د. مُصطفى الفقي صديق قديم، جمعتني به أنشطة ومواقف عديدة. وقد شارك معنا في عضوية مجلس الأمناء بمركز ابن خلدون لعدة سنوات وفي هيئة التدريس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، خلال الفترة التالية لخروجه من عمله كسكرتير معلومات رئيس الجمهورية. وظلت علاقتنا الشخصية ودية، يسودها الاحترام، رغم اختلاف المواقع والمواقف، فهو جزء من السُلطة القائمة (موظفاً) ونائباً عن الحزب الوطني الحاكم، أما أنا، فمُستقل، وناشط حقوقي، وداعية ديمقراطي، ومن الناقدين لهذه السُلطة، حينما يكون هناك ما يستحق النقد من وجهة نظري.
إن الفقرة أعلاه هي مُقدمة ضرورية لما سيتضمنه بقية هذا المقال من مؤاخذات وانتقادات للدكتور مصطفى الفقي، رئيس لجنة الشئون الخارجية بمجلس الشعب. فقد زار الرجل الولايات المتحدة منذ أسابيع. وضمن ما فعله في العاصمة واشنطن، كان لقاءه بحشد كبير من الأقباط، بكنيستهم الرئيسية، وهي كنيسة القديس مُرقص (سان مارك)، بضاحية فير فاكسي.
إنني لم أكن في واشنطن، ولا حتى في الولايات المتحدة، أو القارة الأمريكية كلها، أثناء زيارته، حيث كنت في المغرب لحضور مؤتمر عن الأمازيغ، وبالتالي لم أشارك في لقاء د.مصطفى الفقي بالأقباط المصريين ـ الأمريكيين. ورغم ذلك دأب د.الفقي على إقحام اسمي، تصريحاً أو تلميحاً، في عدة مقالات وتصريحات ومُقابلات تليفزيونية. أما سبب ذلك فهو اشتباك فكري بينه وبين مُحامية مصرية شابة، ونشطة في صفوف الجالية المصرية ودوائر صُنع القرار بالعاصمة الأمريكية، وهي دينا جرجس.
وقد عدت زائراً منذ أيام للعاصمة الأمريكية. فوجدت أن سيرة مصطفى ودينا على السنة المصريين، بشكل لا يقل إثارة عن سيرته مع لوسي أرسين قبل عشرين عاماً. وقيل ليّ أن السبب هذه المرة لم يكن مُغامرة عاطفية، فدينا تصغر مصطفى بحوالي أربعين عاماً. وهي بالكاد من عُمر ابنته سارة، تلميذتي السابقة. ولكن تواتر القصة هي بسبب ذلك الاشتباك الفكري بين المُحامية الشابة والسياسي العجوز. ولما لم أكن شاهد عيان، فقد جمع ليً ضابط مباحث سابق ولاجئ سياسي لاحق، هو السيد عُمر عفيفي، بناء على طلب مني، كل ما تيسر من معلومات عن الواقعة.
ففي ذلك اللقاء بين السياسي العجوز وجمهرة من أقباط المهجر، تحدث عن مكارمه الشخصية في التعاطف مع الأقباط منذ رسالة الدكتوراه، التي كانت عن أشهر شخصية قبطية في العصر الليبرالي، وهي شخصية “مكرم عبيد”، قطب حزب الوفد، والذي ذهب إلى المنفى مع سعد زغلول. ثم تحدث الفقي عن مآثر الرئيس محمد حُسني مُبارك، وحُبه الشديد للأقباط، والذي دلّل عليه، بأن من يحرسه ليلاً، هو ضابط قبطي اسمه فوزي شامخ، وأن مصر تعيش أزهى عصور ديمقراطيتها، والأقباط يعيشون عصرهم الذهبي الثاني في عهد الرئيس مُبارك، الذي جعل من عيد الميلاد الأرثوذكسي (7 يناير) أجازة رسمية لكل مصر.
واستمع له جمهور الكنيسة بأدب جمّ. وكان يمكن للّقاء أن ينتهي بسلام ووئام عند هذا الحد. ولكن السياسي العجوز، وافق على أن يُفتح باب النقاش، بعد حديث المكارم والمآثر. وليته ما فعل. فقد جاء سؤال المُحامية الحسناء مُفاجأة للرجل، وجاءت إجابته هذياناً غاضباً. فما هو السؤال الذي ما زال يُحاول الإجابة عليه، بعد ما يقرب من شهر على لقاء كنيسة القديس مُرقص؟
“ما هي العلاقة بين طول بقاء الرئيس مُبارك في السُلطة، واستمرار قانون الطوارئ وغياب الديمقراطية، والزيادة الفلكية في حوادث الفتن الطائفية؟”
قضى د. الفقي نصف حياته المهنية موظفاً دبلوماسياً، وكان مُستشاراً لسفارتنا بالهند ردحاً من الزمن، وسفيراً لمصر في النمسا ردحاً آخر. وفي تدريب الدبلوماسيين، كما في تدريب رجال ونساء المُخابرات، لا يجوز أن يفقد الشخص أعصابه أو ينفعل انفعالاً ظاهراً، يوحي للمُتعاملين معه أنه فقد توازنه. لم يُجب د.مصطفى على سؤال دينا ـ ذو المقاطع الثلاثة: طوال البقاء في السُلطة، وغياب الديمقراطية، وتزايد الفتن الطائفية. وحينما أجرى مُقابلة مع الصحفي مجدي سمعان، نشرتها صحيفة “الشروق”، (30/7/2009) حول نفس الموضوع، لم يرد على لسان الفقي: لا نص سؤال دينا، ولا الإجابة عليه. ثم في حديثين تليفزيونيين على قناة “OTV” و “الفراعين”، وأخيراً في مقالة الأسبوعي بصحيفة الأهرام (11/8/2009). وقد بدأ هجومه الإعلامي على دينا، بتعمد الاستخفاف بها، حيث قال نصاً في أول تعليق له على ذلك اللقاء، في صحيفة الشروق (30/7/2009) “تحدثت فتاة لا أتذكر اسمها الآن بهجوم شديد على مصر، وغلب على لهجتها عداؤها لمصر أكثر من كراهيتها للنظام. وهنا كان لا بد من القلق من هذا النوع من التعبيرات ولفت نظرها إلى أن ما تقوله هو جزأ من أجندة مُعادية للوطن لأن كلامها فيه تحريض الأقباط. وتحريض البهائيين والنوبيين، والتحريض على قطع المعونة. وهذه لهجة من الصعب أن يتحملها أحد… فهي تحاملت على مصر في حديثها وقالت أن حديثك (أي ما قاله) عن الأقباط مُضلل رغم أنني كنت شديد التوازن والعدالة… وقلت لها أن حديثك يضعك تحت طائلة القانون… ولاقى موقفها لوماً من الحضور، ووجّه الأب بيشوي اعتذار له مُشيّداً بموقفه من الأقباط”.
هذا كلام الفقي بين علامات تنصيص، أي أنه منقول عن لسانه وقلمه، بالحرف الواحد. وليته في ادعاءاته، أي اتهاماته، الواردة على لسانه للمُحامية دينا جرجس، اقتبس نصاً واحداً مما قالته عن “الفتاة” النكرة التي لم يتذكر اسمها!، للتدليل على ما ادعاه عليها. فالقاعدة الفقهية الشرعية هي “أن البيّنة على من ادعى” والبيّنة هي الدليل، والادعاء هو الاتهام. وأهم بيّنة هي القول المُحدد الذي يعترف به صاحبه أو يشهد عليه آخرون. وضمن الملف المعلوماتي حول لقاء كنيسة القديس مُرقص، فيلم بالصوت والصورة، طلبت من الناشط مجدي خليل الاطلاع عليه، قبل أن أدلي بدلوي في الجدل الدائر بين د.مُصطفى ودينا. ولم أكن لأفعل لولا أن د.الفقي أقحم اسمي، بادعاء إضافي في أحاديثه التليفزيونية والصحفية، وهو أن “دينا جرجس سكرتيرة سعد الدين إبراهيم”، ثم ادعى ادعاءاً آخر في تبرير مبدأ عدم تولي مصري قبطي لمنصب رئيس الجمهورية، وهو أن الدستور الأمريكي ينص على أن يكون الرئيس مسيحياً، (أي من الأغلبية)، بما أن الأغلبية مسيحية.
وفيما يلي تعليقاتي، في نقاط مُحددة، حتى لا يُضيع القراء الذين يُتابعون هذا السجال بين د.مصطفى ودينا.
1ـ أنه لا يوجد في الدستور الأمريكي أي مادة تنص على دين الرئيس. فمنطوق المادة (11) من الدستور الأمريكي تقول “لا بد أن يكون المُرشح لمنصب الرئاسة قد وُلد على الأرض الأمريكية، ولا يقل عُمره عن 35 سنة”. ولا يذكر الدستور شرطاً دينياً أو طائفياً أو لغوياً أو عرقياً، من قريب أو بعيد. ولا أدري من أين أتى د.مصطفى بهذا الادعاء. وكان الجدير به، وهو حامل للدكتوراه في العلوم السياسية أن يطّلع على المصدر مُباشرة، وبنفسه، بدلاً من الاعتماد على “السماع” أو “العنعنات”. إن خطاً فادحاً، مثل هذا، وفي سياق هذا الجدل الذي يُصرّ د. الفقي على الاستمرار فيه، لابد أن يُقوّض مصداقيته، ويُلقي ظلال الشك على روايته وعلى بقية ادعاءاته، واتهاماته للمحامية الشابة، والتي كانت أكثر حرصاً في اختيار كلمات سؤالها.
2ـ إن دينا جرجس ليست “سكرتيرة” سعد الدين إبراهيم. وحتى لو كانت كذلك، فإن هذا يُشرفني من ناحية، ولا يُحط من قدرها. ووصفها بهذه الصفة، ربما كان من وجهة نظره، يُعفيه أمام القُرّاء من الرد الموضوعي على سؤالها، أو تفنيد حُججها. إن دينا جرجس مُحامية لامعة، وهي خريجة أعرق الجامعات الأمريكية، وهي جامعة فندر بلت (Vander Belt) وهي ترأس الآن مُنظمة “أصوات من أجل مصر ديمقراطية”. وهي بهذه الصفة أصبحت أشهر ناشطة حقوقية مصرية في واشنطن. وعلاقتها تاريخياً بسعد الدين إبراهيم هي مثل علاقة د.مصطفى الفقي نفسه، حيث كانت من خلال مركز ابن خلدون. فمنذ عشر سنوات كان هو عضو في مجلس أمناء المركز، وكانت هي باحثة في نفس المركز!.
3ـ شاهدت وقائع اللقاء على الفيلم الذي وصلني من كنيسة القديس مُرقص. وليت أحد القنوات المُستقلة تقوم بإعادة بثه. وطبقاً لما شاهدت فإن د. مصطفى كان الأكثر غضباً وانفعالاً، وتهديداً لدينا بأنه يمكن أن يُقاضيها على ما تقوله، رغم أنها كانت تسأل، ثم أبدت رأياً شخصياً وبأسلوب مهذب للغاية.
4ـ خلط د. مصطفى خلطاً شديداً بين وطنية دينا جرجس ونقدها لسياسات وأوضاع تخص المصريين عموماً، والأقباط خصوصاً. واعتبر هو ذلك “هجوماً على مصر”. وهذه مُمارسة عفا عليها الزمن، وتعود إلى مُمارسات خمسينات وستينات القرن الماضي ـ حيث كانت تهمة “الخيانة” جاهزة لكل من يختلف مع النظام. ولأنني أعرف دينا كما أعرف مصطفى فإنني أشهد أن وطنيتها لا تقل عن وطنيته قيد أنملة.
5ـ في المقطع الذي اقتبسناه أعلاه من كلام د. مصطفى في صحيفة “الشروق”، اتهم الرجل دينا صراحة “بتحريض الأقباط وتحريض البهائيين والنوبيين، والتحريض على قطع المعونة”. وهذه الادعاءات غير صحيحة بالمرة، حيث لم يرد على لسان دينا في لقاء الكنيسة كلمة واحدة عن البهائيين أو النوبيين أو المعونة. فمن أين أتى بكل هذه الافتراءات على المُحامية الشابة. صحيح قد يكون للبهائيين والنوبيين والشيعة مظالم تستحق التنويه. ولكنا هنا في موقع التدقيق والتحقيق فيما حدث. ومرة أخرى، يُذكّرنا ما يفعله د.مصطفى في ادعاءاته على دينا بمُمارسات الأنظمة الاستبدادية التي تُكيل لأي خصم سياسي كل ما يمكن لتشويه سُمعته، للتنكيل به (أو بها)، استعداداً لافتراسها.
فأعوذ بالله من الظلم والظالمين.
semibrahim@gmail.com