في الوقت التي تتصاعد فيه أعمال القتل والتدمير والإرهاب في كل من أفغانستان وباكستان ما بين القوات النظامية المدعومة من الغرب من جهة والجماعات الميليشاوية المتشددة المدعومة من تنظيمي القاعدة وطالبان وقوى أصولية أخرى في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى من جهة أخرى، هناك من لا يزال يراهن على إمكانية تحقيق الاستقرار والسلام في هذه البؤرة المتوترة من العالم منذ نحو ثلاثة عقود. ولعل في مقدمة هؤلاء الرئيس الأفغاني حامد كرزاي الذي حينما جاء كرئيس انتقالي لأفغانستان في عام 2001 كان يحمل معه فكرة تحويل بلاده المغلقة إلى جسر للتجارة الإقليمية. وكان مضمون الفكرة ببساطة هو تحويل جبال “الهندوكوش” من منطقة نزاع إلى حوض للتبادل التجاري الحر ما بين دول الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، خصوصا وأن هذه الدول في مجملها تحتضن ثلث سكان العالم.
لقد وجد كرزاي ورفاقه والكثيرون من الأفغان المتنورين أنه بالامكان تحقيق السلام من خلال التنمية، وأن بلدهم الفقير يمكن أن يصبح غنيا بطريقة أسرع مما لو اعتمد على المساعدات الخارجية. غير أنهم سرعان ما اكتشفوا أن تحويل الفكرة من مجرد حلم إلى واقع أمرا صعبا بسبب قوى التخلف والإرهاب التي كانت ولا تزال تستهدف حركة التجارة و قوافلها ومعابرها بالرصاص والمتفجرات والألغام. ولعل أبرز دليل على صحة ما نقول هو إقليم بادغيس الفقير في شمال أفغانستان، الذي يمكن أن يتحول إلى أحد أهم نقاط الاستراحة والتزود بالمياه والطعام للقافلات التجارية القادمة من غرب الصين ودول آسيا الوسطى، لولا حماقات الطالبانيين وأتباعهم التي دمرت شبكات المياه والإنارة المتواضعة في هذا الإقليم وزرعت أرضه رعبا وخوفا. بل والتي لا تزال تستهدف حركة تعليم النساء وتثقيفهن باعتبارها العنصر الرئيسي في التنمية بحسب ما قالته رئيسة دائرة الشئون النسوية في الإقليم “حليمة راليبيما” والتي أضافت أنها لم تستطع مبارحة إقليمها لمدة عامين وتحول كل ما فعلته من اجل بنات جنسها منذ عام 2001 إلى هباء بسبب تهديدات الطالبانيين لها ولمن يعملون معها.
وهذا تحديدا ما اشتكى منه كرزاي وأوضحه لمضيفيه الباكستانيين في 13 مايو المنصرم، ولاحقا في القمة التي جمعته مع نظيريه الإيراني والباكستاني في طهران. حيث اشتكى من عنف متصاعد يستهدف مشاريع التنمية الاقتصادية في صورة حرق الآليات ومنشآت البناء وقتل العاملين فيها ونهب ما تطاله الأيدي من بضائع وأدوات. وهذا أيضا ما اكتشفه الصينيون قبل وقت طويل جدا، فلجأوا إلى تأجيل الكثير من مشاريعهم في أفغانستان لسنوات طويلة خوفا من القتل والخطف والخسارة المادية.
وبطبيعة الحال لم يحصر الرئيس الأفغاني مشاكل التنمية في بلاده في تصاعد العنف والإرهاب وحده، لكنه اعتبر العنف و الإرهاب هو التحدي الأكبر وربما الأثقل وطأة من عوامل أخرى مثل ضعف البنية التحتية وانعدام الكفاءات المطلوبة.
ويبدو اليوم أن ما تخوف منه كرزاي ورفاقه قد تحول إلى مأزق كبير في ظل اضطرار مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال إلى هجر منازلهم ومدنهم في المناطق الحدودية ما بين أفغانستان وباكستان بسبب استمرار الأعمال الحربية والقتالية. وهذا المشهد الذي يذكرنا بما كان يجري زمن الاحتلال السوفياتي لأفغانستان – مع اختلاف اتجاه الهجرة ونمط العلاقة ما بين كابول وإسلام آباد – لاشك انه يفرض تكاليف إضافية للتنمية، كي لا نقول باستحالة القيام بالتنمية المطلوبة الحائلة دون المنازعات والحروب.
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية و الدول الغربية الحليفة لها وبنك التنمية الآسيوي وحلف الناتو قد طورت وزادت مساعداتها التنموية خلال الأعوام الثمانية الماضية لأفغانستان كوسيلة من وسائل القضاء على التشدد والتطرف والأعمال الإرهابية. وصحيح أن الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة باراك أوباما وضعت لنفسها استراتيجية مختلفة فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الشأن الأفغاني الشائك، قوامها مقاومة الحركات المتشددة في باكستان وأفغانستان عبر إرسال المزيد من القوات للقتال على الجبهة الأفغانية، وفي الوقت نفسه عبر زيادة حجم المساعدات المالية ودعم خطط التنمية الاجتماعية. غير أن الهدف النهائي المطلوب – وهو أن تضع دول جنوب آسيا وآسيا الوسطى معا يدها مع المجتمع الدولي و الولايات المتحدة وحليفاتها من اجل كسب معركة الرخاء والتنمية المستدامة والسلام المشترك – أمر تظلله الشكوك بسبب عقد موروثة من الماضي أو بسبب خلافات حول الحدود الجغرافية أو بسبب تنافس إقليمي لا معنى له إطلاقا.
وطبقا لمساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشئون جنوب ووسط آسيا “ريتشارد بوتشير”، فانه “سيكون أمرا عظيما لو نجحنا في إفهام دول المنطقة أن أفغانستان لم تعد مشكلة وإنما صارت اليوم فرصة يمكن استغلالها لجهة التبادل التجاري والربط الكهربائي والاستثمار في شبكات الاتصالات”. وفي هذا السياق ضرب المسئول الأمريكي مثلا حول الطريق السريع القائم حاليا والذي يربط ما بين “ألماتي” عاصمة كازاخستان وكراتشي، الميناء التجاري لباكستان على بحر العرب، إذ اعتبره نموذجا لما يمكن القيام به – بالتعاون مع الأمم المتحدة والدول والمنظمات المانحة – لإعطاء أفغانستان منفذا بحريا، يسهل عليها الاتجار مع العالم الخارجي، ويخرج أبناءها من العزلة الجغرافية الخانقة.
وجملة القول أنه لئن كان الوضع سوداويا ويسير من سيء إلى أسوأ في ظل تصاعد العنف وتزايد الانقسامات في أفغانستان، فانه في المقابل حدثت بعض التطورات الايجابية الطفيفة. أحد الأمثلة على هذه التطورات هو أنه في عام 2003 أقدمت طهران على إبرام عدة اتفاقيات مع كابول محرضة إياها على التغلب على وضعها الجغرافي كدولة مغلقة – غير مطلة على البحار- باستخدام ميناء “تشابهار” الإيراني المطل على الخليج، وذلك كبديل لميناء كراتشي الباكستاني الذي ظل تقليديا يخدم تجارة أفغانستان. وبسبب المنافسة والعداء ما بين الهند وباكستان، رأينا نيودلهي تضع كل ثقلها خلف الفكرة الإيرانية. فهي لم تكتف مثلا ببناء ميناء “تشابهار” وإنما قامت أيضا ببناء شبكة الطرق والأنفاق الضرورية لربط أفغانستان به. وكرد على الخطوة الهندية، قامت إسلام آباد، ومن ورائها حليفتها الصينية، بتطوير ميناء “جوادر” البلوشي المطل على بحر العرب، ليكون حوضا للتبادل التجاري الحر، ومركزا لخدمة النمو التجاري والصناعي الهائل في الصين، ولا سيما في الأجزاء الحدودية المتاخمة لباكستان.
ومن جهة ثانية، فانه نظرا لأهمية الموانيء الباكستانية فيما يتعلق بالجهد الحربي والقتالي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان، استأثرت هذه الموانيء باهتمام الأمريكيين الذين لم يدخروا وسعا من اجل تطوير منشآتها وتحصينها ضد الأعمال التخريبية.
ومن الأمثلة الأخرى على التطورات الايجابية آنفة الذكر، ظهور نوع من الثقة والإحساس بضرورة الشراكة ما بين كابول وإسلام آباد لأول مرة منذ عقود من العلاقات البينية المتوترة أو المتوجسة. وهذا الذي ظهرت تجلياته في مذكرة تفاهم وقعت في السادس من مايو المنصرم حول انتقال البضائع والأشخاص، أنهى نصف قرن من الجدل والمراوحة وأرسى عهدا جديدا بحسب وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون التي شهدت الحدث وأشادت به كخطوة ضرورية نحو السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة.
مثال أخير في السياق نفسه، هو أن ما كانت تروجه حركة طالبان وأعوانها بأن الغرب لم يعد يكترث لأحوال الأفغان وتحسين معيشتهم والاهتمام بتنمية أقاليمهم، صار كلاما لا ينطلي بسهولة على الأفغان، في ظل ثورة الاتصالات الراهنة التي فتحت أعين وآذان الكثيرين من الشعب الأفغاني على ما يجري حولهم. غير أن هناك من يحذر من استمرار تأخير مشروعات التنمية الهادفة إلى تحسين أحوال جموع الشعب الأفغاني، بمعنى أن أي تأجيل جديد في مد شبكات الطرق والإنارة والمياه الضرورية لتنشيط حركة التجارة وانتقال الأفراد والبضائع عبر الإقليم النائية مثل بادغيس، سوف يصب في مصلحة الطالبانيين، بل و يدفع بعض الموالين لحكومة كرزاي إلى التمرد والالتحاق بالمتمردين على السلطة المركزية في كابول.
ويقول قائد العمليات في قيادة حلف الناتو في أفغانستان الجنرال مايكل توكير: أن أحد أسباب عدم تحقيق قواته لنجاحات حاسمة على الأرض الأفغانية هو غياب تأمين طرق الحركة والمرور والإمداد ضد الهجمات الفجائية من قبل المتمردين، وبما استطاع معه هؤلاء السيطرة على الطرق السريعة الحيوية. ويضيف الجنرال الذي سيترك أفغانستان هذا الصيف ليقود قوات بلاده المرابطة في كوريا الجنوبية قائلا: أن ذلك لم يكن فقط بسبب عدم وجود العدد الكافي من المروحات القتالية التي يمكن أن تقوم بعمل رائع في هكذا وضع، وإنما أيضا بسبب انتفاء وجود قواعد صغيرة محصنة على جانبي الطرقات السريعة كي تهبط فيها تلك المروحيات من اجل التزود بالوقود والذخائر، ناهيك عن تحول قاعدة قندهار إلى مكان للراحة والاستجمام والتشمس بدلا من أن يكون مركزا للاستجابة السريعة لما يطلبه العاملون على جبهات القتال. ويرى الجنرال الأمريكي أن ما يجب أن تقوم به قوات الناتو المكونة في غالبيتها العظمى من الجنود الأسبان الآن هو الصراع من اجل استعادة السيطرة على الطرق السريعة، لأنها – بحسبه – هي مفتاح السلام والتنمية، ولا سيما الطريق الذي يربط العاصمة كابول بمدينة قندهار الجنوبية، حيث أظهرت الإحصاءات التي جمعتها منظمة الناتو أنه كلما زادت سيطرة القوات النظامية وقوات التحالف على الطرق السريعة وبالتالي قلت هجمات المتمردين عليها، كلما ارتفع حجم استخدام الشاحنات لها، والعكس بالعكس.
* باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh