حزيران من كل عام فرصة لتذكر حروب الدول العربية بعد الاستقلال وفائدة تكرارها بعد أن جربت طوال نصف قرن. وقد استغرق العرب زمناً ليدركوا دروس ومغزى هزيمة حزيران المدوية لجيوش دول الطوق واحتلال أجزاء من أراضيها، فقوى مؤثرة حاولت اعتبارها نصراً لمجرد أنها لم تسقط الأنظمة “الوطنية التقدمية” حينها. ومن الطريف أن البعض قبلها كهزيمة مع تجيير مسؤوليتها لطبقة “البورجوازية الصغيرة” الحاكمة!
أدرك جمال عبد الناصر حجم “النكسة” فسارع للاستقالة ثم تراجع عنها ليهيئ “لإزالة آثار العدوان” والقبول بحلول سلمية بالموافقة على مشروع روجرز ممهداً لخلفه السادات، أول من أقتنع بأن إسرائيل حقيقة واقعة دولية، الاعتراف بها وإقرار السلام معها الطريق الأفضل لاسترداد الاراضي المحتلة عام 67 والتمكن من توجيه كل الجهود للبناء الداخلي. وبعد تخوين السادات لعقدين وصلت الدول العربية لنفس النتيجة التي وصل إليها لتعلن مبادرتها للسلام مقابل الأرض، الموافق عليها بالإجماع في مؤتمر قمة بيروت 2002.
إلا أن الرافضين للحل التفاوضي السلمي من الجانبين المصرين على إفشاله، نجحوا في إعاقته على المسار الفلسطيني حيث أدت عسكرة الانتفاضة وعمليات حماس ضد المدنيين لتنامي التطرف في المجتمع الإسرائيلي وتزايد المصوتين في الانتخابات لأنصار التوسع والحرب عقب كل سلسلة عمليات انتحارية أو رشقات من الصواريخ على المدن الإسرائيلية. وكما أضاع العرب فرصة إقامة دولة فلسطينية على الأرض المقررة في قرار التقسيم الدولي، كان تصدي حماس لاتفاقية أوسلو أهم عوامل إضاعة الفرصة الثانية لإقامة الدولة. والمشكلة ليست فقط في حماس بل أيضاً في قطاعات واسعة ما زالت تعتقد أن العمل المسلح يمكن أن يحقق شيئاً رغم الحروب العديدة الفاشلة.
ولإزكاء جذوة هذا الاعتقاد ومنع انطفائه تبعاً للوقائع والنتائج الأليمة للحروب المتوالية كان لا بد في كل مرة من إعلان انتصارات ما حتى لو كانت وهمية. فقد أعلنت حماس “انتصارها” عندما أخلت إسرائيل قواتها ومدنييها من القطاع، علماً بأنه لم يكن هدفاً لتوسعها الاستيطاني، مع ترك الباب مفتوحاً لإمكانية عودة قواتها. وهو ما حصل مؤخراً في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وإعمال القتل والتخريب فيه رداً على صواريخ حماس، ثم ليصبح خروجها بعد إنهاء مهمتها مناسبة أخرى لحماس لتعلن “انتصاراً” آخر رغم النتائج المروعة.
كل عملية دخول وخروج إسرائيلية للقطاع مستقبلاً هي مسبقاً “نصراً” لحماس! في الدخول الصراخ أمام الرأي العام العالمي لإدانة ممارسات إسرائيل الوحشية ضد الأطفال والنساء، وفي الخروج يعلن القادة بعد ترك مخابئهم “الانتصار” لأن إسرائيل لم تبق قواتها في القطاع ولأن حماس لم يقض عليها. علماً بأنه كما يبدو لا مصلحة لإسرائيل في القضاء على حماس فبدل سلطة موحدة في القطاع والضفة تواجه الآن سلطتان متعاديتان ومتقاتلتان.
ويصل الانتشاء بالنصر الوهمي حد الهذيان ليعلن القادة مؤخراً إن “..حرب غزة نقطة تحول في الصراع مع العدو الصهيوني تؤسس لاستراتيجية تحرير تمتد من فلسطين لكل مكان..”! و..”أجبرنا العدو على الانسحاب دون أن يحقق شيئاً”! فخمسة آلاف منزل مدمر و1200 قتيل وآلاف الجرحى وعشرات آلاف المشردين وخسائر مادية بالمليارات لا شيء يذكر في عرف “المنتصر” الهاذي، فالنصر برأيه لا علاقة له بالوقائع والتكاليف البشرية والمادية، بل بحاجة الملتفين حول معسكر الممانعة لتغذية دورية بالانتصارات الإعلامية.
فيما الانتصارات الحقيقية لحماس : “الانتصار” على الديمقراطية الفلسطينية بالقيام بانقلابها العسكري في غزة، شق الحركة الوطنية الفلسطينية وتقسيم الأراضي الفلسطينية، تقديم القطاع ورقة مساومة للمحور الإيراني الساعي للنفوذ في المنطقة على حساب القضية الفلسطينية، وتحويل المواجهة مع إسرائيل إلى مواجهة مع السلطة الفلسطينية، فقد دعت لانتفاضة ضدها في الضفة “لتنتصر الضفة كما انتصرت غزة”!. والحسرة على عهد اليسار الذي رغم عيوبه كان يميز بين التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي.
تسير حماس على خطى إعلان الانتصارات الوهمية التي ابتدعها حزب الله في لبنان فالخروج الأول من الجنوب في العام 2000 يحتفل به الحزب كل عام رغم أن إسرائيل لم تحتل جنوب لبنان للتوسع بل لتوفير الأمن لحدودها وانسحبت بعد أن أخذت ضمانات دولية بعدم تعرض حدودها الشمالية لعمليات مسلحة. وقد سارعت للعودة في تموز 2006 عند خرق الحزب لهدوء دام ست سنوات، وخرجت بعد إقامة منطقة عازلة حتى الليطاني خالية من المسلحين واستقدام المزيد من القوات الدولية وعودة الجيش اللبناني للجنوب بعد منعه طويلاً من قبل الحزب. هذا الخروج تحول إلى “نصر إلهي”، كما تحول اجتياح بيروت في 7 أيار الماضي والاحتفال بذكراه منذ أسابيع باعتباره “يوماً مجيداً” إلى انتصار للميليشيا على مواطنين لبنانيين وحكومة الغالبية.
وتترافق الانتصارات الوهمية عادة مع تخوين أية أصوات تشكك فيها أو تنتقد الحروب وطرق إدارتها وضرورتها أصلاً أو تدعو لمحاسبة المتسبب بها وبنتائجها المروعة، دون تعلم شيء من نقد الرأي العام الإسرائيلي العلني لقادته إثر كل حرب وتشكيل لجان تحقيق رسمية ومحاسبتهم لأخطائهم حتى محاكمتهم.
وسبق انتصارات الميليشيات الأصولية انتصارات الأنظمة الاستبدادية كإعلان الانتصار في حرب اكتوبررغم أنه عند وقف إطلاق النار كانت القوات الإسرائيلية على بعد 100 كيلومتر من القاهرة و40 كيلومتراً من دمشق، ولو استمر القتال للحقت بالعرب هزيمة أكبر من هزيمة حزيران. أما النظام الصدامي فقد أعلن الانتصار في حربه العبثية مع إيران التي كانت في حقيقتها كارثة مروعة بشرياً ومادياً للطرفين دون أن يجنوا منها أية فوائد عملية.
وحتى عندما فرت القوات العراقية من الكويت أمام قوات التحالف الدولي ووقع النظام العراقي اتفاقية صفوان التي مهدت لتكبيل العراق بقرارات دولية وفرق تفتيش ومنع طيران وحصار اقتصادي وانسحاب من إقليم كردستان..، لم يتورع النظام الاستبدادي عن إعلان انتصاره لأنه ما زال قائماً ومستمراً في الممانعة! بالإضافة للانتصار الفريد من نوعه فيما بعد لما سمي بالمقاومة العراقية في قتل عشرات آلاف المدنيين العراقيين لإثبات أن قوات التحالف الدولية لم تستطع أن توفر الأمن للعراقيين بعد احتلال العراق. وهو في حقيقته انتصاراً في تأخير انسحاب هذه القوات إلى أن تصبح الحكومة العراقية المنتخبة قادرة على السيطرة على الوضع الأمني دون الحاجة لدعم خارجي.
إعلان انتصارات وهمية ضروري لبقاء الأنظمة الشمولية وعدم انهيارها نتيجة المغامرات الحربية التي تخوضها، وهو ضروري لشارع تحكم المشاعر والعواطف غالبيته بعيداً عن الوقائع والتحليل العقلاني لها، كما لمنظمات أصولية مسلحة بحاجة لانتصارات وهمية لتستمر في حشدها للأنصار تمهيداً للاستيلاء على السلطة في بلدانها بالانتخابات إذا كان ذلك ممكناً أو بالقوة المسلحة إن احتاج الأمر.
لا يمكن اختصار الحرب الحديثة في ثنائية النصر أو الهزيمة إذ لا بد من تحليل دوافعها ونتائجها. ويمكن رفضها إذا كانت هناك وسائل أخرى أقل كلفة للوصول لنتائج دون الحاجة للحروب، فقد خاض العرب حروب متوالية دون أن يستردوا شبراً واحداً بينما استردت مصر كامل أراضيها المحتلة بالتفاوض وإقرار السلام. وحالياً تسعى سوريا والسلطة الفلسطينية لحل تفاوضي يعيد الارض مقابل السلام والاعتراف. أما الممانعين المقاومين الذين لم يتعلموا من دروس الحروب المكلفة فيكررون المجرب الفاشل، ليقول عنهم المثل الشعبي “من جرب المجرب عقله مخرب”.
الانتصار الحقيقي لأي بلد في العالم هو في التقدم والبناء وتطوير القدرات العلمية والتكنولوجية والصناعية وتوفير الحريات وحياة أفضل لشعبه وتأهيل أفراده بالعلم والمعرفة ليتمكنوا من ابتكار كل ما يمكن أن يطور الحياة ويجعلها أكثر متعة. وربما يجب أخذ العبرة من ألمانيا واليابان التي رغم هزيمتها الكاملة في الحرب العالمية لم تستهلك نصف القرن المنصرم في التحضير للحروب أو خوضها لاسترداد الأراضي، إذ نبذتها كلياً وركزت جهودها على تطوير بلدانها وحياة مواطنيها حتى أصبحت في عداد الأكثر تقدماً وثراء ورفاهية في العالم.
وفي ميزان تقييم الانتصارات الحقيقية والوهمية يبدو انتصار المرأة الكويتية الأخير في الانتخابات التشريعية أكثر أهمية من أية انتصارات لجيوش نظامية أو لمسلحي ميليشيات الممانعة والمقاومة.
ahmarw6@gmail.com
من حزيران إلى غزة : ماذا جنى العرب من حروبهم الأخ الكريم أبا شكري – وهو لقبك الحركي عندما كنت يساريا ومن أصدق الكوادر – المانيا واليابان لم يتعرضا لاحتلال استيطاني لم يكتف بسرقة الأرض وإنما يحاول استكمال مشروعه العنصري وهيمنة النجمة اليهودية على سائر المنطقة الممتدة من الربع الخالي إلى نواكشوط . نعم معك حق لم يرتق العرب الى مستوى عدوهم وعوضوا عن هذا العجز بتنظيرات شتى تراوحت من اليسارية الطفولية الى الدينية الظلامية الجاهلة , وفي ظني ان العرب مطالبون بالارتقاء الى مستوى القوى التي تقف وراء عدوهم وهي الغرب الاوروبي , وعلى هذا فالمعركة طويلة وسوف تستغرق… قراءة المزيد ..