الاعلام، الاعلام. فتّش عن الاعلام. وجمهوره الواسع الذي تربّى على يده… فصار صاحب ذائقة تلفزيونية، وجدان تلفزيوني، «عقل» تلفزيوني. الاعلام وجمهوره، هو الذي يحول فيلما عاديا الى تحفة فنية. ومخرجه الى «فلْتة» عصره. الاعلام و…، الذي يصوّب على اغنيات بعينها، هابطة، فيكرسها أغنية العرب الاولى، بتصويت من جمهور التلفزيون؛ ومؤدية الاغنية، أو مؤديها، الى نجوم النجوم، سفراؤنا الى الانسانية وعلى رأس قوائم «الاقوياء» من بيننا. الاعلام… ايضا الذي يرفع كاتبا الى مرتبة المفكرين أصحاب المشاريع الثقافية الشاهقة. الاعلام ولكن الذكاء ايضا. ذكاء كل هؤلاء المحظوظين من بيننا، ودأبهم على تأطير «إنتاجهم». على اذاعة انفسهم، تسويق أنفسهم عبر الاطر الاعلامية المتاحة. ذكاء العلاقات العامة، والجَلَد على ضجرها… والكلام دائما عن ذكائهم. لا عن فنهم أو فكرهم أو إبداعهم. ومعنى الذكاء هنا واضح: ان يعرف هذا المنتج للمعاني، الفكرية او الفنية، كيف ينتشر في سوق الترويج والترويح؛ من غير ان تكون له المؤهلات المفترض انها لازمة لهذا الانتشار ام لا.
هل تكون أحلام مستغانمي، مع غيرها من كتاب الرواية اصحاب الشيوع الواسع، هل تكون من صاحبات هذا النوع من الذكاء؟ هل يكون هذا الانتشار الواسع لكتاباتها من صنع هذا التفاعل الكيميائي مع جمهور يتذوّق أدباً معيناً، تشكّل في التربية التلفزيونية؟ أم كانت أكثر ذكاء من نظرائها اصحاب المرحلة التلفزيوية؟ فانتقلت الى الاعلام الجديد، البازغ نجمه، الاعلام الالكتروني، بأن أعطت لكِتابها عنوانا يدغْدغ «النخبة الالكترونية»؟ دغْدغة لا تتجاوز العنوان على كل حال. فصفحات الكتاب في الداخل ليس فيها شيىء من الالكترونيات. ولا حتى في الشكل…
انه كتاب أحلام مستغانمي الاخير «نسيان» .com ، وقد استحضرت الضجة الاعلامية لصدوره، وما زالت، كل اسباب الشيوع والانتشار. فكان الحافز قويا لنوع من الفضول؛ فضول من يريد ان يعرف سبب هذا الصخب، هل يستاهل…؟ فتقرأ الكتاب، ويكون العجب مما لا تتوقع.
فالكتاب، بعد «ثلاثية» صاحبته («ذاكرة الجسد»، «فوضى الحواس» و«عابر سرير») يفترض ان يكون أدبيا أيضا. أو في اقل تقدير، نوعا من انواع الكتابة. ولكن لا. لا هو رواية، ولا بحث، ولا تأملات، ولا قصص قصيرة، ولا ملحمة ولا شعر… الكتاب «مبني» على صفحات مرْسلة تتضمّن استشهادات لكبار. ومن بينها نصوص بأكملها للكاتبة نفسها من «ثلاثيتها» السابقة. ثم وصفات للنساء عن كيفية نسيان الرجال الذين أحببنَ الرجال فخذلوهن. وشيىء من يومياتها مع صديقتها المحبطة وخادمتها العاشقة. ودعوة لإنشاء «حزب النسيان». ثم «ميثاق انثوي»، بأن تكون المرأة التي سوف توقع عليه جاهزة لتلبية نداء صاحبته، مؤلفة الكتاب، ونصيحتها السديدة بالنسيان. ولا شيىء غير ذاك. بل الكثير الكثير غير ذلك، غير الادبي.
وأول هذا الكثير هو الحضور الطاغي للكاتبة نفسها. ليس الحضور التأملي او الفكري او حتى الشخصي… ولو حتى في صيغة السيرة الذاتية. بل انفلاش «الأنا» وإنبساطها على مدى الكتاب. وبالطريقة المباشرة الفجة. من غير أية لعبة، مثلا، أو فذْلكة، أو حذْلقة. ومنوال «الأنا» هذا متعدّد الاوجه. من جانب مثلا، كما اسلفنا، تستشهد المؤلفة بمقاطع بأكملها من كتبها السابقة، لا يقارَن كبْر حجمها بالكلمات القليلة التي توردها على لسان عباقرة وشعراء. وفي جوانب اخرى، لا تتردّد في الاعلان عن زعامتها المشيخية على النساء :«أية مسؤولية ان اصبح شيخة طريقة في الحب». عبارة من هذا القبيل لا تنْفك تتوالى في النص: «ليشهد الادب انني بلغت!». أو ان الذي تقوله «الاديبة» يستحق ان تأخذ به كل النساء. أو هذا الفيض من النصائح والارشادات والوصفات والمواعظ والدعوات الى الطاعة والانبهار. مثل توجهها الى «القارئة بالقول « اتمنّى ان لا تفوّتي هذا الفصل، لأنك ستحتاجين الى العودة اليه ما دمتِ حية». تقذفها الكاتبة في وجه النساء بصفتها زعيمتهن وشيختهن وامامهن… من يتذكّر الذي توّج نفسه ملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين قاطبةً؟
بعد هذا الاستنفار العالي للـ«أنا»، ماذا تنتظر من مضمون؟ على الاقل فكرة مميزة، لفتة لامعة، صورة… أي شيء يستحق كل هذا الغرور؟ (ولكن من قال ان الغرور موجب حتمي للموهبة او الابداع؟). لا تجد شيئا يستحق تعلُّمه من شيخة طريقتنا. الفكرة القديمة، القديمة جدا، بأن الرجال هم من معسكر الاشرار. الجردة ضد الرجال مليئة بالافكار المسبقة الموروثة عن الثقافة النسوية المبسّطة والمخْتصرة. وجملٌ سجعية جاهزة من قبيل «الرجال تقتلهم الحرب، النساء يقتلهن الحب» (أوفيد)… والبشرية ما زالت على زمن أوفيد الهيليني. ثم سيلٌ من الحجر يُرجم به الرجال: غير اوفياء، غير محبّين، معدومو الذاكرة، خوَنة، متنصّلين من الوعود… «حداده عليك سيكون قصيرا». الى ما هنالك من صفات محفوظة عن ظهر قلب؛ تضعها الكاتبة في نص، مرفق بأغنية من كلماته؛ تقول فيه ان مبيعاته وسرقته سوف تحطّم كل الارقام…
ولكن: بعد هذا التهشيم للرجل، ماذا تقترح شيخة الحب على نساء العرب؟ ان يفعلن «تماما كما يفعل الرجل»: أي النسيان. الوصفة التي يدور حولها الكتاب. لما النسيان بالذات لا الخيال؟ لا الخبث؟ لا المكر؟ او حتى اللعب؟ ولما الغرف من جعبة الذكورة المعادية، لا الانوثة؟ او اية حعبة اخرى، خارجة عن مجال النوع؟ والجواب بسيط: بما ان الرجال هم ابطال النسيان، فعلى النساء شن الحرب عليهم بالسلاح نفسه… «إنسيه كما ينسى الرجال»، كما نساك إنسيه. او: «عليك ان تضعيه بدورك خارج حياتك أيا كان جمال الذكريات»… أو: «سأقول لك ما فعله رجال آخرون بنساء أخريات». وبنفس الدأب، ومن غير كللْ. فتخطر بالبال الاسئلة. او ربما لا تستاهل الاسئلة. إذ تستشعر ان هناك تلاعباً ببؤس النساء العربيات. وتجاهلاً لبؤس الرجال. وهذا يفترض نقاشا آخر، لا الاستجابة لهذا التلاعب. فالدوغما إن وُجدت في هذا الكتاب، فهي «أبْلسة» الرجال، تحويلهم الى معسكر الشر، مقابل معسكر الخير، الأنثوي بطبيعة الحال. وهذه استراتيجية اعلامية ناجحة. ولكنها استراتيجية انسانية فاشلة. لا تغني ولا تسلّي؛ بل تندرج ضمن سياق الكراهيات مختلفة التصويبات: بين هنا وهناك، بين هذا وذاك، بين هؤلاء واولئك. والكراهية هي احدى التيمات او المناخات المحبّبة للاعلام؛ تسلية الجمهور بالكراهية.
اخيرا لابد من كلمة حول لغة الكتاب. انها اشتقاق من اللغة الغزلية الاولى لنزار قباني. القصائد الأكثر تهافتا لدى الشاعر السوري الكبير؛ قصائد المشاعر المراهقة. اللغة التي تتشكّل منها أغاني المطرب العراقي كاظم الساهر (حاول ان تعرف، إحصائيا، ان كان معجبو احلام مستغانمي هم ايضا من محبّي المطرب العراقي). تلك هي لغة الكاتبة. لغة غزلية خشبية، بائتة، تستمد مخيّلتها من مقارنات نزار الاولى: لغة تقيم علاقة بائخة بين الاشياء، تقليد للسوريالية، او السورياليين. فتثقلها بفكاهة مفتعلة من قبيل: «انا مجرد ممرضة لا تملك سوى حقيبة إسعافات أولية لإيقاف نزيف القلوب الانثوية عند الفراق». أو: «ان ندخل الحب بقلب من «تيفال» لا يعلّق بجدرانه شيىء من الماضي». أو:»الوعكة العاطفية تأخذ وقتا اقل. ثمة «حب» تلْتقطه النساء مثل الانفلونزا في شتاء القلب». أو «النسيان هو الكالسيوم الوحيد الذي يقاوم هشاشة العاشق امام الفراق». اللائحة طويلة. لكن اللغة عسيرة ويسيرة. يسيرة لأنها مشتقة من الإرث القباني المتوفّر. تستطيع ان تولد العشرات من العبارات والكلمات المرغوبة. لا مشكلة. اما عن كون هذه اللغة عسيرة، فلأنها لغة الاستظراف؛ تثقل دم النص، بالرغم من خفّته وإستخفافه. وتلتحم هذه اللغة مع ركاكة العاطفة، التي تتناسب بدورها مع ركاكة الدوغما المنطوية عليها؛ والقائلة بافتعال حرب مغطاة اعلاميا بين النساء والرجال!
وخذْ على توك شويات مثيرة!
dalal.elbizri@gmail.com
كاتبة لبنانية- القاهرة
المستقبل