فيما كانت باكستان تخوض حربا داخلية في إقليم وادي سوات ضد فلول القاعدة وحلفائها من الطالبانيين والمتشددين، وكانت النيبال تعيش مأزقا سياسيا داخليا بسبب التنافس على إدارة البلاد ما بين الماويين و خصومهم السياسيين على خلفية إقالة قائد الجيش، وكانت الهند تشهد عرسها الانتخابي الخامس عشر منذ الاستقلال وسط أجواء من الأمن والاستقرار والمشاركة الحضارية، كانت القوات المسلحة السريلانكية تسدد ضربات موجعة غير مسبوقة إلى قوات نمور التاميل الانفصالية. وهكذا لم يأت يوم التاسع عشر من مايو/ أيار الجاري إلا وكان الرئيس السريلانكي ماهيندا راجاباكسا يعلن رسميا خلال جلسة برلمانية إلحاق الهزيمة الساحقة بجماعة نمور التاميل والقضاء على زعيمها “فيلو بيلاي براباكاران” مع اثنين من أهم مساعديه ( بوتو أمان و سوساي) وتعهده بتوحيد الأمة مجددا دون تمييز عرقي أو ديني. وبهذا التطور السريع وغير المتوقع يكون الستار قد أسدل على واحدة من أطول الحروب الأهلية وأكثرها قسوة ودموية وشراسة في جنوب آسيا.
26 عاما من الحرب الأهلية
فعلى مدى 26 عاما متواصلا ابتداء من عام 1983 لجأت الأقلية التاميلية في سريلانكا بقيادة ميليشيات جبهة تحرير نمور تاميل إيلام التي كانت قد تأسست في عام 1972 كرد فعل غاضب على اعتماد كولومبو للديانة البوذية كديانة رسمية لسريلانكا انطلاقا من معاقلها في شبه جزيرة جفنة بشمال غرب البلاد – إلى توجيه ضربات عسكرية مؤلمة، والقيام بعمليات انتحارية وحشية بحق عناصر الجيش النظامي والبنى التحتية وبعض الأهداف المدنية كمحطات سكك الحديد والمطارات والأسواق ومكاتب الحكومة والمنتجعات السياحية، بل قيل أن هذه الجماعة تحديدا هي التي اخترعت عمليات التفجير الانتحارية و قتل خصومها بالأحزمة الناسفة، على نحو ما فعلته إحدى مجنداتها بحق رئيس الحكومة الهندية الأسبق راجيف غاندي في مطار مدراس بولاية تاميل نادو في عام 1991 ، بدعوى تحالف الأخير مع كولومبو ضد التاميل خوفا من انسلاخ ولاية تاميل نادو عن التراب الهندي.
إقامة وطن مستقل باسم تاميل ايلام
ولم تدخر هذه الميليشيات بقيادة براباكاران وزملائه أي وسيلة لتحقيق أهدافها المعلنة والمتمثلة في إقامة وطن مستقل ومنفصل عن سريلانكا في شبه جزيرة جفنة تحت اسم “دولة تاميل ايلام”، على الرغم من أن الأقلية التاميلية منتشرة في أماكن أخرى من البلاد ولا يمكن فصلهم بسهولة عن الأكثرية السنهالية إلا على طريقة التهجير القسري كما حدث وقت انفصال باكستان عن الهند البريطانية.
تجنيد الأطفال دون إرادتهم
وتضمنت الوسائل التي استخدمها نمور التاميل للوصول إلى أهدافهم – طبقا لما هو موثق في التقارير والمقابلات الإخبارية المحايدة – أشياء من قبيل تجنيد الأطفال ودفعهم إلى ساحات المعارك دون إرادتهم، بل خطفهم من أسرهم تحت جنح الظلام واقتيادهم إلى معسكرات بعيدة لإجراء عملية غسيل دماغ لهم يخرجون على أثرها وهم لا يعرفون سوى الطاعة العمياء للزعيم الأعلى براباكاران والولاء له، وبذل الغالي والنفيس من اجله، وعدم الكشف عن أي أسرار تتعلق به باعتباره الوالد والقائد والمحرر. ومن هنا كانت قيادة نمور التاميل تزود مقاتليها الصغار بالسموم كي يتناولوها عند إحساسهم بأخطار قرب وقوعهم في كمائن الجيش، وكان هؤلاء لا يترددون في هذا العمل البشع من اجل براباكاران. وهذا الأخير لم يكن، بسبب تفكيره الدموي وميوله التسلطية وغريزة عبادة الشخصية المتجذرة فيه، مسئولا فحسب عن مقتل مالا يقل عن 70 ألف بريء من أتباعه على مدى السنوات الست والعشرين الماضية، ولم يكن مسئولا عن الدمار والتشريد والخراب الذي لحق بفقراء التاميل خلال الأسابيع الماضية كنتيجة لتعنته ورفضه الاستسلام تحت وهم احتمالات مسارعة الغرب إلى التدخل لصالحه، وإنما كان أيضا مسئولا عما مورس بحق تاميل المهجر المنتشرين ما بين سنغافورة وكندا من عمليات ابتزاز وتهديد من اجل جمع المال لدعم المجهود الحربي لمقاتلي النمور.
عنجهية جاياواردينا
ويقول الذين راقبوا صعود وسقوط براباكاران، أن تاميل سريلانكا وقع اختيارهم عليه دون غيره كقائد في البداية، كونه كان يمثل الأمل القادر على الوقوف بانضباط وإرادة حديدية في وجه مخططات حكومة كولومبو بقيادة الرئيس ريتشارد جاياواردينا، وتمريغ سمعته في الوحل وتلقينه درسا لن ينساه، خصوصا وان الأخير على الرغم من تخرجه من جامعة أكسفورد البريطانية العريقة في تخصص التاريخ كان قارئا غير جيد للتاريخ ويتصرف بعنجهية من منطلق انه طالما أن الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل إلى جانبه فلا خوف على نظامه.
ملك غير متوج
وطبقا لهؤلاء أيضا، فان براباكاران كغيره من زعماء وقادة العالم الثالث تسربت إليه مع مضي الوقت نشوة العظمة والقوة فلم يعد يرى شيئا سوى نفسه وحاشيته المقربة. لذا لم يكن غريبا أن يتصرف في سنواته الأخيرة كطاغية أو كملك غير متوج لا يستمع إلا لنفسه، ويتصرف تصرفات هوجاء ضد مصالح شعبه. فهو الذي كان وراء الإطاحة باتفاقية سلام مع كولومبو برعاية هندية في يوليو 1987 كان بامكانها أن تحقق مكاسب للتاميل كالاعتراف بلغتهم القومية وتمتعهم بالحكم الذاتي. وهو الذي انسحب من اتفاقية سلام وتفاوض مع الحكومة السريلانكية برعاية نرويجية في عام 2002 كان بامكانها أن إقامة نظام اتحادي في سريلانكا مقابل تنازل النمور عن مطلب الانفصال، ناهيك أنه كان شخصيا وراء عمليتي التخطيط الناجحتين لاغتيال رئيس البلاد الأسبق بريماسادا في مايو 1993 ووزير الخارجية السابق قادر قمر في عام 2005 .
أسباب قدرة كولومبو على حسم المعركة
يتساءل الكثيرون، وقد انتهت اليوم حرب سريلانكا الطويلة وبات الأمل في تمتع هذه البلاد الجميلة بالسلام والأمان القادرين على جذب الاستثمارات الخارجية والسياحة الاجنبية، عن الأسباب التي ساعدت كولومبو هذه المرة في حسم المعركة مع الانفصاليين لصالحها؟
الدور الصيني
في تقرير منشور لهيئة الإذاعة البريطانية، يشير صاحبه إلى الصين تحديدا بصفتها عاملا مساعدا في هذا الأمر، وان بطريقة غير مباشرة. وهذا صحيح ولم يعد سرا من الأسرار. فبكين التي سعت منذ بدايات الألفية الثالثة إلى اقتناص أية فرصة للتواجد في أية بقعة من بقاع العالم سواء عن طريق التجارة أو الاستثمار أو الاستحواذ أو الشراكة أو بيع السلاح والذخائر والتقنيات، انتهزت فرصة تنامي الرغبة لدى قادة سريلانكا لوضع حد نهائي وسريع لمشاكلهم مع الانفصاليين التاميل الموجودين أصلا على القائمة الدولية للإرهاب منذ نوفمبر 2001 ، ووجود ميزانية هائلة بمقدار 6 بلايين دولار أمريكي في عام 2009 للإنفاق على التسلح، لمد كولومبو بما تحتاجه من أحدث ما هو موجود في ترسانة الأسلحة الصينية. ويقال – طبقا لبعض الروايات – أنه على حين وعدت بكين بأن يتجاوز دعمها لكولومبو الشق التسليحي إلى الشق السياسي في صورة تعطيل أي قرار أممي في مجلس الأمن تتبناه القوى الكبرى ضد سريلانكا – تحت ضغط الأكلاف البشرية والمعاناة الإنسانية – قبل تحقيق كولومبو لانتصار حاسم ضد الانفصاليين التاميل، فان كولومبو وعدت بالمقابل أن يتم لاحقا البحث في إمكانية حصول الصينيين على قواعد بحرية بحيث يمكنهم ليس فقط حماية خطوط ناقلات النفط المتجهة إلى بلادهم من الخليج، وإنما أيضا مراقبة تحركات البحريتين الأمريكية والهندية في المحيط الهندي وبحر العرب.
بكين كررت ما فعلته في بورما وباكستان
وبهذا تكون بكين قد فعلت ما فعلته سابقا حينما استغلت الحظر المفروض على بورما لتعزيز نفوذها في الأخيرة والحصول على قواعد عسكرية وتسهيلات لوجستية في الموانيء البورمية المواجهة للساحل الغربي للهند، ثم حينما ردت على التعاون الهندي – الإيراني في مجالات التكنولوجيا والنفط والغاز بتطوير الموانيء الباكستانية على بحر العرب، ولا سيما ميناء جوادر في بلوشستان مقابل منحها تسهيلات عسكرية في الأخير لمراقبة تحركات البحرية الأمريكية، و أخيرا حينما استغلت علاقات السودان السيئة مع الغرب للنفاذ إليها ومنها إلى عموم أقطار أفريقيا السوداء ولا سيما تلك الغنية بالنفط والغاز والمعادن.
تهديدات من الغرب وتعهدات من الصين
وبكلام آخر، فيما كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعهما الهند أيضا يتحركون من اجل إيقاف المعارك في شمال وشمال شرق سريلانكا مدفوعين بعوامل إنسانية، ويهددون كولومبو بالتدخل لدى صندوق النقد الدولي لوقف مساعداتها لسريلانكا، كانت الصين تغدق الأسلحة على القوات النظامية السريلانكية، بل وتتعهد بتقديم القروض والمساعدات لحكومة كولومبو فور عودة السلام، ناهيك عن تعهداتها بإقامة مشاريع تنموية على شاكلة ميناء “هامبانتوتا” الذي أنجزته الصين في جنوب البلاد ، ومحطة الطاقة العاملة بالفحم في “نوروتش تشولا” في غرب البلاد.
دول أخرى نافست الصينيين في دعم كولومبو
ويمكن القول في السياق نفسه أن دولا أخرى – مثل باكستان وإيران وليبيا – نافست الصين في تقديم الدعم لكولومبو وان بصور اقل وضوحا، ولأسباب خاصة بها كاغاضة خصم إقليمي أو إثبات حضور على سواحل المحيط الهندي.
الأمر الذي خالف توقعات كل المراقبين
بقي أن نقول إن الأمر الذي خالف كل توقعات المراقبين هو تأثر الانتخابات الهندية العامة الأخيرة بتطورات الأوضاع في سريلانكا. إذ راهن الكثيرون أن يسارع الهنود، ولا سيما في ولاية “تاميل نادو” الجنوبية التي لا تبعد عن السواحل السريلانكية أكثر من 10 كيلومترات، و حيث يوجد حوالي 62 مليون نسمة من المواطنين المرتبطين عرقيا وثقافيا وعائليا بتاميل سريلانكا، إلى إحداث شغب من اجل الضغط على نيودلهي وحزب المؤتمر الحاكم كي يتدخلا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة وان أحزابا محلية صغيرة عديدة أعلنت من خلال مرشحيها التزامها بحماية ودعم الأقلية التاميلية في سريلانكا. غير أن شيئا من هذا لم يحدث على الإطلاق، بمعنى أن الانتخابات جرت في سياقها المرسوم، بل فاز حزب المؤتمر بعدد من المقاعد لم يكن يتوقعه.
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
elmadani@batelco.com.bh