كتب رئيس تحرير صحيفة ” الرياض ” السعودية الأستاذ تركي عبدالله السديري، وبعد زيارة العاهل السعودي لسوريا، مقالابعنوان “لماذا لا يعود لبنان الى سوريا؟”، أثار امتعاضا كبيرا من قبل كتاب ومثقفين لبنانيين، مما حدا برئيس التحرير المذكور الى اصدار توضيحين متتاليين. في الأول
“بدلاً من ان يُكحِّلها عماها” على حد تعبير المثل الشعبي، وحسب الكاتب في صحيفة ” النهار” الأستاذ سركيس نعوم. وفي المجمل، “أبعد من كونه هفوة” حسب عنوان معبر للكاتب زياد ماجد، حيث اعتبر الموضوع في نهاية المقال ” تخبّط سياسي وثقافي يصيب الكثيرين في المنطقة. وهو تخبّط لم تؤدّ الأزمات والأهوال حتى الآن الى تهدئة روعه، كما لا يبدو أنه سائر نحو السكينة أو الاندثار”.
مما لاشك فيه، أن ما أثاره رئيس تحرير صحيفة “الرياض”، نظرا لموقعه المهم وقربه من العائلة المالكة، حسبما جاء به مقال الأستاذ سركيس نعوم “هل يُوَكّل الهر بالجبنة؟” المشار اليه، وبغض النظر عن سطوره الظاهره، الا أن المصيبة في احتواء ليس المقال، انما العقل المصدّر لذلك المقال – وهو عقل بات للأسف جمعي – لتلك الأساطير المضلّلة، حول العروبة والوحدة و”سايكس بيكو” والمؤامرة، التي مزقتنا وفتتتنا الى دول متناقضة متناثرة. وانخداع ذلك العقل بمفهموم الحكم القوي، حيث يصل أصحاب تلك “الأساطير المضلّلة”، وعلى الغالب بنوايا حسنة، الى التطابق التام مع الاستبداد.
بعيدا عن “خصوصية” ردود الكتّاب والمثقفين اللبنانيين والزوايا التي أثارت ردودهم، يجب توسعة مجال الردود على مقال السديري. والغرض هو احاطة من جهة، وتفنيد ما جاء في المقال موضوع السجال، وربما – من جهتي – الرد على تهافت جملة محورية انبنى عليها ذلك الوهم المصرح عنه في ذلك المقال، حيث يقول الأستاذ السديري: “في سوريا حكم قوي قادر على اذابة تعدد الحكومات داخله”.
للأسف، نسمع أن “الحكم في سوريا قوي”، جملة تتردد كثيرا، والقوة هنا لا تُحيل الا تقدم، لا اقتصادي، ولا ثقافي، ولا اجتماعي، وأغلبنا يعرف أين تقبع سوريا في مؤشرات التنمية. والسديري أكثر من غيره يعرف تقييم سوريا، ان على مستوى الحرية الاقتصادية أو نوعية القوانين الناظمة وسيادة القانون، حيث الفساد هو “المؤسسة” الوحيدة القوية. أما على مستوى الحريات السياسية، فالسجون أكلت سنوات سنوات من خيرة أبناء سوريا. و على مستوى الحريات الصحفية، فسوريا تقبع بين الدول العربية في ذيل القائمة. ولمن يريد الاستزادة، عليه أن يعود الى تقارير التنمية البشرية الصادرة في كل تلك المجالات ومجالات أخرى ، ليعرف موقع سوريا، التي باتت تتذيل للأسف كل قوائم التقييم والتصنيف.
اذن، “الحكم القوي” طالما لا يُحيل الى مؤشرات حقيقية تقيس وتبين سلامة البلد، أي بلد، فحكما يحيل الى التسلط والقمع والارهاب والمعتقلات. بناء على ذلك، نعم في سوريا حكم قوي يمسكها – أي سوريا – من تلابيبيها ويضع “المواطن” السوري في صراع مستمر وأزمات بنيوية تكاد تنهي الأخضر واليابس.
“… اذابة تعدد الحكومات داخله” الشطر الثاني من جملة السديري. لكن لم يبين لنا الأستاذ رئيس التحرير معنى “الاذابة” هنا، وكيف يفهم الاذابة؟!
كل الأمنيات أن لا يتطابق فهم السديري للاذابة مع مفهمومها لدى الحكم السوري الموصوف بالقوي.
في حوار مع صديق لبناني حول لبنان وهمومه ومشاكله، عن طوائفه وزعاماته، عن ارتهان نخبه السياسية للخارج أبدى ذلك الصديق تفاؤلا بالمستقبل، حيث الايجابي في كل ما يعتمل في لبنان هو على الطاولة، حيث كل القيح ينزّ الى الخارج. صحيح أن تشوهات كثيرة استوطنت الجسد اللبناني، الا أن الجيد أيضا، أن الاحتقانات تُنفَس ولا تستوطن الجسد، وهذا مساعد لتجنب انفجارات كبيرة، وعلم النفس يضيئ جيدا في هذا المجال . أما لديكم في سوريا ، خاطبني الصديق اللبناني، فتحت السطح ، تحت الجلد، تمور أشياء كثيرة، قد يتأخر الانفجار، لكن بدون حلول حقيقية، بدون وضع كل الملفات فوق الطاولة، فالانفجار قادم لا محالة، ولن ينفع وقتذاك كل الصهر والاذابة التي مارسها الاستبداد لتنميط السوريين وتدجينهم.
الناظر الى سوريا من الخارج، من يجهل فسيفساءها، من يجهل كمّ الفساد فيها، من لا يعرف سطوة القبضة الأمنية المتحكمة بها، من لا يعرف كيف يزحف الفقر على أغلب شرائحها، ويستعيض عن هذه المعرفة بالشعارات التي يصدّرها النظام حول الوحدة الوطنية والعروبة والقومية ويظلّ الى جانب ذلك أسير اساطيره حول دولة عربية واحدة لم تكن موجودة في أي يوم من الأيام، وما الى ذلك من مقولات استرخينا في أسرها ، من هوواقع تحت ذلك، ومن يفعل ذلك، يتحالف مع الجلاد ضد الضحية، يغدو حليفا موضوعيا للاستبداد ويفرط حتى بأحلامه المزعومة.
ahmadtayar90@hotmail.com