تعيش انظمة الحكم العربية سلسلة تناقضات ان استمرت سوف تؤدي الى عدم استقرار وفوضى وتآكل وعنف، ففي الدول العربية ضعف للتنمية والتطوير الانساني والاداري بينما تتحكم من جانبها بمجتمع يعتمد عليها في تأمين قوته ويبخل عليها في دعمه. فالمجتمعات العربية تأخذ ما تستطيع اخذه مهما بدا ضعيفا من دولها بينما لا تناصرها ان تطلبت دعما وتضحيات. انها علاقة غريبة تلك التي انشأتها الدول العربية مع شعوبها: علاقات وقتية، فلا الشعب يشعر ان الحاكم يمثله وان الوطن وطنه، ولا الأنظمة تشعر ان الشعب ذو قيمة ابعد من الاستقرار السياسي والبقاء في الحكم. ان المواطن العربي على اختلاف اقطاره يشعر بالكثير من الغربة في بلاده، فهو يفتقد لحريته النسانية و الفكرية والسياسية التي تسمح له بدعم قادته او ايصال من يريد الى الحكم.. ان العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الدول العربية او في معظمها تزداد صعوبة ويبدو انها سائرة باتجاه الانفصال. وان كان لنا ان نلخص جوهر المشكلة: الانظمة السياسية العربية تواجه مجتمعات تتغير كل يوم بفضل التعليم والاقتصاد المتراجع والتكنولوجيا الصاعدة والعولمة الواسعة والانفتاح المتجدد، ولكن الانظمة تبقى على انظمتها ولوائحها وقراراتها وقوانينها وطريقة حكمها ومركزيتها وبيروقراطيتها البطيئة بلا مواكبة وتعديل.
وان لم تقم الدول العربية الاكبر حجما بالاصلاح فهي معرضة لاحد احتمالين: الاول وقوع حالة من التفكك الذاتي تؤدي مع الوقت لتحولها لدول مفككة تعشعش فيها الطائفية والقبلية والنزاعات على كل امر وشأن، اما الاحتمال الثاني فهو انتشار حالة عدم الاستقرار و العنف مما قد يودي بانظمتها السياسية كما عرفناها على مدى عقود طويلة. ان طريقة الحكم الفردية العائلية وطريقة الحكم القائمة على القرابة والمحسوبية في الدول الجمهورية والملكية تعود ثانية وتتحول لحالة تحد من امكانيات الاصلاح والتغير، بل تتناقض تناقضا شاملا مع مفهوم الحكم والسلطة والوطن والوطنية كما يجب ان يكون. الحكم العربي بشكله الراهن يمثل شكل من اشكال الاستئثار والسعي للاغتناء من المال العام، ويمثل احقية تاريخية وعائلية وفردية لا تحتكم للشعوب والحريات في عصر يتميز بسيادة الشعوب. وينطلق مفهوم الحكم العربي من ضعف الشعب والمساهمة في انقسامه بل وضرورة عزله تماما كما انطلق في السابق مفهوم الاستعمار من عدم استعداد الشعوب المستعمرة للحرية والاستقلال وحكم نفسها بنفسها.
ان انتقال العالم العربي نحو علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم لن تكون عملية سهلة، و لن تخلو من الغضب والعنف والفوضى والنتائج السلبية. والسبب في هذا ان معظم الحكام العرب لا يملكون خطة واضحة لكيفية اعطاء شعوبهم حق المشاركة الصادقة والانتخابات النزيهة، بل وينطلقوا من مبدأ البقاء في الحكم مدى الحياة. ان اهم ما يمكن ان يقوم به النظام العربي لتفادي مصير سلبي وواقع عربي عنيف هو تحضير الشعب للديمقراطية وتحضير الوطن للتغير، وهذا يتطلب بناءا مختلفا وتوجهات جديدة وتنازلات عن صلاحيات على مراحل وبهدوء وفي ظل بناء ثقافة جديدة حول السياسة والمساومة والحريات. ربما نجد الفارق بين النموذج البريطاني الشديد الذكاء في التحول نحو الديمقراطية في السابق وبين النموذج الفرنسي العنيف والذي نتج عنفه عن طبيعة حكامه الاكثر التصاقا بالكرسي. اليوم بريطانيا لازالت ملكية ولكن ديمقراطية اما فرنسا فتحولت جمهورية ديمقراطية بعد مرحلة عنف دامية.
لم يعد النظام الفردي مقبولا في العالم كله فالنظام الفردي يخلق الكثير من الصراعات والتناقضات الداخلية، كما انه اكثر عرضة للخطأ، واقل قدرة على تصحيح الخطأ. النظام الفردي يصنع القرار بصورة لا تأخذ جميع عناصر الموقف بعين الاعتبار. بل ادى القرار الفردي الى تدمير العراق في ظل حكم صدام حسين، وهذه الفردية قادرة على ايقاع دول عربية اخرى بأخطاء قاتلة. الانظمة الفردية لا تستطيع تحمل الرأي والرأي الاخر، ولا تستطيع السماح لرموز وطنية تشاركها الهم الوطني والقرار. والنظام الفردي لا يستطيع ان يفتح انظمته واجهزته للرقابة، ولا يسمح للصحف او التلفزة او المدونات بتناول الموضوعات الجادة. في هذه الدول الحريات بحاجة لمن يناضل من اجلها ويسعى لنيلها. لهذا تنشأ في هذه المجتمعات صور من الدعم للنظام لا تعكس الحقيقة، وصور من الخوف هي تمهيد لتحدي هذا الخوف كما حصل في ايران مؤخرا.
ان العالم العربي متعطش لتغير شكل العلاقة بين الحاكم المحكوم، وما وقع في ايران ليس حدثا ايرانيا فحسب، بل هو حدث له امتدادات عربية، فبأمكانه ان يقع في اي دولة عربية بين يوم وليلة. العالم العربي يبحث عن نموذج يساعده على الارتقاء . النموذج الذي يتعطش له العالم العربي يقوم على الارادة الشعبية، والرقابة على الحكم، والمسؤولية، والحريات، واحترام الرأي الاخر، وحقوق الاقليات. لهذا بالتحديد العرب امام مفترق طريق: اما التطوير والتنمية والانفتاح الديمقراطي واما الفوضى والفشل الجماعي والضعف والتآكل.
shafgha@hotmail.com
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت