وصول أكثر من 3000 عنصر من عناصر قوات المارينز الأمريكية إلى الفلبين مؤخرا تحت غطاء تقديم المساعدات الإنسانية لضحايا أسوأ فيضانات ضربت هذه البلاد منذ 42 عاما، أثارت مخاوف قوى سياسية كثيرة داخل الفلبين وخارجها من احتمالات أن يكون للأمر علاقة بخطة أمريكية لنشر تلك القوات لاحقا في أقاليم فلبينية مضطربة مثل جزر سولو التي تشهد حربا أهلية ما بين قوات الحكومة والعناصر الانفصالية الإسلامية المتشددة، بل التي شهدت عاصمتها “خولو” في 14 سبتمبر الماضي محاولة فاشلة لقتل جنود أمريكيين كانوا يفرغون شاحنة من حمولتها، ثم شهدت في 29 من الشهر ذاته مقتل عسكريين أمريكيين مع عدد آخر من نظرائهم الفلبينيين من جراء مرور سيارتهم فوق لغم مزروع، وهي العملية التي نسبت – بسبب أسلوبها ومكان وقوعها – إلى جماعة “أبوسياف” المدرجة أمريكيا وأوروبيا في قائمة المنظمات الإرهابية ذات العلاقة بتنظيم القاعدة المجرم، لاسيما وأن تقارير مخابراتية أفادت بحصول الجماعة في الأشهر الأخيرة على كمية كبيرة من المتفجرات المهربة من اندونيسيا على يد بعض الفارين من هناك. وكان مقتل الجنديين الأمريكيين هي الحادثة الثانية من نوعها منذ عام 2002 التي شهد تفجير دراجة نارية قرب مطعم في مدينة “زيمباوانغا” كان يرتاده احد الجنود الأمريكيين، فلقي الجندي مصرعه.
وبطبيعة الحال، فان عدد القوات الجديدة يبلغ خمس أضعاف القوات الأمريكية المرابطة أصلا في الفلبين بموجب الاتفاقية الثنائية التي وقعت في عام 1998 بعد إغلاق مانيلا لقاعدتي سوبك وكلارك الضخمتين في عام 1991 و اللتين تحولتا فجأة من أجمل الأماكن في الباسفيكي لجهة المناظر الخلابة المحيطة بها والتجهيزات الراقية ووسائل الترفيه المبتكرة الموجودة فيها إلى حطام وخراب على اليد الغوغاء واللصوص والمراهقين. ويذكر أن واشنطون – على الرغم من صعوبة أوضاعها الاقتصادية بعيد الحرب الكونية الثانية – استثمرت الكثير في هاتين القاعدتين لضرورات استراتيجية، فأنفقت ملايين الدولارات على استصلاح الأراضي المحيطة بهما وتشييد الضواحي الجديدة ومدها بكل مستلزمات المعيشة والترفيه، حتى غدت سوبك صالحة لرسو وإصلاح السفن الحربية العملاقة، وغدت كلارك مهيأة لهبوط وإقلاع الطائرات الضخمة، فيما غدت المنطقة بأكملها “أكبر سوبر ماركت في العالم” على حد وصف أحد المعلقين.
وهذه الاتفاقية الثنائية صار إعادة التفاوض حول بنودها مطلبا اليوم عند بعض القوى المحلية ذات الميول القومية المتشددة، رغم أنها تتعلق بإجراء تمارين وتدريبات مشتركة وتبادل الزيارات والخبرات العسكرية، مع تقييد حرية الأمريكيين في القيام بأنشطة عسكرية على الأرض الفلبينية، وحصر مهامهم في تقديم المساعدات اللوجستية والمعلومات الاستخباراتية من اجل مساعدة قوات الحكومة في عملياتها ضد الإرهابيين والانفصاليين.
ويمكن القول إن ما أثار البعض تحديدا هو تجاوز مانيلا لبنود تلك الاتفاقية وسماحها بمرابطة نحو 600 جندي أمريكي في البلاد، جلهم الأعظم متواجدون في جزيرة “ماندناو” الجنوبية. فمثلا طالبت السيناتورة الفلبينية المشاغبة “مريم سانتياغو” رئيسة الجمهورية “غلوريا ماكاباغال أرويو” بالإجابة عن سؤال محدد هو: ماذا يفعل الأمريكيون في أقاليم تدور فيها رحى المعارك ومزروعة بالألغام؟”. ثم أردفت سؤالها بالاستفسار عن توقيت وصول المارينز وعما إذا كان ذلك ردة فعل من واشنطون على حادثتي سبتمبر المشار اليهما.
أما أحزاب المعارضة الفلبينية ورموزها فلها رأي آخر مفاده أن حكومة الرئيسة أرويو هي التي تقف وراء تفاقم الأوضاع في جنوب البلاد وغيره من المناطق – بما فيها مقتل الجنديين الأمريكيين – وذلك من أجل إيجاد مبرر مقنع لفرض الأحكام العرفية، وبالتالي تأجيل الاستحقاقات الرئاسية المقررة نهاية هذا العام، أي مع انتهاء ولاية السيدة أرويو التي لن تتمكن – بنص الدستور – من الترشح لولاية ثانية. من جهة أخرى حذر بعض قوى المعارضة من ظروف يقتل فيها الجندي الأمريكي مواطنين فلبينيين بحجة الدفاع عن النفس.
دحضا لهذه المزاعم وغيرها اضطر مسئولو وزارة الدفاع للرد بالقول “إننا يجب أن نعرب عن شكرنا للأمريكيين لمسارعتهم بتقديم المساعدات العاجلة بدلا من التهجم عليهم، مذكرين الجميع بأن تلك المساعدات تشمل قيام قوات المارينز ببناء مساكن جديدة لمن شردتهم الفيضانات، وجلب آلات غير متوفرة في البلاد من القواعد الأمريكية في اليابان لتنظيف وإعادة تشغيل شبكة مترو مانيلا الحيوي. وكان اللافت للنظر في هذا السياق موقف السيناتور (الجنرال سابقا) خوان بونسيه انريلي، أحد القادة العسكريين الذين لعبوا دورا حاسما في إسقاط نظام الديكتاتور ماركوس. فهذا الذي عرف عنه انتقاداته المريرة لنظام السيدة أرويو وسياساتها صرح بأنه يجب الاعتراف “بأننا بلد ضعيف وبالتالي بحاجة ماسة دوما إلى مساعدة الحليف الأمريكي”. أما رد مسئولي وزارة الدفاع على من أتهم حكومة أرويو بالوقوف خلف تفاقم الأوضاع الأمنية لأغراض البقاء في السلطة مدة أطول، فقد تضمن إشارات إلى ارتباط تزايد أعمال العنف والتفجير في جنوب البلاد وفي العاصمة مانيلا بهروب متشددين اندونيسيين من أنصار ما يسمى بالجماعة الإسلامية ولجوئهم إلى جزر الفلبين الجنوبية المتناثرة المحاذية لسواحل الأرخبيل الاندونيسي، وقيامهم بوضع خبراتهم الحربية والقتالية في متناول الانفصاليين من متشددي الجنوب الفليبيني، وذلك بعدما ضيق الجيش الاندونيسي مؤخرا الخناق عليهم وقتل زعيمهم الأكبر “نورالدين محمد توب” ومن قبله الإرهابي الماليزي الأصل “أزهري حسين”.
وإذا ما عدنا لموضوع التواجد العسكري الأمريكي في الفلبين، نجد أنه كان على مر عقود من الزمن المحور الرئيسي في العلاقات الأمريكية – الفلبينية، بل كان نقطة الارتكاز في استراتيجيات واشنطون في المحيط الهادي، ولا سيما زمن الحرب الباردة. وقد بدأ هذا التواجد منذ عام 1947 حينما وقع البلدان اتفاقية مدتها 99 عاما، منحت مانيلا بموجبها واشنطون حق استخدام 16 قاعدة عسكرية فوق الأرض الفلبينية، إضافة إلى 7 قواعد أخرى إذا ما دعت الضرورات العسكرية ذلك. ومن بنود الاتفاقية الأخرى، التزام مانيلا بالدخول مجددا في مفاوضات مع واشنطون إذا ما استدعت الظروف الأمنية والعسكرية زيادة أو تقليص عدد القواعد أو تغيير أماكنها وطبيعتها، الأمر الذي أثار تساؤلات من قبل بعض نواب الشعب في بدايات الخمسينات حول مدى خرق الاتفاقية لسيادة البلاد على نحو ما فعله السيناتور “كارلو ريكتو” في عام 1951. وقتذاك اقترنت تلك التساؤلات بتساؤلات أخرى حول ما تجنيه الفلبين من فوائد من الاتفاقية خصوصا وأنها كانت في البدء من دون مقابل مادي.
وفي محاولة لامتصاص تلك الاعتراضات ووضع حد للتساؤلات، قرر البلدان تنقيح بعض مواد اتفاقية عام 1947. وهكذا اتفق الرئيس الفلبيني الأسبق “راموس ماغاسايساي” مع نائب الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” في عام 1956 في بيان مشترك على تأكيد سيادة الفلبين على كامل أراضيها، و تقييد حرية واشنطون في بناء قواعد صاروخية بعيدة المدى فوق الأرض الفلبينية، وضرورة تشاور الأمريكيين مع نظرائهم الفلبينيين قبل استخدام القواعد في عمليات حربية فيما عدا العمليات التي تتم في نطاق معاهدة الأمن الجماعي لمنطقة جنوب شرق آسيا لعام 1954. إلى ذلك تم الاتفاق على تقليص مدة اتفاقية 1947 من 99 عاما إلى 25 عاما فقط، وتقليص عدد القواعد من 23 إلى مجرد أربع قواعد، كان أشهرها وأكبرها، قاعدة سوبك البحرية وقاعدة كلارك الجوية. أما موضوع بدل الإيجار فقد تأجل إلى السبعينات، حينما وافقت واشنطون على دفع إيجار في صورة مساعدات عسكرية بدأت متواضعة ثم تزايدت تدريجيا. ويمكن القول أن أحد أسباب امتعاض الفلبينيين من وجود القواعد الأمريكية فوق أراضيهم، وبالتالي ضغطهم على حكومة السيدة “كورازون أكينو” لإغلاقها بمجرد انتصار ثورة “قوة الشعب” في عام 1986، على نظام فرديناند ماركوس الديكتاتوري المدعوم من واشنطون هو شعورهم بالغبن لجهة ما كان يتلقاه بلدهم من تعويضات أو مساعدات أمريكية مقابل استخدام القواعد العسكرية، مقارنة بالبلدان الأخرى. فجل ما كان الفلبينيون يتلقونه حتى أوائل السبعينات هو 50 مليون دولار سنويا (ارتفع في أواخر السبعينات إلى 500 مليون دولار)، فيما كان المبلغ في حالتي تايلاند وكوريا الجنوبية هو 400 و600 مليون دولار على التوالي، وفي حالة أسبانيا 1.2 بليون على مدى 5 سنوات، وفي حالة تركيا بليون دولار على مدى 4 سنوات، وفي حالة اليونان 700 مليون دولار سنويا.
وجملة القول أن تجارب الماضي تجعل واشنطون حساسة جدا لجهة استخدام الأرض الفلبينية علنا لأنشطتها العسكرية ضد أعدائها، وبالتالي فهي تحاول إيجاد وسائل وطرق لا تثير الزوابع. ولعل من نافلة القول الإشارة هنا إلى أن واشنطون، بعد ما أثاره الفلبينييون من اعتراضات وتساؤلات، حول اتفاقيتي قاعدتي سوبك وكلارك، حتى بعد ما ادخل عليهما من تعديلات مناسبة جعلت منهما خاضعتين للقوانين المحلية و وفرت للعاملين فيهما من المواطنين الفلبينيين حقوقا و أوضاعا اجتماعية جيدة، حرصت على ألا تستخدم تلك القواعد في العمليات القتالية أثناء الحرب الفيتنامية، مستعيضة عنها بقواعدها في جزيرة “غوام”، بمعنى أنها استخدمت قاعدتي سوبك وكلارك وغيرهما في أغراض الدعم اللوجستية فقط.
*باحث ومحاضر في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh