وما معنى أن يبقى أبداً يعيش حالماً سادراً في أمانيه وأمنياته وتمنياته، منتشياً بتدافعاتها بين أعطافه، ومتحمساً بتدفقاتها في أعماقه؟
ربما أمنيات الإنسان وتمنياته وأمانيه هي تمثلاته الذاتية في نزعته الطبيعية نحو تعلقه الدائم بالحلم والأمل والرغبة والاشتهاء والتطلع والتخطي والانجاز والموهبة والتحدي، ولذلك تمنيات الإنسان عادةً ما تفصحُ عن نزعته الدائمة نحو الإيمان بشيء ما، ذلك الإيمان الذي يتلبس غموضاً في فكرته وماهيته وحدوده وحتى في أسبابه ربما، ولكنه في النهاية يسعى إلى أن يؤسسَ لطريقةٍ ما، قد تبدو من الناحية النظرية تختال في المستحيل، ولكنها الطريقة التي تبقى مرافقةً للإنسان في أعماقهِ، تبعثه من جديد ممتلئاً بالضوء والتوهج، وتدفعه للبقاء على قيد الحياة إنساناً يتمنّى ويشتهي ويرغب ويجترح الآمال والأحلام والمشروعات الكبيرة..
الإنسان في أمنياتهِ وتمنياته الكبيرة وحتى في الصغيرة منها، ربما يجد ذاته وقد انصهرت في طاقةٍ ملهمة يبقى مسكوناً ومدفوعاً بها طيلة الوقت، قد تتجلى في بعض الأحيان في طريقةٍ ما يعايشها بكل اندفاعاته وحماساته واعتقاداته ويقينياته أيضاً، إنها الطريقة التي يتلمس من خلالها امكانياته الذاتية في قدرته على التمنّي والحلم والاشتهاء، فالإنسان عموماً يجد نفسه في طاقةٍ ما، ويريد أن يراها ملهمة ودافعة له، بل وفاضحة في بعض الأحيان لميوله ونوازعه الذاتية، وعاكسة بالضرورة لقدرتهِ على الإيمان بشيء ما، والإيمان بأمل ما، حتى وإن كان هذا الأمل بعيداً أو مستحيلاً، فالضرورة لديه تستدعي أن يكون قادراً على الأمل والحلم والرغبة والتمنّي..
وربما تمنيات الإنسان تعني في جانب آخر، أن ذاته تنطوي على رغبات مكبوتة، رغبات لم يستطع تحقيقها أو الجهر بها، فتبقى تمنياته هي طريقته في الإفصاح داخلياً عن رغباته المكبوتة، ومن غيرها قد يجد نفسه محشوراً في مأزق نفسي وشعوري بالغ الألم والوجع والقهر، وقد لا يتغير حاله إلى الأفضل حينما يتمنّى، ولكن ربما التصاقه بتمنياته وأمنياته تجعل مأزقه النفسي قابلاً للهضم والامتصاص والاستيعاب، يتعايش معه ويحاوره ويقبل إدارته بقدرته على الإيمان بالتمنّي والحلم، ولذلك ربما كل أولئك الذين استطاعوا أن يغيّروا من واقعهم المؤلم تحت الظروف القاسية والقامعة والقاهرة، كانوا قادرين على التمنّي والحلم، انتصاراً لرغباتهم المكبوتة والمقموعة، فالمسكونون دائماً بالحلم والتمنّي والأمل والتطلع، قد يكونون قادرينَ في يوم ما على ترجمة ما كانوا يتمنونه ويحلمون به، أليستَ الأشياء دائماً تبدأ بالحلم والتمنّي، أو ربما قد تنتهي بالحلم والتمنّي.؟ وأليسَ الإنسان هو ذلك الكائن الحالم والراغب والمتمنّي.؟ وربما كان فرناندو بيسوا الشاعر البرتغالي محقاً حينما قال : ( لم أسع أبداً إلى أن أكون سوى حالم )، إنها ربما طريقة الإنسان الدائمة في اجتراح البداية، وهل البداية مهمة في حد ذاتها.؟ ربما قد تكون في غاية الأهمية، حينما تستطيع البدايات أن تهبَ الإنسان طاقة الفعل التغييري والإبداعي..
وإذا ما حاولنا أن نعرف، لماذا الإنسان في حالاته النفسية والشعورية التصاعدية، شديد الإيمان بالتمنيات والأمنيات والأحلام.؟ ربما يفعل ذلك لأنه عادةً ما يستعذِب التعلق بالأشياء غير الموجودة، أو غير المتاحة بين يديه، إنه يتمنّى كثيراً ما يفتقده كثيراً، وما ليس في حوزته، وربما يكون كثير التمنّي والحلم حينما يكون كثير الفقد وكثير الحاجة، وربما كان الإنسان كثير التمنّي، لأنه كثير اليأس، أو لأنه كثير اليأس، فكان عليه ربما أن يكون كثير التمنّي..
وربما يحب الإنسان كثيراً أن يبقى هائماً في أمنياته وتمنياته وأحلامه، يرافقها وترافقه دائماً، يبادلها شغف التواصل، ولا يقبل التخلي عنها أبداً، ربما لأن أمنياته وأمانيه استطاعت في وقتٍ ما أن تمنحَ لحياته مذاقاً آخر، أو وجهاً آخر، أو جعلته يكتشف أن للحياة معنى آخر أو أبواباً أخرى، أو لأنها قد وهبتهُ قدرةً على اجتراح أكثر من طريقة للتعامل مع الحياة حتى ولو على المستوى التخيّلي..
وقد لا يحقق الإنسان من خلال أمنياته أشياء ملموسة أو واقعية، ولكنها تجعله في مواجهة الإحباطات والعثرات أكثر حيوية وتفاؤلاً واقداماً، وقد تكون الأمنيات حتى الصغيرة منها جداً هي بمثابة عملية ترميم داخلي للإحباطات والتراجعات، وربما هوَ بذلك يريد أن يقول أن مَن لا يستطيع التمنّي قد لا يقدر على الاختيار، اختيار الأسلوب أو الطريقة أو حتى البداية ربما، أو إن مَن لا يستطيع التمنّي قد لا يملك رفاهية التواصل مع اندفاعاته واشتهاءاته وأحلامه، أو قد يخسر الحياة ويفقد معناها وأبجدياتها..
ولذلك ربما أولئك الذين يتواصلون بدفءٍ وحميمية ورومانسية أيضاً مع أمنياتهم وتمنياتهم وأحلامهم، يشعرون في لحظات التمنّي تلك إنهم قد حققوا انتصاراً ولو آنياً على العثرات والتلكؤات والمرارات والإحباطات، ويرون أن الحياة ليست هيَ ما يعايشونها كما هي بظروفها وأحكامها وقوانينها وفروضاتها، بل إنهم ربما أصبحوا يرون أن الحياة هي ما يتمنونها ويحلمونها ويرغبونها، كما لو أنهم يعرفون مسبقاً، بل ومتأكدون منه بأن هناكَ في نهاية الطريق شيئاً جميلاً ينتظرهم، وما الحياة في نظرهم سوى إنها تعني الانتظار الملهم لشيء جميل قادم..
وعندما يجد الإنسان أن كل ما حوله على النقيض القاسي والموجع مما يريد ويرغبُ ويتمنّى، يشعر حينها بالألم يحاصره من كل جانب، ولذلك ربما في هذه الحالة يزداد تعلقاً وتمسكاً وإيماناً أيضاً بأمنياته وأحلامه التي يجدها عبوراً نحو ما يعتبره الأنسبَ أو الأفضل أو الأجمل له ولمن حوله ومعه، ولكن أليسَ التمنّي هو أسلوب العاجز أو الحالم أو المتحايل على الواقع أو القافز عليه، ربما، وربما قد يكون أيضاً أسلوب الواثق والمكافح والراغب بشدة، ألم يكن مارتن لوثر كنـغ ـ داعية الحقوق المدنية في أمريكا ـ متمنياً وحالماً في الأساس، حينما صدحَ تشبثاً وتعلقاً بمقولته الشهيرة ( لديَّ حلم )، لينتصرَ بحلمه البهي هذا على العنصرية البغيضة، وألم يكن نيلسون مانديلا حالماً ومتمنياً هو الآخر، حينما كان في سجنه يعاني الإجهاد والوحدة والألم، وكل ما حوله كان على النقيض والبعد من أمنيته.؟ ولكنه بقيَ متمسكاً بحلمه وأمنياته للخروج من شرنقة التمييز العنصري التي كانت تفتك في شعبه وبلاده، ليرى أن الأمور في النهاية قد أذعنت لحلمه وأمنيته تلك، وأستطيع أن أقول استنتاجاً من ذلك، أن الأحرار والساعينَ إلى حياةٍ حرةٍ ونظيفة نجدهم إنسانيين في أمنياتهم وأمانيهم وأحلامهم، لأنهم إنسانيون في مأساتهم وفي أحزانهم وحتى في دموعهم أيضاً..
tloo1@hotmail.com
كاتب كويتي