التصريحات التي يطلقها بعض الإسلاميين في الكويت والتي تقول بأن الحجاب فرضٌ بإجماع المذاهب الإسلامية، وأنه لايجوز اعتباره من حقوق الحرية الشخصية التي يخيّر فيها الإنسان، هي تصريحات تصطدم بمواد أساسية في الدستور الكويتي، وتتعارض مع مبدأ الحرية الفردية التي تستند إليها الديموقراطية، لكنها تتماشى مع الرؤية الدينية التاريخية للوصاية على المجتمع والسيطرة على شؤون أفراده الشخصية. فالحجاب، حتى وإن قبلنا بأنه فرضٌ بإجماع المذاهب، إلا أن تطبيقه بهذه الصورة المتزمتة والإكراهية يتعارض مع أسس الحرية الشخصية التي تلف الثقافة الإنسانية في الوقت الراهن. فلغة الخطاب الديني يجب ألا تكون إكراهية، رغم أنها كانت كذلك حينما جاءت في سياقها التاريخي. وإذا ما استمرت إكراهية فلن تلقى رواجا في مكونات ثقافة هذا العصر. كما أن خطابها الذكوري الأبوي لاتستسيغه الثقافة الديموقراطية وأسسها التي منها الحرية الشخصية واحترام حقوق الإنسان. والدعوة لاحترام حقوق الإنسان لا تتم من خلال فرض التفسير الديني التاريخي على واقعنا الراهن وإجبار المرأة على ارتداء الحجاب، بل تتم من خلال عدم فرض مزيد من الوصاية الذكورية الدينية التاريخية على المرأة عن طريق أعداء المرأة وأعداء الديموقراطية والحرية والمساواة الذين يخططون لفرض أجندة أصولية دينية متشددة تحث على الكراهية والتمييز في مجتمعنا.
إن الفهم التاريخي الضيق لحقوق المرأة والقائل بأن الدين الإسلامي يطرح مشروعا متكاملا حول حياتها، لن يكون إلا سدا أمام مساعي تحريرها من الوصاية التاريخية. وهذا الطرح لا يعني التقليل من أهمية تاريخية الخطاب الديني حينما كان يمثّل صورة المجتمع بثقافته واجتماعه، بل الهدف من مواجهة هذا الفهم هو التعامل بإيجابية وواقعية مع الراهن الحديث، بمفاهيمه ونظرياته وعلومه.
فإجبار النائبة (ومن بعدها المرأة وفي مختلف مرافق المجتمع) على ارتداء الحجاب، كما في السعودية وإيران، هو صورة من صور الظلم ضد المرأة، الظلم المتكئ على التفسير الديني التاريخي، وهو أحد تجليات الوصاية الذكورية الدينية ومشهد من مشاهد سجن النساء في المجتمعات العربية والمسلمة. فالمرأة حرة تماما مثل الرجل، ذات إرادة ومسؤولية، ولا وصاية لأحد عليها، فيما الخطاب الديني يسير في الضد من تلك الحرية ويسعى للسيطرة على مختلف جوانب حياتها، فحتى في لباسها يريد أن يحدد لها نوع ذلك، ويتحجج في موقفه هذا تارة بالفقه التاريخي الذي عفا عليه الزمن، وتارة بمبررات “المجتمع المحافظ” و”العادات والتقاليد”. لقد آن الأوان أن تقرر المرأة العربية والمسلمة مصيرها في جميع شؤون الحياة بدلا من أن ترضى بأن يقرر الرجل وثقافته الذكورية الأبوية والنص الديني التاريخي ذلك. فأخطر ما يهدد كيان المرأة وشؤونها، ومن ثم حياتها بشكل عام، هي الثقافة التي تريدها أن تكون متبوعة غير متحررة.
فالخطاب الديني التاريخي تبدّل من معين لبناء الحاضر إلى منهج يدعو للعودة إلى الماضي لبناء مجتمع تاريخي بسمات حداثية شكلية مخادعة. وهو يستفيد من وسائل الحداثة لكنه، وللأسف، يحذف معظم مفاهيمها ومضامينها التي شكلت القاعدة الرئيسية لولادة تلك الوسائل. فهدف منظري الخطاب الديني التاريخي هو الوقوف ضد جهود بناء مجتمعات حديثة حرة ديموقراطية، في الشكل وفي المضمون، وهم يبرّرون موقفهم على أساس أن المشروع الحداثي يناهض في نظرياته ومفاهيمه وسلوكه مشروعهم التاريخي وفهمهم التقليدي الضيّق عن الدين والإنسان والمرأة. هم يرون في مشروعهم أنه صالح لكل زمان ومكان، ويزعمون بأنه قادر على أن يجيب على جميع أسئلة الحياة الراهنة، كسؤال حقوق الإنسان، وسؤال حقوق المرأة، على الرغم من أن تلك الإجابات ليست سوى إجابات تاريخية لموضوعات حديثة. ومعروف أن معظم الآراء المنتمية إلى الخطاب الديني تعارض، من خلال سند نصي وفهم تاريخي، حقوق المرأة وحرياتها، كالحقوق السياسية والحريات الاجتماعية التي هي جزء لا يتجزأ من حقوق الإنسان. وتعتقد تلك الآراء بأنه لابد أن تنتمي حقوق المرأة الحديثة إلى النظرة الاجتماعية التاريخية للدين. وفيما أيد فقهاء حقوق المرأة السياسية، فإنهم لم يؤيدوها انطلاقا من النظرة الحقوقية والاجتماعية الحديثة، إنما انطلاقا من تفسير للسند النصّي التاريخي.
إن خوض المرأة الكويتية غمار المعركة السياسية حتى حصولها على حقوقها السياسية هو جزء من معادلة تغيير الواقع الذكوري في المجتمع. غير أنه لابد للقوى الداعية إلى تحرير المرأة من أسر الثقافة الأبوية والتي تدعم مبدأ المساواة بين الجنسين، أن تؤثر في الواقع الاجتماعي الذكوري بغية تغييره. لكن ذلك لم يحدث لا من قِبل أنشطة المرأة ولا من قِبل تلك القوى. ومن يتحدث عن أنشطة تغييرية سوف يشير إلى جهد متواضع لا يستطيع من خلاله أن يجاري حجم المشكلة وتبعاتها المؤثرة على استمرار ذكورية المجتمع.
إن الصفات المؤسسة لـ”إيديولوجيا الذكر” هي التي يجب أن يصار إلى تغييرها في المجتمع، لكن ذلك للأسف لم يحصل لأسباب عديدة، أهمها أن هناك سعيا للقفز على عوامل التغيير باتجاه تحقيق هدف ثانوي هو وصول المرأة للبرلمان من دون تحديد الهدف الرئيسي، وهو المساواة بين الجنسين على أساس الحقوق والواجبات. هذا الهدف الرئيسي هو مدخل لحصول المرأة ليس على حقوقها السياسية فحسب بل على حقوقها وحرياتها العامة من فردية وسياسية واجتماعية وغيرها. لذا تقع معركة تحرير المرأة وحصولها على حق المساواة على عاتق الرجل والمرأة معا، لأنها حقوق إنسانية. فإذا ما كان أحدهما، أي المرأة، حريص على تلك الحقوق والآخر، أي الرجل، غير مبال إلا بمصالحه الذكورية، فإن وعيا حقوقيا زائفا سيتشكل. فالحقوق السياسية للمرأة لم تكن تمثل ضمانا لتحرير المرأة من أسر الثقافة الذكورية التي تسعى لتكون وصية على شؤون المرأة بجميع مفرداتها وخصوصياتها وكأنها إنسان من الدرجة الثانية غير قادر على تحديد مصالحه، ما يمثل تمييزا يمارس ضد كائن بشري بآليات ديموقراطية، وهنا تكمن المعضلة. فالديموقراطية جاءت من أجل تحقيق العدالة والمساواة لا من أجل ممارسة التمييز بين البشر، وهو ما يسعى إليه نواب مجلس الأمة المتأسلمون من خلال فرضهم الحجاب ثم الثقافة الذكورية على النائبة ومن ثم على نساء المجتمع. إن الخطاب الديني يرفع شعار الدفاع عن المرأة لا شعار حصول المرأة على حقوقها الفطرية، لأن الشعار الأخير يتناقض مع موروثه الثقافي الاجتماعي الديني التاريخي. ومن أبجديات تغيير النظرة الوصائية الدينية التاريخية، السعي إلى خلق رؤية دينية جديدة تتواكب مع تغيرات الحياة لتضمن “أنسنة” التفسير. فبسبب غياب المحور الإنساني في التفسير الديني، باتت المرأة أحد ضحاياه الرئيسيين بالنسبة لموضوع حقوق الإنسان.
إن ارتداء المرأة للحجاب لا علاقة له بذات الدين ولا يمكن له أن يؤثر في المسار الإيماني للإنسان في علاقته بربه، كما أن الحجاب له صلة بالعادات والتقاليد المرتبطة بمفهوم الحشمة وتفسيره التاريخي الذي كان سائدا في المجتمع العربي آنذاك (إن لم نقل إنه ارتبط فحسب بنساء النبي)، مثلما ارتبطت أمور اجتماعية أخرى بذلك المجتمع، كمسألة اللباس الإسلامي للرجل ووضع اللحية وغيرها، وهي أمور ارتبطت بالعادات والتقاليد، حيث نزلت النصوص الدينية لتتوافق مع المتطلبات الاجتماعية لذلك المجتمع، ومن غير المنطقي أن تكون العادات والتقاليد صالحة لكل زمان ومكان، وبالتالي من غير الطبيعي أيضا أن تكون الأحكام الدينية الاجتماعية “واجبة” على كل مسلم ومسلمة في جميع الأزمنة والأمكنة. من هذا المنطلق فإن الحجاب لايرتبط لا من قريب ولا من بعيد بذات الدين، كما أن عدم ارتداءه لا يشكل خروجا على مفهوم الحشمة وفق تفسيره الراهن. فلبس الحجاب أو عدمه لا صله له بتشكيل العلاقة الإيمانية، بل له صلة بالعرضيات التي تأسس في ظلها الدين، وقد أشار إلى ذلك خطاب القرآن وخطاب نبي الإسلام بوصفه ضرورة اجتماعية لا بوصفه ضرورة إيمانية.
إن الخطاب الديني التاريخي يعتقد بأن الإسلام هو “دين ودنيا” وصالح بذاتياته وعرضياته (وليس فقط بذاتياته) لكل زمان ومكان، ويعتقد بأن كل ما جاء في القرآن، وإن كان من عرضيات الدين، ومن ضمنها مسألة الحجاب، لابد من تطبيقه في الماضي والحاضر والمستقبل، ضاربا بعرض الحائط اختلاف الظروف الاجتماعية وتطور حياة الإنسان وتجددها وتغيّر العادات والتقاليد وتبدل النظرة إلى الكثير من الأمور الاجتماعية ومنها ما يتعلق بمفهوم الحشمة. ورغم أن الخطاب الديني التاريخي يعتبر الحجاب من الأحكام الاجتماعية، غير أنه لا يستطيع الإجابة على السؤال التالي: لماذا لم تغط الأحكام الاجتماعية العرضية التي جاءت مع نزول القرآن الكريم جميع مناحي الحياة على مر التاريخ؟ ولماذا اختفت بعض تلك الأحكام مع مرور الزمن وتغير ظروف الحياة وتطورها وبات الواقع الاجتماعي لا يقبل استمرارها في الحياة؟
إن تجربة بعض المجتمعات مع فرض الحجاب (إيران والسعودية نموذجان هنا) أثبتت أنها لم تكن عاملا في حفظ كرامة المرأة، بل كانت سببا في إهانة المرأة وفرض الوصاية الذكورية عليها. في المقابل نجد أن الحرية واحترام حقوق الإنسان كانا سببين رئيسيين في إعطاء المرأة كرامتها وإنسانيتها. وإن كانتا قد تسببتا في بعض السلبيات، فإنها لم تخص المرأة فحسب وإنما الإنسان بشكل عام، فكل الحضارات جلبت السلبيات والإيجابيات للبشر، لكن من دون شك فإن الحضارة العلمانية الليبرالية الراهنة فاقت كل الحضارات التي سبقتها في جلب الكرامة والإنسانية للرجل والمرأة معا. في حين شابت الحضارات الغابرة، بما فيها الحضارة الإسلامية، نقصا كبيرا في هذا المجال. إذن، لا علاقة للكرامة والإنسانية بارتداء الحجاب، وإنما أفضى “فرض” الحجاب على المرأة، الذي عادة ما يرافقه انعدام في الحريات الأساسية للإنسان وعدم احترام حقوقه الفردية، إلى مزيد من الإكراه ضد المرأة، وأدى ذلك إلى انتهاكات فاضحة ضد إرادتها وحقوقها الشخصية.
كاتب كويتي
ssultann@hotmail.com