بعد تخلي القيادة الصينية عن الاقتصاد الاشتراكي المتوجه للشيوعية، وتبنيها لاقتصاد السوق وانفتاحها على العالم واستقبالها لاستثمارات أجنبية ضخمة، شهدت الصين نمواً اقتصادياً سريعاً من أعلى المعدلات العالمية تراوحت نسبته السنوية بين 8 – 10 % ، حتى وصلت أوائل هذا القرن إلى المركز السادس بعد أميركا واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا من حيث إجمالي الناتج المحلي البالغ 1.4 تريليون دولار، والمرتبة الرابعة في حجم التجارة الخارجية البالغة 850 مليار دولار، والمركز الثاني بعد اليابان في مبلغ احتياطي العملات البالغ 400 مليار دولار، علماً أنها في المرتبة الأولى من حيث عدد السكان 1.3 مليار. ويرى عدد من الخبراء الاقتصاديين أن الصين الدولة الأولى التي تجاوزت الأزمة المالية العالمية الأخيرة، وأن العالم مستقبلاً سيكون “صينياً”.
إلا أن التعملق الصيني تشوبه عيوب بنيوية لم يستطع تجاوزها ومنها اعتماده بشكل كبير على الاستثمارات الأجنبية بالإضافة إلى أن الصين من أكبر مستوردي النفط والمواد الخام، وهي موارد قد لا تستمر طويلاً. كما أن صادراتها للعالم تعاني منافسة شديدة من سلع مشابهة أكثر إتقاناً للدول الصناعية الكبرى. كما أن الصناعات الصينية هي الأكثر إهمالاً لقواعد الحفاظ على البيئة لتوفير مبالغ ضخمة تنفقها الدول المتقدمة لمنع التلوث، مما سيؤثر مستقبلاً على الوضع الصحي للبلاد بالإضافة لتأثيره العالمي.
لكن رغم النمو في الناتج الإجمالي فما يزال معدل دخل الفرد الصيني متدنياً لا يتجاوز الالف دولار. فالاعتماد على العمالة الرخيصة من أهم أسباب ارتفاع نسب النمو الصينية، وهو أمر ممكن فقط في ظل الاستبداد السياسي الذي يستمر في ممارسته الحزب الواحد المهيمن على السلطة، فالأوليغارشيا الحاكمة المحتفظة بإسم “الحزب الشيوعي”، تخلت عن الأيديولوجيا الشيوعية ولكنها لم تتخل عن السلطة، وتبرر شرعيتها بزعم قيادتها الصين إلى “مجتمع الرفاهية” المحدد كهدف للشعب الصيني لدفعه للمزيد من التضحية بحاضره من أجل مستقبل الأجيال القادمة.
لكن الأجور الضئيلة كعامل ميسر للنمو المتسارع هي في نفس الوقت أحد عيوب العملقة الصينية حيث لا يزال ما يقارب ثلثي السكان تحت خط الفقر، خاصة خارج المدن وبعيداً عن الساحل الشرقي الذي شهد ازدهاراً لم يحظ بمثله جميع السكان. وقد اعترفت السلطات بتدني أجور عامليها إلا أنها لم تفعل الشيء الكثير لرفعها، فالوسيلة الوحيدة لتحسين أوضاعهم تكتلهم المستقل عن الدولة وتشكيل حركتهم النقابية التي لا يمكن أن يسمح لها في ظل النظام الاستبدادي القائم، وقد شهد العالم كيف سحقت دباباته حركة الاحتجاج الشهيرة في ساحة تيان آن مين في العام 1989. فمزيج الاستبداد السياسي والحرية الاقتصادية وإن حقق نجاحاً أولياً، إلا أنه خلطة قلقة غير مستقرة وقابلة للتفجر في أي وقت.
ويمكن أن نضيف إلى عيوب العملقة الصينية كيفية تعامل السلطات مع أقلياتها، فإلى جانب الهان قومية الأغلبية، هناك ما لا يقل عن 50 إثنية قومية ودينية لم تتمكن السلطة الاستبدادية من دمجها في المجتمع الصيني، إذ تتفجر احتجاجاتها بين الفينة والأخرى، وهو عامل معرقل إذا قورن بمجتمعات متعددة الأثنيات والأصول مثل أميركا وكندا وأستراليا والاتحاد الأوروبي حولت التعدد لعامل مساعد للتنمية بدل أن يكون عاملاً معيقاً.
وقد أبرزت هذه الحقيقة الاحتجاجات العنيفة في إقليم شينكيانغ الشمالي الغربي التي تفجرت مؤخراً لتحصد مئات القتلى وآلاف الجرحى، والتي ليست بدفع خارجي كما ادعت السلطات الصينية فأسبابها الحقيقية هي السياسة المتبعة تجاه الأقليات. فاليوغور كشعب مسلم من أصول تركمانية يعاني من تضييق السلطات على ممارسته لشعائره الدينية، علماً أنهم ليسوا المسلمين الوحيدين، البالغ عددهم في الصين ما يقارب ال100 مليون من يوغور وكازاخ وقرغيز وهوي وطاجيك وأوزبك وتتار…
القانون يمنع موظفي الحكومة من الذهاب للمساجد، وخطباء المساجد معينون من الدولة، ويرغم الطلاب والموظفين على الأكل خلال أوقات الصيام، ويمنع الحج عن غير طريق بعثة الحج الحكومية المحدودة العدد والباهظة التكاليف، وللحصول على جواز سفر لا بد من دفع كفالات مالية كبيرة. أما الموظف المتقاعد الذاهب للحج فيحرم من راتبه التقاعدي. ويرغم الرجال على حلق ذقونهم والنساء على نزع حجابهن. كما ضيقت الحكومة على دراسة اللغة العربية، وألغت تدريس اللغة اليوغورية في التعليم العالي بحجة تعارضها مع التطور العلمي. ويرى اليوغور أن ثقافتهم تدهورت وآثارهم التاريخية تعرضت للجرف والاستبدال بمنشآت سياحية.
الأهم من ذلك هو شعور اليوغور أنهم مبعدون عن الازدهار الاقتصادي الذي لم ينلهم منه نصيب وافٍ، إذ الحجم الأكبر من فرص العمل الحكومية يعود للهان حتى في إقليم اليوغور، فرغم أنهم يشكلون 60% من سكان الإقليم فإنهم لا يحصلون سوى على 12% من فرص العمل فيه، وقد ارتفع عدد السكان الهان من 6% إلى 40% بدفع من السلطات التي شجعت انتقالهم وتوطنهم في الإقليم. كما يجري التمييز ضد اليوغور في الشركات الخاصة التي تفضل عدم تشغيلهم، فإذا انتقلوا إلى مناطق أخرى يواجهون معاملة أسوأ فبعض الفنادق لا تسمح لهم بالإقامة، وإذا وجدوا عملاً فهم محاطون بالشكوك وعدم الثقة. ولا توجد قوانين في الصين تضع حداً للتمييز في سوق العمل. وقد بين عالم الاقتصاد اليوغوري، إلهام توهتي، أن نسبة البطالة في أوساط اليوغور هي الأعلى في العالم، مما دعا السلطة لاعتقاله بتهمة “انتقاد سياساتها”.
ورغم أن إقليم شينكيانغ يتمتع شكلياً بالحكم الذاتي ، ففي الواقع العملي يخضع لسيطرة تامة من السلطة المركزية، فلا يمكن لحكم ذاتي ضمن نظام شمولي إلا أن يكون صورياُ ، وهو ما أكدته تجارب الدول التي لا تعتمد نظاماً ديمقراطياً.
أحداث العنف في إقليم شينكيانغ لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة فقد سبقتها حركات احتجاج عديدة. وهي ليست القومية الوحيدة التي تحتج على تمييز السلطات والغالبية ضدها، فقد سبقتها حركات احتجاج واسعة في منطقة التيبيت في الجنوب الغربي، وآخرها في آذار 2008 التي بدأت كحركة سلمية ثم انتقلت للعنف لتتحول الجموع الغاضبة لتحطيم المحال التجارية وللقتل العشوائي للهان في العاصمة لهاسا. وقد اتهمت السلطات الصينية حينها الدالاي لاما بالتحريض على العنف الموجه من الخارج كما تتهم حالياً المعارضة اليوغورية رشيدة قدير المقيمة في المنفى، رغم أن زعيمي المعارضتين أكدوا رفضهم استخدام العنف من قبل المحتجين كما اعترضوا على أعمال منظمات متشددة تحاول استغلال المشاعر القومية والدينية لتبرير أعمالها الإرهابية.
ولا تجد السلطات الصينية لمواجهة هذه الاحتجاجات سوى الحل الامني بتوجيه قواتها لقمعها وإجراء اعتقالات واسعة للناشطين وتعريضهم للتعذيب وحرمانهم من الرعاية الصحية في السجون واعتقال أفراد من عائلاتهم، وعدم الاعتراف لأسرهم بأماكن تواجدهم أو السماح بزيارتهم، واعتمدت على قوانين مصاغة لتمكن من اعتقال أي كان لمدد طويلة دون محاكمة، فإذا قدموا لمحاكمات فإنهم ممنوعون من تكليف محامين للدفاع عنهم، فقد اعتبرت السلطة ذلك تهديداً للوحدة الوطنية فسحبت تراخيص محامين لم يتقيدوا بتعليماتها. أما القضاء فهو تابع للسلطة وينفذ ما تطلبه، ومنها إصدار أحكام بالإعدام في قضايا سياسية، فالصين صوتت ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بحظر الإعدام في العالم. وبسبب عدم الثقة بإجراءات السلطة لحماية المواطنين وبالقضاء الحكومي فإن أي احتجاج علني يتحول إلى العنف لاعتقاد الجموع أنها تقتص من الآخرين في غياب العدالة الرسمية.
هذه الإجراءات وغيرها تبين مدى ضعف الوحدة الوطنية الصينية المهدد للازدهار الاقتصادي. فالاستقرار ووحدة البلاد من أهم القضايا التي تؤرق السلطات فلا تجد لتأمين استمرارها سوى المزيد من القمع والتحكم في شؤون الاقليات والتضييق على حرياتهم، بالإضافة للغلو في تشجيع السلطات للنزعة القومية ضد الغرب واليابان لتنعكس ضد الأقليات في الداخل حيث قطاعات من الهان بعد تأجيج مشاعرها القومية، تتصرف ضد الاقليات بتشدد أكثر من حكومتها.
يتضح بعد تكرار التفجرات المجتمعية وفشل السلطات في التعامل معها بطريقة عصرية عقلانية، أن العملاق الصيني ذو أرجل من طين، من المرجح أنها لن تحتمله طويلاً إذا ظلت السلطات مصرة على حلولها غير المجدية مع تخيل أن الازدهار الاقتصادي يمكن أن يستمر طويلاً، فالإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يعوض عن ضرورة تحرير السياسة في المجتمع وبناء نظام ديمقراطي عادل يوفر حقوق الإنسان الصيني وحقوق الأقليات القومية والدينية.
ahmarw6@gmail.com
* كاتب من سوريا
العملاق الصيني وأقلياته
I believe that the oppression of the Chinese minorities is based on ideology rather than etnicity, concerning the qulity of the chinese products I think it has a marginal significans, because most of the industrial worlds products even the well known brands in the west and Japan are produced in China now adays