أولئك القادة والسياسيون ممن أفنوا حياتهم في البذل والتضحية من أجل بلادهم وشعوبهم من الصعب أن تنمحي صورهم من الذاكرة، بل هم في جميع الأحوال، إذا ما رحلوا، يترك غيابهم فراغا من الصعب ملؤه. ويزداد الموقف ألما وصعوبة وحيرة حينما يأتي خبر الرحيل في صورة فاجعة غير منتظرة لشخصية ديناميكية طموحة كان بمقدورها بذل المزيد من العطاء في مشوارها السياسي، وتحقيق إنجازات ملحة أكبر وأكثر.
هذه الحالة تنطبق بلا شك على رئيس الحكومة المحلية لولاية “أندرا براديش” الجنوبية الهندية الدكتور “يودوغوري ساندنتي راجاسكارا ريدي” الذي اختطفه الموت مع عدد من مساعديه في حادث تحطم مروحية في الثاني من سبتمبر الجاري على تلة تقع على بعد 40 ميلا من بلدة “كورنول”. إذ لا تزال الهند عموما، ومواطنو “أندرا براديش” من الحيدرآباديين خصوصا، وسواء كانوا موالاة أومعارضة، أصدقاء أو خصوم، يمينيون أو يساريون، يعيشون في حالة صدمة وذهول من جراء تلك الحادثة المأساوية. ولهم الحق في ذلك!
فالراحل لم يكن شخصية عادية كما سنرى لاحقا، وإنما كان من خيرة ساسة الهند وأكثرهم كاريزما و ديناميكية وإرادة حديدية وتمسكا بمباديء الحكم الرشيد، ناهيك عما عرف عنه من اهتمام شديد بمسائل الرعاية الاجتماعية وتنمية ولايته وتحسين أحوال مواطنيه من الفقراء والمزارعين. تشهد على ذلك مبادرته غير المسبوقة في عام 2004 والتي قطع فيها على قدميه نحو 1400 كيلومترا من أراضي “أندرا براديش” باتجاه الشمال والجنوب والشرق والغرب، من أجل أن يتلمس بنفسه على الطبيعة أوضاع مواطنيه واحتياجاتهم الملحة. وحينما توصل إلى أن أكثر ما يؤرقهم هو قلة الماء الصالح للشرب وقلة إمدادات الطاقة الكهربائية، أعلن أنه في إضراب مفتوح عن الطعام إلى أن يحصل ناسه على ما يريدون. فكانت خطوته تلك سببا في تمرير مشروع في البرلمان بصفة عاجلة لشق قناة كي يتدفق منها مياه نهر “تونغابهادرا” نحو بلدة “بوليفندولا”، ومشروع قرار آخر يضمن حصول سكان الأرياف في “أندرا براديش” على إمدادات إضافية من الطاقة.
وبطبيعة الحال فقد انعكس ما قام به على حظوظه في الانتخابات العامة المركزية والانتخابات التشريعية المحلية لعام 2004. ففي الأخيرة استطاع أن يحصد لحزب المؤتمر الوطني الذي ينتمي إليه 185 مقعدا من مقاعد المجلس التشريعي لولاية “أندرا براديش”، الأمر الذي أهله لأن يصبح رئيسا للحكومة المحلية بدلا من “تشاندرا بابو نيدو” زعيم حزب “تيلوغو ديسام”. وبمجرد تسلمه مهامه عمد إلى القيام بمبادرات نوعية عديدة من اجل تنمية أحوال عموم مواطنيه ولاسيما سكان الأرياف، وذلك لإيجاد توازن مع المبادرات التي قام بها سلفه (المعروف شعبيا بمجنون الانترنت) والتي ركزت بصفة أساسية على الصناعات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ونسيت هموم الغالبية العظمى من الحيدرآباديين الفقراء والأميين.
ومن أمثلة مبادرات السياسي الراحل:
• برنامج طموح لإقامة أكثر من 70 مشروع ري في الولاية لتحسين وسائل الري للمزارعين.
• مشروع لمد الطاقة المجانية للفلاحين بمعدل سبع ساعات يوميا.
• مشروع للتأمين الصحي للفلاحين والفقراء، تضمن الدولة بموجبه تحمل تكاليف أية عملية جراحية تزيد عن مائتي ألف روبية.
• مشروع يحصل بموجبه المواطن (المرأة تحديدا) على قروض بفوائد ميسرة لا تتجاوز 3 بالمئة، تشجيعا له على إقامة المشاريع التجارية الصغيرة.
• مشروع لبناء المساكن الصحية للمواطنين في الأرياف، على أن تساهم الدولة فيه بجزء ويساهم المستفيد بالباقي.
• مشروع لدعم زراعة الأرز وتحسين جودته وضمان حصول منتجيه على سعر مناسب.
• مشروع لدعم نفقات تعليم أبناء المواطنين وحجز المقاعد في الجامعات لأبناء وبنات الأقليات.
وحينما جاء موعد الانتخابات البرلمانية والتشريعية التالية في مايو 2009، خاضها ريدي معتمدا في تجديد الثقة به على شعار وحيد هو ” التنمية والمصداقية”. إذ رفض أن يعد مواطنيه بأشياء جديدة قبل أن يحقق لهم كاملا ما وعدهم به في انتخابات 2004. وعلى الرغم من توحد المعارضة ضده في تحالف قوي شمل الأحزاب الشيوعية، وحزب “تيلوغو ديسام” وحزب “تلينغانا راشترا ساميتي” وغيرها من الأحزاب المدعومة من الحزب الحاكم وقتذاك في نيودلهي (حزب بهاراتيا جاناتا)، ولجوئها إلى شراء أصوات المقترعين عبر توزيع أجهزة التلفاز الملونة، ومحاولتها الاستفادة من انخراط عائلة ريدي في أنشطة تجارية وعقارية وصناعية للقول بفساده و انتشار ظاهرة المحسوبية في عهده، فان ريدي أثبت مجددا أنه معبود البسطاء والفقراء والنجم اللامع في صفوف حزب المؤتمر الذي استطاع أن يسترجع للأخير الحكم للمرة الثانية على التوالي في إحدى أهم الولايات الجنوبية الهندية منذ عام 1969. إذ فاز في انتخابات 2009 المركزية والمحلية، وقام في 20 مايو 2009 في احتفال أقيم في ستاد “لال بهادور شاستري” في حيدر آباد وحضره أكثر من 20 ألف مواطن بأداء القسم كرئيس لوزراء حكومة أندرا براديش لفترة كان من المفترض أن تنتهي في عام 2014، لولا تدخل القدر.
إن السؤال الذي يطرح نفسه بعد كل ما تقدم، هو من أين أتت للراحل ذلك الاهتمام والحرص الشديدين على التفاني في خدمة الجماهير الكادحة، والذي رفعت من رصيده الشعبي، بل والذي أفقد البعض صوابه حينما علم بنبأ رحيله فأقدم على الانتحار؟ (طبقا للمصادر الرسمية مات 24 شخصا من مختلف مناطق أندرابراديش انتحارا، علاوة على موت 104 أشخاص بالنوبة القلبية من هول الصدمة، كان أغلبهم من فئات الشباب أو ممن استفادوا من مشاريع ريدي الرعائية والخدمية، الأمر الذي حدا بابن الراحل ووريثه السياسي “جاغان موهان ريدي” إلى أن يطلب من محبي عائلته أن يقلعوا عن الانتحار لأن ذلك يغضب والده في قبره، وأن يلتزموا الهدؤ احتراما لروح الراحل “الذي كان لا يحب سوى رؤية الابتسامة تعلو وجوه الجميع”).
جواب السؤال نتبينه من السيرة الذاتية لريدي والتي تقول أنه ولد في العام 1949 في بلدة “بوليفندولا” الصغيرة لأب كان مسئولا عن مشاريع الري، لكنه كان مصمما في الوقت نفسه على ايلاء ابنه اهتماما خاصا لجهة التحصيل العلمي، الأمر الذي تجسد لاحقا في التحاق ريدي بكلية “مهاديفا رامبور” للعلوم الطبية في جامعة “كارناتكا”، وتخرجه من الكلية المذكورة كطبيب عام قبل أن يكمل تعليمه في علوم الجراحة في كلية ” اس في “الطبية في “تيروباي” بولاية أندرا براديش، وينتخب كرئيس لجمعية الجراحين في المدينة الأخيرة.
ورغم أن ريدي مارس مهنة الطب والجراحة في مسقط رأسه لبعض الوقت من خلال مستشفى تعود ملكيته لأسرته، ورغم أنه قام بالتدريس أيضا في كلية البوليتكنيك في بلدة “بوليفندولا”، فان السياسة والخدمة العامة والاهتمام بقضايا الري واستصلاح الأراضي ومعاناة الفقراء جذبته بقوة بدليل انخراطه منذ دراسته الجامعية في صفوف منظمات الشباب التابعة لحزب الهند الأكبر(حزب المؤتمر الوطني)، ثم بدليل انضمامه في عام 1978 إلى جناح “انديرا” في حزب المؤتمر وقيامه بالترشح باسم الأخير من دائرة “بوليفندولا”.
وكمكافأة له على إخلاصه ونشاطه وألمعيته، منحته رئيسة الحكومة الهندية الراحلة السيدة أنديرا غاندي في الفترة ما بين عامي 1980 و1983 حقائب وزارية هامة تختص بالبيئة والتربية والخدمات الصحية وتنمية الأرياف، فأبلى فيها بلاء حسنا وامتلك من خلالها خبرات كبيرة معطوفة على سمعة حسنة في الأداء والتطوير، رغم أنه لم يكن قد بلغ بعد الحادية والثلاثين من العمر. وفي عام 1984 عهدت إليه السيدة غاندي بمسئوليات إدارة حزبها في ولاية “أندرا براديش”. لكنه بمجرد فشله في تحقيق انتصار لحزبه في انتخابات ذلك العام فضل أن يقدم استقالته من تلك المسئوليات، معترفا بالتقصير و متحملا كامل المسئولية.
وإذا ما أضفنا إلى ما سبق حقيقة ما عرف عن ريدي من انفتاح وتسامح إزاء كل المكونات الدينية والعرقية والثقافية
في وطنه وفي ولايته، رغم التزامه الشديد بتعاليم دينه المسيحي ومذهبه الكاثوليكي، لأدركنا سر الكلمات المعبرة التي تسابق كافة الساسة والمسئولين الهنود – بما فيهم خصمه اللدود “تشاندرا بابو نيدو” على الإدلاء بها رثاء لسياسي كان بمثابة نموذج يحتذى به على حد قول رئيس وزراء الهند “مانموهان سينغ”.، ولتفهمنا أسباب شعبيته التي تجاوزت شعبية السياسي الحيدر آبادي المعروف “راما راو” الذي توفي عام 1996، و لعرفنا سر الحزن الذي ساد كافة الأوساط الهندية من هندوسية ومسلمة وسيخية وبوذية بمجرد علمها بخبر رحيله الأبدي. هذا علما بأن ولاية “اندرابرادش” التي تعتبر خامسة كبرى الولايات الهندية من حيث عدد السكان ورابعة كبرى ولايات الهند من حيث المساحة وثانيتها من حيث طول السواحل بعد ولاية كوجرات، والولاية الخامسة أو الرابعة على قائمة أكبر الولايات الهندية لجهة تصدير تكنولوجيات المعرفة – وصلت قيمة إجمالي صادراتها من هذه السلع في الفترة ما بين 2006-2007 إلى 4.5 بليون دولار- تسكنها أغلبية هندوسية بنسبة 82 %، يليهم المسيحيون بنسبة 4%، فالمسلمون بنسبة 1% فأصحاب ديانات أخرى بنسبة 2%.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين