في 10 أيلول/سبتمبر، وبعد ثلاثة وسبعين يوماً من محاولته تشكيل حكومة، أعلن رئيس وزراء لبنان المعين، سعد الحريري، استقالته من هذا المنصب. وعلى الرغم من أن تحالف «14 آذار» الموالي للغرب بزعامة الحريري قد حصل على الأغلبية البرلمانية في انتخابات يونيو/حزيران المنصرم – التي تمنحه الحق في الحكم — فقد رفضت الأقلية التي يتزعمها حزب الله، قبول قائمة الوزراء التي عرضها الحريري على الرئيس ميشال سليمان. والآن بعد أن أعاد تحالف «14 آذار» انتخاب الحريري كمرشحه لمنصب رئيس الوزراء، [يبدو] أن الساحة مهيأة لمواجهة أخرى مع حزب الله وحلفائه. وفيما تتباطأ هذه العملية، تتصلب مواقف حزب الله وتحالف «14 آذار» على حد سواء. وفي الوقت نفسه، تلمح سوريا، عن طريق صحافتها التي يسيطر عليها النظام، إلى العودة إلى العنف في بيروت. واليوم، في الذكرى السنوية التاسعة عشرة لـ “اتفاق الطائف” الذي أنهى الحرب الأهلية، يقف لبنان مرة أخرى على شفير الهاوية.
الخلفية
بعد حصول تحالف «14 آذار» على أغلبية — 71 مقعداً من أصل 120 مقعداً في مجلس النواب – في الانتخابات التي جرت في 7 حزيران/يونيو المنصرم، كلف الرئيس ميشال سليمان، زعيم تحالف «14 آذار» سعد الحريري بتشكيل حكومة لبنانية جديدة. وقد اجتمع الحريري طوال فترة الصيف، بصورة مستمرة مع شركائه فى تحالف «14 آذار» ومع زعماء المعارضة من حزب الله وحركة أمل وميشال عون والتيار الوطني الحر، للعمل على إيجاد صيغة مقبولة لتشكيل حكومة وحدة وطنية. لقد كانت المفاوضات معقدة للغاية. فلم يكتف الحريري برغبته في استرضاء شركائه في تحالف «14 آذار»، لكنه كان ملتزم بأن يضمن عدم تحقيق تجمع قوى «8 آذار» بزعامة حزب الله، مطالبه بالحصول على “الثلث المعطل” — أي الثلث زائد واحد من مقاعد مجلس الوزراء — والذي سيوفر للمعارضة القدرة على إحباط المبادرات الرئيسية والحق في إسقاط الحكومة متى شاء. وقد ازدادت جهود الحريري تعقيداً في أعقاب الخطاب الذي ألقاه أحد قادة الائتلاف الحكومي، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، في 3 آب/أغسطس والذي قال فيه — فيما يبدو أنه تحول واضح — بأن تحالفه السياسي مع قوى «14 آذار» “لا يمكن أن يستمر”.
وفي محاولته لتشكيل حكومة لبنانية جديدة، اعتمد الحريري صيغة معينة — خمسة عشر مقعداً للأغلبية وعشرة مقاعد للمعارضة وخمسة مقاعد للرئيس — والتي، في ظاهرها، تجرد المعارضة من الثلث المعطل. وفي الوقت نفسه، أشار الحريري بأنه لن يسمح لأولئك الذين لم يحصلوا على مقاعد برلمانية في الانتخابات العامة بإشغال مناصب وزارية، وهو قرار كان يهدف منع وزير الاتصالات السابق جبران باسيل — صهر ميشال عون وعلى ما يبدو وريثه السياسي — من الإنضمام إلى مجلس الوزراء. وبالمثل، قام الحريري بنفسه بتعيين جميع وزراء المعارضة، بدلاً من تخصيص الحقائب الوزارية لأحزاب المعارضة، والسماح لها باختيار مرشحيها. وقد عرض الحريري حكومته على الرئيس سليمان في 7 أيلول/سبتمبر الحالي.
الرد السريع
في الوقت الذي قام فيه الحريري بعرض حكومته على الرئيس سليمان، أعلنت المعارضة رفضها للحكومة المقترحة، مدعية، بصورة مريبة، بأن قيام الحريري بتعيين وزراء من المعارضة هو غير دستوري. ومع ذلك، يبدو أن الموضوع الذي كان أكثر إزعاجاً لتحالف «8 آذار»، هو موقف الحريري المتمثل بأنه لا يحق سوى لأعضاء البرلمان إشغال مناصب وزارية في الحكومة التي سيشكلها. وقد ثارت ثائرة عون — الذي كان قد طالب بإعادة تعيين باسيل وزيراً للإتصالات السلكية واللاسلكية – بصورة خاصة بسبب إبعاد صهره، وهو شعور ردده نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، عندما قال في 10 أيلول/سبتمبر الحالي بأن الوزارات هي ليست “جوائز توزع وفقاً لنتائج الانتخابات البرلمانية”. من الواضح أن المسألة شخصية بالنسبة لعون. وعندما أشار البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير بأن تعيين مرشحين خاسرين كوزراء “يقف ضد الرأي الشعبي”، قام عون باتهام الكاردينال بأنه قد انضم إلى القوات اللبنانية – الحزب المسيحي الذي يتزعم تحالف «14 آذار».
وقد ردت سوريا، أيضاً، بصورة سريعة على استقالة الحريري. ففي 10 أيلول/سبتمبر، أفادت صحيفة “الوطن” اليومية التي يسيطر علها النظام بأن لبنان “قد دخلت فترة من عدم الاستقرار” حيث سيتم ملء “الفراغ السياسي” بـ “توترات أمنية”. وأضافت الصحيفة، التي يملكها ابن خال الرئيس السوري بشار الأسد، بأنه من المستبعد تشكيل حكومة جديدة قبل كانون الأول/ديسمبر هذا العام.
وحتى قبل استقالة الحريري، كانت إدارة أوباما تنتقد بشدة الجهود السورية لتقويض تشكيل الحكومة في بيروت. ففي مقابلة مع صحيفة “النهار” اللبنانية في آب/أغسطس، قال “مسؤول أمريكي كبير” — الذي يعتقد الكثيرون بأنه مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى جيفري فيلتمان — بأن “السوريين يخطؤون إذا كانوا يعتقدون بأن علاقاتهم معنا لن تتأثر بسبب ما يفعلونه في لبنان…. الرئيس أوباما يريد تحسين العلاقات مع سوريا، لكن سيكون من المستحيل [عمل ذلك] إذا استمرت سوريا – بمساعدة أصدقائها في لبنان – في شل المؤسسات الديمقراطية”.
وفي هذا السياق، لم يكن مفاجئاً أن يتم إطلاق صاروخين من نوع كاتيوشا على اسرائيل من لبنان في يوم 11 أيلول/سبتمبر، أي بعد يوم من استقالة الحريري. وقد زُعم بأن عملية الإطلاق جاءت من قبل منظمة غير معروفة حتى الآن تابعة لتنظيم «القاعدة». ويتكهن البعض، بأن ذلك الهجوم ارتكب على الأرجح، من قبل “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين — القيادة العامة” المدعومة من قبل سوريا.
التحرك إلى الأمام؟
إنه لأمر مشكوك فيه أن يكون من السهل على الحريري تشكيل حكومة بعد تعيينه للمرة الثانية. وكما قال نعيم قاسم لمستمعيه الذين اجتمعوا للإفطار (من المفارقات في مطعم يدعى “الخيال العالمي”) في 12 أيلول/سبتمبر، “إن الأسباب التي عقدت تشكيل هذه [الحكومة] هي نفسها التي سيواجهها رئيس الوزراء المعين من جديد”. ومع علمه بأنه سوف تعطى له فرصة أخرى، يبدو الآن واضحاً بأن استقالة الحريري مثلت مسرح سياسي محسوب، وهو نهج كان يهدف إلى الضغط على المعارضة لتقديم تنازلات. والآن، على الرغم من إبداء وليد جنبلاط معارضته للفكرة [المطروحة] بصورة علنية، يقوم الحريري بتصعيد مواجهته، مشيراً إلى أنه قد لا يشكل مجلس وزراء بناءاً على توزيع المقاعد المتفق عليها سابقاً أي 15-10-5.
ومع ذلك، لا يبدو بأن حزب الله وحلفاءه منزعجون. فلم ينحرف تجمع قوى «8 آذار» عن مطلبه بتشكيل “حكومة وحدة وطنية” التي من شأنها أن توفر للمعارضة تأثير حاسم على عملية اتخاذ القرارات. ولا تزال المعارضة واثقة بأنها تستطيع أن تحقق هذا التأثير — الثلث المعطل — من خلال صيغة 15-10-5: كل ما هو مطلوب هو استمالة وزير واحد من الوزراء الخمسة الذين سيعينهم الرئيس اللبناني، حيث سيكون أحدهم على الأقل شيعياً. ونظراً لديناميكية الأمور، ينصب تركيز تجمع قوى «8 آذار» في الوقت الراهن على محاولة تأمين معانقة الحريري لهذه الصيغة. وأي شئ أقل من هذا، كما قال وزير العمل من قبل حزب الله محمد فنيش في ملاحظته المنذرة بالسوء، بأن ذلك “يعني أن الدولة تدخل في نفق مظلم”.
لقد نجح الحريري وائتلافه الحاكم حتى الآن في مقاومة الضغوط، ورفضا تقديم تنازلات للأقلية التي من شأنها أن تعكس أساساً نتائج انتخابات حزيران/يونيو. وتشير التجارب السابقة بأن الجمود قد يستمر بعض الوقت؛ ففي عام 1969، استغرق رئيس الوزراء المكلف رشيد كرامي تسعة اشهر لتشكيل الحكومة اللبنانية. ولكن الحريري يعرف أيضاً بأنه من المحتمل أن يلجأ حزب الله و/أو سوريا إلى العنف، إن عاجلاً أو آجلاً، للحصول على تنازلات من قبل التحالف المؤيد للغرب. وفي حين أوضح جنبلاط ملاحظاته من شهر آب/أغسطس، والتي تمثلت بنأي نفسه عن تحالف «14 آذار»، إلا أنه لا يزال حليفاً لا يمكن الاعتماد عليه، وبذلك يجعل الائتلاف ضعيفاً.
الخاتمة
كان رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري قد أشار بأنه سيستأنف المفاوضات الإئتلافية بعد عيد الفطر المبارك في 20 أيلول/سبتمبر الحالي. وبالرغم من أن هذه المحادثات ستستغرق بعض الوقت، ينبغي أن يصبح واضحاً خلال زمن قصير نسبياً فيما إذا كان اتجاه هذه المحادثات يشير إلى نتائج مختلفة عن الجولة الاولى. وفي النهاية، إذا أراد تحالف «14 آذار» أن يتجنب قيام «حزب الله» بغزو بيروت ثانية، قد يضطر إلى قبول صيغة 15-10-5. بيد، يحتاج تحالف «14 آذار» إلى قبول كل مطالب المعارضة.
وفي الواقع تلعب المعارضة دورها أيضاً “بيد ضعيفة” بعض الشيء. فعلى الرغم من فوز حزب الله بجميع المقاعد البرلمانية التي تنافس عليها، إلا أن أداء حلفائه من التيار الوطني الحر كان ضعيفاً. وبالمثل، أثبتت التطورات في طهران والإفلاس الأخير للممول اللبناني الرئيسي لحزب الله [الرأسمالي اللبناني الشيعي صلاح عز الدين الذي يُزعم بأنه اختلس مدخرات حزب الله] بأنها محرجة للغاية بالنسبة للميليشيا. وكحد أدنى، يتمتع الحريري بفرصة لإضعاف خصومه من التيار الوطني الحر من خلال استبعاد جبران باسيل وإنزال وزراء عون إلى مرتبة أدنى بمنحهم مناصب وزارية هامشية.
وفي حين ينبغي أن يكون تشكيل الحكومة اللبنانية مسألة داخلية، تلعب كل من سوريا وإيران والمملكة العربية السعودية، ومصر دوراً ما، عن طريق تقديم المشورة لحلفائها المحليين. فالرياض والقاهرة تواصلان القيام بدور مثمر في توفير الدعم السياسي لتحالف «14 آذار»، ولكن ربما لن يكون ذلك كافياً. إذا كانت واشنطن تريد تعزيز موقف حلفائها في لبنان في هذه المفاوضات، سوف يتوجب على إدارة أوباما ممارسة بعض الضغط على دمشق. وكخطوة أولى، ينبغي على الإدارة الأمريكية متابعة إنذارها من شهر آب/أغسطس المنصرم، ربما عن طريق إعلام نظام الأسد عن قرار تأجيل إرسال سفير أمريكي جديد لدى سوريا إلى أجل غير مسمى.
لدى واشنطن مصلحة خاصة في رؤية نجاح الحريري في تشكيل حكومة لا تدين بالولاء لحزب الله وللتيار الوطني الحر. وبلا شك، إنه هدف طموح. ولكن بالنظر إلى نتائج انتخابات 7 حزيران/يونيو المنصرم، ينبغي على إدارة أوباما، كما هو الأمر بالنسبة للحريري وتحالف «14 آذار»، أن تهدف إلى الوصول إلى نتائج تكون أسمى من العودة إلى الوضع الراهن في بيروت.
ديفيد شينكر هو زميل أوفزين ومدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن.