما يدعونه من ترابط بين الدين والدولة مما يحرمهم من الوصول للسلطة من خلال استغلال المشاعر الدينية للقطاعات المتخلفة في المجتمع. فالتوصل لأهدافهم بإقامة دول دينية يعني تنصيب أنفسهم قادة لها واحتكار السلطة المطلقة فيها بصفتهم القيمين على الدين كما يجري حالياً في إيران.
الإصلاح الديني شرط ضروري لقيام نهضة جديدة لشعوب الدول الإسلامية وهو مع الإصلاح السياسي مترافقان ومتكاملان، إذ لا إصلاح سياسي دون إصلاح ديني والعكس صحيح.
* دار متري للطباعة والنشر –حمص- 2009
ahmarw6@gmail.com
* كاتب سوري
إشكالية الإصلاح الديني جورج كتن كاتب جدي جدا، ونحن كمثقفين تونسيين نتابع الشأن السوري باهتمام -لتطابق تجربة النموذجين الأمنيين (السوري والتونسي)- من خلال الثقة بكتابات جورج كتن ، لكنا فوجئنا اليوم بالحديث من قبل هذا الباحث الرصين (كتن) الموثق والجدي عن كتاب لكاتب سوري اسمه (إحسان طالب )، لأول مرة نسمع باسمه، يتصل بموضوع الاصلاح الديني ونقد الفكر الأصولي، فاستغربنا لماذا الصمت عن تجربة سورية كبرى أثارت في العشر سنوات الأخيرة اهتماما واسعا- عندنا في لأوساط التونسية- وهي أعمال كاتب سوري نشرت أعماله رابطة العقلانيين العرب عن (نقد العقل الفقهي -سدنة هياكل الوهم )،المنشورة عن دار الطليعة للبنانية العريقة …… قراءة المزيد ..