المنطقة مقبلة على مآزق سديمية، لا يمكن التكهن بتداعياتها، حيث الخيارات مفتوحة، فعمليات القص واللصق والتلفيق وخلط الأوراق والغش في هذه اللعبة أو تلك، باتت عنوانا للتخبط السياسي المستند على ردود الفعل والتطورات الهشة، والوهم بقوة الوجود، الذي ينتج جهود عبثية وسلوكيات لم تعد تستطيع تحسين صورة المستبد، لا على المستوى السياسي، ولا على المستوى الاجتماعي أو الثقافي، سواء ساهم فيها طرف غربي أو عربي أو أكثر.
إن مقاربة تداخل اللغات وتشابكها، عبر تفكيك وإعادة تركيب الدلالات المخفية والمضمرة في ثنايا حركة الواقع المتغير، ومدى تفاعل وترابط وتشابك المعطيات فيما بينها، وكل منها له وظيفة يؤديها، و بها اكتسب معناه في مستويات متعددة، وبالتالي الانتقال في أي مستوى يحدد خلفية هذا الانتقال في ذات المستوى المحدد إياه، لكنه ليس بالضرورة أن ينعكس على المستويات الأخرى المتشابكة معه،، بهذه الدرجة أو تلك، بمعنى أن قراءة زاوية واحدة أو تغيير اتجاهها أو أبعادها، لا يعطي القراءة الصحيحة عن الزوايا الأخرى المتعددة وخاصة أن مستويات وزوايا الملفات ، تعتبر علاقات إجمالية بنيوية تأسست وفق مرتكزين
الأول: له قواعد ارتكاز تاريخية واجتماعية و الثاني: تأسس على وقائع وهواجس ترتبط بسيكولوجية الإنسان ورؤيته لحركية الواقع وما يستشف من تداعيات المستقبل.
فمنذ استلام أوباما الذي بني سياسته على أخطاء سلفه أكثر مما بناها على محاكاة التاريخ وزوايا الرؤية السياسية للملفات التي يتعاطى معها وخصوصا منها ملفات الشرق أوسطية، فما طرح ويطرح، والانفتاح هنا وهناك، سواء ما يخص عملية السلام أو الملف النووي أو العراقي، اللبناني ، السوري…….الخ هو مقاربات فيها الإيجابي و فيها أيضا السلبي، ولكن أسلوب التعاطي يحمل الكثير من الإيجابية في حال استمر وفق المفاهيم الحداثية والعصرية، التي تشكل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات أساسها، وهي المرتكزات الأهم لاستيعاب الشعوب وتغيير الصورة النمطية للسياسة الأمريكية وعلى النقيض إن السعي الأوباماوي لاستيعاب الأنظمة الأمنية والشمولية والتوتاليتارية باسم الاستقرار أو تحت أي مسمى آخر، هو في حقيقة الأمر، انتكاس وتراجع سياسي كبير يعيد ما كان قائما قبل 11 سبتمبر بمعنى التعاطي الأمريكي بملفات الشرق الأوسط المتشابكة مرشح للسير وفق مسارين: الأول: اعتماد تقرير بيكر هاملتون وتقوية الأنظمة الأمنية ونيل صداقتها وتكريس عداء الشعوب وهي ذات السياسة الأمريكية الخالية من القيم الإنسانية والحضارية والمدنية( الاستعمارية بمعناها الأدق )، التي استمرت منذ الخمسينات من القرن الماضي وحتى بداية الألفية الجديدة.
الثاني: اعتماد مقاربات سياسية عمادها، استقطاب الشعوب ونيل صداقتها وبما ينسجم مع تطلعاتها وطموحاتها في التغيير الديمقراطي السلمي والتنمية البشرية المتوازنة، وتجسيد بنى الدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، فالبيئة الديمقراطية هي الوحيدة القادرة على اجتثاث الإرهاب من جذوره وهذه السياسة تفترض سلوكا سياسيا معينا في التعامل مع الأنظمة الأمنية الشرق أوسطية سواء التي في الحضن الأمريكي أو التي تمني النفس بدخول ذلك الحضن وهذا المسار يستوجب وجهة نظر لها زوايا متعددة لكنها موحدة حول مجموع الواقع الذي يسود الآن وكيفية تأسيسه وآليات تغييره.
فالانفتاح الغربي بشكل عام على قضايا المنطقة والعمل بجدية على حلها يعتبر أساسا ليس فقط لإنهاء الصراعات الإقليمية وتشعباتها بل أيضا يشكل قاعدة لإنهاء البؤر المنتجة للإرهاب بكافة أشكاله و تلاوينه ولا أعتقد بأن الحلول الجزئية أو التي تسعى إلى تقسيم الملفات سيكتب لها النجاح لأن اللاعبين الإقليميين والأذرع الضارة التي صنعوها تشابكت إلى درجة كبيرة وإمكانية الفصل فيما بينها أمر فيه صعوبة بالغة وهنا يجب التمييز بين نوعين من الحلول يقدمها بعض الغرب الأوربي والأمريكي، الأول: إعادة تأهيل الأنظمة الأمنية وتسويقها دوليا ولفقد كل المفاهيم والقيم الإنسانية والمدنية والحضارية بمعنى التعامل بالعقلية والفكر الاستعماري لبعض الغرب الذي لا هدف له سوى الهيمنة الاقتصادية على النقيض من القيم الإنسانية التي ينادي بها ويمثل ساركوزي الوجه الفاقع لهذا السلوك الاستعماري. الثاني: هناك أغلبية الغرب الأوروبي الذي اعتقد بأنه يسعى إلى المساهمة في نقل الأوضاع المأزومة في الشرق الأوسط وغيرها من بؤر التوتر إلى مرحلة أخرى بشكل جذري وشامل، قوامها الديمقراطية وحقوق الإنسان وتكريس المفاهيم الحداثية وعصرنة الدول وهي قيم تتطلع إلها الشعوب وتسعى على تحقيقها.
اعتقد بأن رؤيتنا السياسية للملفات وترابطها بالضرورة يجب أن تكون رؤية نقدية تمتلك القدرة على فهم المعطيات وتداعياتها الجزئية والكاملة وهو ما يؤسس لإمكانية استشراف المستقبل أو بعضا منه، وبالتالي هناك بعض المعطيات التي شكلت أحداثا محددة تحتاج إلى قراءة وتفسير
1. المعطى الأول: الانتخابات الإيرانية:
وهي التي أدخلت إيران إلى مفترق طرق تاريخي ذو اتجاهين إما إلى مزيدا من القمع والتنكيل بالشعب الإيراني وهذه المرة الآيات تآكل بعضها، بمعنى أبناء نظرية ولاية الفقيه يضرسون رؤوس بعضهم البعض، أو إنضاج المسار الديمقراطي ووضع حد لسيطرة الغيبيات وتداعياتها.
إن الانقسام في صفوف الآيات، أبناء المدرسة الواحدة يعني إن السفينة الإيرانية دخلت مضائق مائية ضحلة محاطة بصخور ناتئة، وستزداد تلك الصخور نتوءا كلما زادت حدة القمع، حيث ستتحول مطالب الإصلاحيين الساعين إلى إصلاح القائم، وإرساء مفاهيم أكثر إنسانية وديمقراطية إلى معارضة تسعى إلى إنهاء النظام الإسلامي نفسه، وبالتالي إن إيران مرشحة إلى مرحلة طويلة من عدم الاستقرار والجدير بالذكر إن محاولة تصدير الأزمة وربطها بالغرب الأوروبي محاولة بائسة ومكررة لدى كل الأنظمة والقوى الشمولية والأمنية فالقضية داخلية ومن الضرورة أن ينسجم المعطي الدولي مع الحالة الجديدة وان لا يكون حالة تداخلية يستعين بها النظام في زيادة وتيرة خنقه للحريات وقمع الآراء وأعتقد إن المنحى التراتبي الراهن سيقود إلى إجراء تغيرات عميقة تطال أسس النظام القائم بعد أن أسقط استخدام العنف ضد الشعب الراهن صدقية الولي الفقيه شعبيا، الذي بدا وكأنه المشرف على محاولة إخماد الحركة الشعبية عبر توظيف أدوات القمع التي يديرها، وطبيعي إن تداعيات المسار الإيراني ستنعكس على المنطقة ككل وعلى الأذرع التي يملكها ويديرها في أصقاع الأرض، ولعل الساحة الأولى التي انعكس فيها، كانت لبنان ومن ثم العراق وهي عناوين بارزة للاستعصاء في العلاقة الإيرانية – الغربية واعتقد إن المسار الإصلاحي وان خفت حدته نتيجة القمع المفرط إلا إنه سيسعى إلى إعادة صياغة المشهد السياسي ليس فقط تقويض مصداقية القيادة الإيرانية الحالية بل تدمير عصمتها عن الخطأ وإبراز سياستها وممارستها تجاه الشعب الإيراني كحالة تقليدية عن عمى السلطة وفسادها وطغيانها.
2. المعطى الثاني: الانقلاب الجنبلاطي:
اعتقد بأنه كلما ابتعدنا عن القراءة التبسيطية لانعطافة جنبلاط واعتمدنا قراءة مستندة إلى معطيات محسوسة، وامتلكت القدرة على استشفاف نتائجها مع الأخذ بعين الاعتبار التركيبة اللبنانية والفكر الطائفي الناظم ووجودها كلما استطعنا أن نفكك الانعطافة ونعيد تركيبها للحصول على إجابة تحمل قدرا كبيرا من الواقعية والحقيقة.
إن مصدر قلق الجنبلاطي وهواجسه بدأت منذ أحداث 7 أيار واحتلال بيروت ومحاول احتلال الجبل وتكرست هذه الهواجس وبلغت ذروتها من خلال البحث عن تساؤل محدد يشكل الأمر الأكثر تعقيدا وتفسيرا لموقع جنبلاط وانعطافته والتساؤل يدور حول ما يمكن أن يحمله القرار الظني للمحكمة الدولية من مفاجئات وتداعيات على الساحة اللبنانية الداخلية والإقليمية والدولية ووفق القراءة ما بين السطور الجنبلاطية يمكن معرفة مصدر القلق الذي يكمن في الانعطافة بل يفسرها، وهو ما يحدث من تداعيات عن صدور القرار الظني الذي ربما سيكون تسونامي يضع لبنان أمام احتمالات حصول انفجارات أمنية وانقسامات سياسية وطائفية لا يمكن تداركها. ويريد جنبلاط النأي بنفسه وبدروزه عن تداعياتها ولعل مقولة جنلاط (لا نريد أن تكون المحكمة عنوانا للفوضى) يستشف فيها ما يتوقع أن يحصل في الأفق المنظور القادم.
اعتقد إن جنبلاط لديه معلومات شبه مؤكدة حول ما توصل إليه التحقيق الدولي، ولديه قناعة أكيدة بأنه لم تعد هناك إمكانية يحرف عن مساره الراهن، وإنه لم يعد بمقدور أية جهة داخلية أو دولية التحكم بمجرياته وإنه لا يخضع لأي نوع من أنواع المساومة والمقايضة.
إذا هي مرحلة جديدة عنوانها التبسيطي هو خلط الأوراق اللبنانية وامتداداتها الإقليمية، لكن خطورتها تشير إلى إمكانية حدوث انقسامات مذهبية قد تؤسس لحروب متعددة في أكثر من ساحة إقليمية.
المعطى الثالث: الانتخابات في الإقليم الفدرالي:
إن القراءة الأولية المعمقة لحيثيات الانتخابات الكوردية يمكن القول إنها كرست منحى للبناء والارتقاء السياسي وتجسيد منهجي لممارسة الديمقراطية المبني على أرضية تنامي الوعي الانتخابي وأهمية الصوت الانتخابي وهي توجه وسلوك وسياسة تفتقدها المنطقة الشرق الأوسطية التي اعتادت فردانية الترشيح وفردانية الفوز عبر تزييف الإرادة والإنسانية. فالانتخابات في الإقليم الفدرالي الكوردستاني مختلفة هذه المرة، حيث استندت إلى معطيات سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، ارتكزت على قيم واقعية وأهداف أنتجها الراهن القومي كمحاربة الفساد والتسيب وإلى ما هنالك من قضايا تلامس حياة الناس وهذا المرتكز أنتج حالة جديدة هي الحالة الثالثة الوليدة والتي استطاعت أن تجتاز عقبة سيطرة الحزبين بكل ما يملكان من قاعدة شعبية وقوة سياسية وهذا دليل على إن ممارسة السياسة تقوم على مبدأ الحرية والعدالة في حدودها النسبية التي اعتقد بأنها مسار ايجابي سيفضي إلى التحضر والتمدن.
المعطى الرابع: المشروع الأردوغاني لحل القضية في الجزء الشمالي من كوردستان.
بغض النظر عن عدم الوضوح الكافي لي بحكم عدم امتلاكي نصا متكاملا للمشروع ورغم النواقص التي يتضمن وما وصلني فيه لكن قراءته اعتقد بأنها يجب أن تأتي من ثلاث زوايا:
الأولى: مدى ملامسته للحالة القومية وقدرته على الاستجابة للطموحات القومية في سياقها التراكمي كمنحى لتجسيد التنوع وإزالة الاضطهاد القومي وذرع اللبنات الأولى في إنهاء الصراع وزرع مرتكزات علاقة جديدة قائمة على الحرية والديمقراطية في إطار مؤسسة الحق وبما يحقق بعضا أساسيا من مطالب الشعب الكوردي وقواه السياسية.
الثانية: المشروع يشكل نقيضا للحل الأمني والعسكري الذي دأبت على استخدامه ليس فقط أنقرة بل كل الأنظمة الإقليمية المقتسمة لكوردستان وبالتالي يأتي الحل السياسي مبتعدا عن العنف وإنكار الوجود التي لازالت تمارسها وتستخدمه إيران وسوريا ومن جهة أخرى فرغم الاتفاقيات الأمنية المتجددة بين الدول الثلاث حيال مواجهة وخنق الطموح الكوردي وصهر الوجود وإزالته ثقافيا وتاريخيا وسياسيا لكن المشروع يأتي على النقيض من هذه الاتفاقيات الأمنية وبتالي حالة متقدمة يؤسس لمعطى شرق أوسطي قادم.
الثالثة: إن المشروع يرتكز إلى توافق تركي – أمريكي وإلى حد ما كوردي (الإقليم الفدرالي) وإذا صحت المعلومات حول هذا التوافق فهو عمليا سينتج حالة توافقية ستظهر نتائجها في كركوك وسواها من المناطق التي يمتلك فيها الأتراك أذرع ضاغطة.
اعتقد بأن المشروع ومهما كانت سوية ومستوى انجازه سيكون له انعكاسات إقليمية على صعيد الحالة القومية الكوردية وسيكون بمثابة جرس إنذار للعقل الأمني الإقليمي، بأن الأوان قد حان لإعادة النظر والبدء بمعالجات سياسية للملف الكوردي في الأجزاء الأخرى من كوردستان، لأن الإصرار على ذات النهج الأمني سيخلق تصدعات كبيرة ستؤثر سلبا على مجمل المجتمعات المتعددة القوميات.
المعطى الخامس: الانفتاح الأوروبي الأمريكي على النظام السوري:
ولكل من الحالتين مستويات متعددة، فالانفتاح الأوروبي والذي جاء بدلالة لبنان وفلسطين وإيران بمعنى استقرار لبنان والمسيرة التفاوضية في الشرق الأوسط واحتواء النظام وتنظيمه وإعادة تأهيله دوليا وعربيا لإبعاده عن إيران وملفها النووي، ولذلك شهد الصيف الحالي، الكثير من السياحة الدبلوماسية ، والكثير من الكلام المنمق، مع تباين تفسير كل طرف لهذا الانفتاح والادعاء بصحة التوجه والموقف، والدور المحوري الإقليمي لهذا أو ذاك.
اعتقد بأن كل السياحة الدبلوماسية لم تساهم في زهزهة أو حلحلة أي من الملفات المتشابكة سوى في الشكل، إذ قد تكون أوجدت هدوءا نسبيا، وخلقت هواجس متنوعة حول سياق الذي تسير إليه الأمور، لكن المضمون يبدو إنه لازال يراوح مكانه، فالعقد كثيرة و الحلحلة تحتاج إلى تغيير منهجي في آلية التفكير والرؤية السياسية، وهو غير متوفر في بنية النظام الأمني السوري، وخاصة وأن سوق المقايضة لم يلامس المرتجى، ولم يعطي تطمينات في هذه الدائرة أو تلك، لذلك تأجلت اتفاقية الشراكة مع أوروبا، أما التطبيع الأمريكي السوري الرسمي، فلازال مخاضا فيه إشكاليات عديدة، غير القابلة للصرف والمقايضة، وهو ما نرى نتائجه في لبنان والعراق وفلسطين، ويبدو أن الجميع بات مقتنعا بأن لا حلحلة في سوق البورصة الشرق أوسطية إلا بعد انجلاء الغبار عن التقرير الظني للمحكمة الدولية، وما سترتبه على المنطقة، وما ستوجده من تداعيات يصعب التكهن بنتائجها، ما اعنيه بأن المتتبع يلاحظ انحسارا في منسوب التفاؤل الرسمي السوري، والمترافق مع التصعيد الداخلي والمزيد من القمع والتنكيل وكبت الحريات، وهو إشارة واضحة إلى الاستعدادات الجارية لمواجهة القادم، عبر المزيد من آليات الضبط والتحكم بالمجتمع وإرهابه، كتعبير عن حالة القلق والفوضى وعدم الاطمئنان الموجودة على عكس ما عليه من صور السياحة الدبلوماسية والنفاق الإعلامي الرسمي.
المعطى السادس: الركون الكوردي بالتزامن مع الرسائل الأمنية
من الملاحظ إنه في الفترة الماضية، ساد نوع من الهدوء و الارتكاس في الحراك الكوردي في سورية، بالترافق مع الاستدعاءات الأمنية، التي حملت رسائل محددة تشير إلى نية السلطة بالبدء بحل الإشكاليات الكوردية، في مقابل الابتعاد عن المعارضة الديمقراطية، وهي رسائل شفهية، أمنية تتجدد بين فترة وأخرى، واعتقد بأن أي طرح شفهي لا معنى له سوى ما خبرناه عن فعل وسلوك العقل الأمني في تعامله مع وجودنا القومي وقضيتنا وبالتالي من يملك جدية الحل وإرادة التصالح مع المجتمع من الضرورة أن يمتلك برنامجا أو مشروعا سياسيا علنيا، عندها يمكن القول بان المسار تحول من دهاليز الأمن إلى دهاليز السياسة.
ومن الجدير بالذكر أن الاستدعاءات الأمنية كانت في مستويين، مستوى تحذيري، ترغيبي، ومستوى ترهيبي وهو طال الكثير من نشطاء وفعاليات الحراك الكوردي، وفي المحصلة نجد حالة من السكون المقنع تسود المجتمع الكوردي في مواجهة الخطط الأمنية المستمرة في تغييب الوجود القومي، ومن الملاحظ أيضا إنه هناك حالة من الاستعاضة لدى بعض الكورد من حيث مشاريع تجميع الصف، وهو حق وحالة صحية على أرضية التنوع الفكري والسياسي، لكن هذا لا يبرر السكون والاستكانة في مواجهة ما يفعله النظام الأمني لإعادة إفراغ الحراك الكوردي من أي مضمون ديمقراطي على المستوى الوطني العام، عبر وعود أمنية لا بيئة ولا آلية ولا إرادة لتنفيذها، ولا تحمل من المعنى سوى المزيد من العزل والفصل بين مكونات المجتمع السوري، وإظهار عدم صدقية الحركة الكوردية وبهتان مقولاتها الأمنية والديمقراطية، وبذات الوقت إظهارها تطرف لا يمكن الوثوق به أو الركون إليه.
اعتقد بأن السكون الكوردي لا يوجد ما يبرره، خاصة وإنه مترافق مع أزمة اقتصادية ومجاعة عامة وهجرة إجبارية تعصف بالمناطق الشرقية ككل، وهي حالة خطيرة، كان من المفترض أن تتوقف عندها الفعاليات الكوردية والسورية الديمقراطية، وتضع برنامجا نضاليا يرتكز على المطالبات الاقتصادية التي تلامس حياة الناس ومعيشتهم، وبالتالي قيادة فعلية للحراك الوطني من البوابة الاقتصادية، ولمواجهة الفساد المنهجي والمبرمج، بمعنى، اعتقد بأن الانطلاق من معاناة الناس اليومية المعيشية هو مرتكز المطالب السياسية باتجاه التغيير الديمقراطي السلمي.
خلاصات:
1. تمر إيران بلحظة تاريخية من حيث تزايد الشعور بعدم العدل، ومواقف خامنئي الخاطئة ستؤدي وفق ما أراه وألمسه من نضج سياسي لحركة الإصلاحيين،إما إلى التضحية بأحمدي نجاد، أو ستمضي السفينة الإيرانية إلى مصير مجهول.
2. التحالف السوري – الإيراني، تحالف استراتيجي، وغير خاضع لأي انفكاك ولا حتى عبر عمل جراحي، والمراهنة الغربية والعربية، إما هي واهمة وارتكاز سياسي فاقع، وأما مراهنة تهديئية، تتعلق بملامح المرحلة المقبلة الحبلى بتظهير صورة العديد من الملفات، وبداية أجوبة الكثير من التساؤلات، وبالتالي ستكون المقاربات الغربية واضحة المعالم والأهداف والإستراتيجية التي تسعى إليها.
3. برنامج السياحة الدبلوماسية بين سورية والغرب، لم يحقق نتائج ملموسة بعد، فالعقد والأذرع الإقليمية المتفرقة لازالت، إما تمر بهدنة مؤقتة (لبنان) أو تتصاعد و تيرتها (العراق وفلسطين) في موازاة استمرار العقوبات الأمريكية وعرقلة موضوع طائرات الأيرباص والبحث السوري عن بديل روسي، أو التهديد به، لكن الدلالة إن الأمور تراوح مكانها سواء مع أوروبا، وعدم توقيع اتفاق الشراكة، بسبب الرفض السوري للبند المتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وإصرار أوروبا عليه، وحتى بالنسبة للتطبيع الأمريكي، فالوعد برعاية السلام بشكل مباشر، والعمل على إعادة تأهيل النظام والاعتراف بدوره الإقليمي مرهون بذات الملفات الأمريكية القديمة، لكن الوقائع وخاصة في العراق وفلسطين تشير إن لا تقدم عملي مثلما توحي الصور الدبلوماسية.
4. الوضع اللبناني مرشح أن يستمر عبر الستاتيكو القائم، بانتظار القرار الظني للمحكمة الدولية، خاصة وان خمسة دول مطالبة الآن بالموافقة على مسودة الاتفاق القضائي الذي قدمه رئيس المحكمة، وبالتالي ستليه مهلة طلبات استجواب قد تعيد خلط الأوراق اللبنانية والإقليمية وتسبب الكثير من التصريحات التي من الممكن أن تؤدي إلى حرب أو حروب متنوعة، لكن هذه المرة مختلفة، من حيث السمة ومن حيث الساحات التي ستشغلها، وطبيعي إن من ضمن الحروب المتوقعة، عدوان إسرائيلي جديد، يكون مخرجا، لمأزق الحكومة الإسرائيلية وما تتعرض له من ضغوط أوربية وأمريكية بخصوص ملف السلام ومبادرة أوباما.
5. الوضع في العراق من حيث بارومتر الأعمال الإرهابية يرتبط بسخونة أو برودة الملفات الإقليمية (النووي الإيراني وأذرعه وعناصر محوره)، والهدف ليس فقط المقايضة وإنما إجهاض أو القضاء على النموذج العراقي ومساره في بناء دولة متعددة القوميات، ديمقراطية، فدرالية، من شأن تطورها أن يشكل خطورة على الأنظمة الأمنية والشمولية و التوتاليتارية، وبالتالي فالوضع مرشح للتصعيد على مسارين: الأول: طائفي ويشترك فيه ويشرف عليه دول إقليمية تمتلك الخبرة في هذا المجال. والثاني: صراع عربي، كوردي تكون شرارته مسالة كركوك ويشترك فيه أيضا ذات الدول الإقليمية بالإضافة إلى تركيا، إلا إذا كان المشروع الأردوغاني يتضمن اتفاقا مع قادة الإقليم الفدرالي حول هذه المسالة، لكنني اعتقد بان الأمور مهما اختلف مسارها، تتطلب استعدادا كورديا استثنائيا فالحرب في هذا المسار واضحة المعالم، ونسبة حدوثها مرتفعة، وستكون بمثابة الظاهرة الذريعة لكل الاتفاقات الأمنية الإقليمية مضافا لها بعض العراق، وهي لن تستهدف فقط الإقليم الفيدرالي، بل الطموح الكوردي في كافة أجزاء كوردستان ومن هذا الجانب فالمشروع الأردوغاني يشكل خرقا لا تتمناه سوريا وإيران، واعتقد بان استشراف المستقبل يفترض تحركا كورديا من نوع آخر، تكون فيه الديمقراطية والمصلحة القومية هي الناظم، والإستراتيجية القومية المؤطرة والفاعلة هي الرد؟
6. برغم الخروقات النسبية فالانتخابات الكوردية، كانت خطوة تأسيسية مهمة في مسار بناء مجتمع مدني، عصري، من جهة، وكانت نتائجها صرخة شعبية لمكافحة الفساد والتسيب من جهة ثانية ، وهذا يحمل الكثير من الدلالات السياسية التي من المفترض دراستها ومعالجتها بأسرع وقت ممكن، خاصة وإن الفساد وانتشاره وتحوله إلى ثقافة سلبية يعتبر أهم مرتكز لانهيار أي بناء مهما طال من بناءه.
7. الحراك الديمقراطي السوري لازال دون المستوى المطلوب، فلا إعلامه أجاد واستثمر التطور التقني في إيصال صوته ورأيه إلى كل بيت وزاوية سورية ، ولا حراكه العملي نما وتطور، صحيح إن القمع واستفحاله هو سبب رئيسي، لكن الاستكانة سبب آخر ذاتي وغير مقبول استمراره.
8. الراهن الكوردي في سورية، الذي كلما استفحل القمع السلطوي، دار على نفسه وانطوى في حلقته، واستعاض عن المواجهة، بمشاريع مختلفة تتعلق بترتيب البيت الكوردي، وهي كلمة حق، لكن ماذا يراد بها، إن لم تمتلك الجدية، وتنطلق من ذات الخندق والأدوات القديمة، التي كانت سببا في التبعثر، اعتقد بأن لملمة الصف الكوردي مسألة قومية مهمة، لن تتم بدون إنهاء مظاهر القسمة المتمثلة في الكثير من الأطر الراهنة، إضافة إلى تغيير آلية التفكير لدى بعض القادة الكورد الذين لم يحددوا على أية أرضية يقفون، فالزمن و السوية التي وصلتها الحالة القومية لم تعد ملائمة لازدواجية المواقف، واعتقد بأن الراهن الكوردي يندرج بين ثلاث مستويات، وأغلبها يأتي بدلالة السلطة الأمنية. المستوى الأول توفيقي متوتر، والثاني تصديري وتابع، والثالث: نقدي مرتبك ، وفي كل هذه المستويات الثلاث، هناك نواة هنا وأخرى هناك، تتلمس طريق الصواب وتحاول أن تؤسس لسياسة واضحة ومنهجية قومية، نظرا لأن الراهن السائد يعبر عن أزمة فكر وسياسة خانقة، لا تنبع فقط من مضامينها المتناقضة، بل من أسلوبها ومنهجها المتبع مع إشكالية العلاقة مع الذات، والعلاقة مع السلطة.
الخاتمة:
هناك الكثير من الأجزاء العائمة من جبل العقد والملفات المتشابكة، والتي ستكون سببا في العديد من الانهيارات والتصدعات الإقليمية المستقبلية، وفيها العديد من الظواهر التي تتنبأ بعسر الحل السلمي وصعوبته، لكنه ليس مستحيلا، وبغض النظر، فنحن مطالبين بقراءة الواقع بعقلانية ومثابرة، بمنهجية حركية، تمتلك القدرة على استشراف المستقبل، أو بالأحرى رؤية الإمكان المستقبلي، الإمكان بما هو حقل فعل، الإمكان بما هو تجاوز لما هو موجود، باتجاه إلى ما ينبغي أن يكون، وهذا فكر سياسي، معرفي، منهجي، نقيض لسياق الذات السكوني الذي لا انفكاك له من ماضيه ومن حاضرة المحض بدوائر منيعة من وعيه البدائي وحلقة مريديه، ولعل المعادلة التي يجب أن نستوعبها، بأنه ليس كل قديم مقدسا لان وعي الحياة يقوم على الابتداع والتغيير، عبر تفصيل العقل والحركية الديناميكية المنافية للعقل السكوني و الستاتيك الذي ينظم مساره، ويدفعه لمقاومة ورفض الخروج من حلقته القروية الموبوءة.
ما اعنيه بأننا أمام تحديات فكرية ومعرفية وسياسية، وفي المحصلة يستتبعها تحد عملي في التأسيس لقيم تلائم العصر وتستجيب لمتطلباته، المتطلبات التي يجب توفيرها وتحصينها وتقويتها على الأقل، حتى نحافظ على وجودنا القومي وهويتنا السياسية والثقافية.
من سجن عدرا المركزي بدمشق *