أظهر الناخب الاندونيسي في كبرى الديمقراطيات الإسلامية مؤخرا نضجا ووعيا لا مثيل لهما عند نظرائه في الشرق الأوسط وأماكن أخرى من العالم الإسلامي، وذلك حينما حسم أمره ومنح صوته في الانتخابات التي أجريت مؤخرا في بلاده لصالح مرشحين ينتمون لأحزاب غير إسلامية. وقد وجد الكثيرون من مراقبي الشئون الاندونيسية في هذا التطور دليلا على مراقبة الناخب الاندونيسي لأداء نوابه مراقبة جيدة ومعاقبتهم إن استدعى الأمر بحجب صوته عنهم في الانتخابات التالية. وبعبارة أخرى، اضطر هذا الناخب أن يتحول إلى غيره بعدما وجد أن من اقترع له في الانتخابات السابقة، إما أنه غشه بالورع والصلاح والتقوى فيما هو في الحقيقة فاسد ومنافق وسارق، وإما أنه باع عليه من معسول الكلام الكثير لكن دون أن ينفذ أيا من وعوده ولا سيما لجهة الارتقاء بالمستويات المعيشية للغالبية الساحقة من المواطنين.
لماذا تراجعت شعبية الأحزاب الإسلامية؟
وإذا شئنا النفاذ بصورة أعمق إلى عالم السياسة الاندونيسية وما تمخضت عنه الانتخابات البرلمانية الأخيرة ، لوجدنا تراجع شعبية الأحزاب الإسلامية من 38 بالمئة في الانتخابات الماضية في عام 2004 إلى 26 بالمئة في انتخابات هذا العام، وذلك طبقا لإحصاءات ومسوحات واستطلاعات المؤسسات المستقلة المعنية بهذه الأمور. ويمكن القول أن العامل الأبرز وراء تدهور شعبية الأحزاب الإسلامية الاندونيسية – رغم بقاء تمسك الاندونيسيين بالإسلام – هو غرق هذه الأحزاب ورموزها في مظاهر الفساد والاستغلال والمحسوبية وسرقة المال العام. وهذه مظاهر عانت البلاد منها طويلا على مر العقود والأزمان منذ استقلالها في عام 1949 ، وفي ظل مختلف زعمائها. غير أن مأسسة الفساد و نفاذه إلى كافة أوصال مؤسسات الدولة والمجتمع والجيش، لم يحدث قط بالصورة التي حدثت في الحقبة السوهارتية (1966- 1998 ).
كل خلفاء سوهارتو لم يتمكنوا من استئصال الفساد
ومن هنا قيل أن الإرث الذي تركه سوهارتو يوم أن أطيح به في انتفاضة شعبية، يصعب على خلفائه حمله، كناية عن حجم ما كان قد تراكم على مدى ثلاثة عقود من الزمن من الترهل والفساد والفوضى. وقد صدق مثل هذا القول بدليل أن كل خلفاء سوهارتو ابتداء من يوسف حبيبي وانتهاء بميغاواتي سوكارنو بوتري ومرورا بعبدالرحمن وحيد، لم يستطيعوا اجتثاث الفساد، بل أن عهود بعضهم شهدت المزيد من الفساد والإفساد كنتيجة لعدم حسم الأمور أو تراخي القبضة على مفاصل الدولة أو عدم فتح قنوات الاتصال مع المواطنين إلا عبر دائرة ضيقة من الموالين.
شعار اليد الطاهرة والكف النظيف
ومع مجيء الرئيس الحالي سيسيليو بامبانغ يودويونو خلفا لميغاواتي تحت شعار اليد الطاهرة والكف النظيف والقضاء على الفاسدين وسراق المال العام وجلبهم للعدالة، شاع جو من الارتياح في صفوف المواطنين، سرعان ما استغله حزب الرفاه الإسلامي – الذي كان وقتذاك لم يمض على خروجه إلى النور سوى عامين – للتحالف مع حكومة يودويونو، على أمل إقناعها بتطبيق الشريعة الإسلامية (الهدف الأسمى لتيار الإسلام الراديكالي في اندونيسيا، رغم أن مئات الآلاف ، بل الملايين من الاندونيسيين هم في الأساس من أتباع الإسلام المتسامح المعتدل، ولا يشغلهم سوى تحسين أحوالهم المعيشية وليس الالتهاء بأمور هامشية مثل الإصرار على قانون يمنع ممارسة رياضة اليوغا أو نشر الصور والرسومات الفاحشة مثلما دأب حزب الرفاه على فعله).
الغريب أن هذا الحزب الذي يحيط نفسه بهالة من المصداقية والتقوى، متهم اليوم بانغماس رموزه في قضايا رشوة وإفساد للذمم، ويجري التحقيق معهم، الأمر الذي فشل حزب الرفاه معه في الوصول إلى هدفه وهو الحصول على 15 بالمئة من الأصوات الانتخابية (أي اقل من 1 بالمئة من الأصوات وهو ما لا يتيح له نيل أي مقعد برلماني) مقارنة بنسبة 7.2 بالمئة في انتخابات عام 2004. وقد حدثت هذه الانتكاسة لهذا الحزب الإسلامي الذي يزعم انه الأكبر اليوم في اندونيسيا، رغم المبالغ الطائلة التي أنفقها على حملاته الدعائية والتي تقاطعت في بعض الأحايين من جهة الشكل والخطاب مع حملات الأحزاب العلمانية – فالهدف هو الاستيلاء على صوت الناخب بأية طريقة، ولتسقط المباديء بعد ذلك.
يودويونو هو الفائز الأكبر
جملة القول أن كل المؤشرات تؤكد بأن الفائز الحقيقي في انتخابات اندونيسيا البرلمانية لعام 2009 والتي شارك فيها 38 حزبا سياسيا متنوع الاتجاه، والتي لن تظهر نتائجها الرسمية قبل التاسع من مايو هو الرئيس يودويونو وحزبه (الحزب الديمقراطي)، وأن الخاسر الأكبر هم الإسلاميون الذين نظر إليهم في وقت من الأوقات على أنهم البعبع الذي سيجتاح هذه البلاد ويحولها إلى بؤرة للتطرف. الأمر الآخر المثير في هذه الانتخابات هو الصورة المثيرة للشفقة التي ظهر بها حزب النضال من اجل الديمقراطية بقيادة رئيسة الجمهورية السابقة ميغاواتي سوكارنو بوتري. هذه الصورة التي حتما ستحاسب عليها في يوليو القادم حينما يجتمع أركان الحزب لانتخاب قيادة حزبية بديلة. ولسنا هنا بحاجة إلى التذكير بما فعلته هذه السيدة يوم أن دانت لها السلطة على طبق من ذهب في أعقاب سقوط سوهارتو وتواري يوسف حبيبي وتخبط عبدالرحمن وحيد. صحيح أن التركة التي ورثتها كانت ثقيلة والساحة التي وجدت نفسها فيها فجأة كانت مليئة بمتصارعين من الحجم الثقيل، والأوضاع التي وجب عليها مواجهتها كانت شاقة وصعبة، إلا أن الصحيح أيضا هو أنها تركت الأمور دون حسم لزمن طويل وجعلت عملية صنع القرار بيد مجموعة ضيقة من المقربين واللصيقين بها داخل قصر مرديكا الرئاسي، أي فعلت تماما ما فعله سلفها عبدالرحمن وحيد، الأمر الذي تشوهت معه صورة حزب النضال من اجل الديمقراطية العلماني، بالطريقة نفسها التي تشوهت بها صورة حزب النهضة الإسلامي بقيادة عبدالرحمن وحيد. هذا الحزب الذي كان في وقت من الأوقات يحشد الملايين من الأنصار في الشوارع بإيماءة من زعيمه، بل الأمر الذي استفاد منه طرفان بارزان ساعيان إلى السلطة هما : حزب غولكار الذي كان قد أسسه الديكتاتور الراحل سوهارتو ضمن ديمقراطيته الصورية، وحزب التنمية المتحد الإسلامي التوجه الذي أكمل صورة ديمقراطية سوهارتو الهزلية بالانغماس في مشاريعها مقابل بعض فتات الموائد السياسية.
اتهامات بالتزوير
ورغم أن كل المؤشرات تفيد بفوز ساحق للرئيس يودويونو وحزبه، فان الأمر لا يخلو من بعض المصاعب أمام الأخير كنتيجة لاتهامات يروجها الخاسرون حول حدوث عمليات تزوير واسعة في الاقتراع، مستخدمين تساؤلات حول كيفية إتمام انتخابات نظيفة في يوم واحد في أرخبيل مكون من 17 ألف جزيرة ويسكنها نحو ربع بليون نسمة. ولعل أكثر من يروج لهذا هو الثلاثي المستفيد من حدوث أي تراجع للحزب الديمقراطي بقيادة الرئيس يودويونو وهم : الرئيسة السابقة ميغاواتي سوكارنوبوتري والجنرالين السابقين في الجيش برابووو سوبيانتو (زوج ابنة سوهارتو المعروف باسم بينو شيه اندونيسيا كناية عن جرائمه في حق الأبرياء) ، و ويرانتو (المتهم من قبل الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في تيمور الشرقية في عام 1999). والأخيران شكلا أحزابا سياسية خاصة بهما ويطمحان اليوم من خلال عدد مقاعدهما في البرلمان إلى أن يتم تسميتهما لخوض معركة الرئاسة ونيابة الرئاسة القادمة خلفا ليودويونو ونائبه يوسف كالا ( زعيم حزب غولكار)، أو على الأقل أن يكون لهما كلمة في الأمر. وبحسب بعض الاستطلاعات فانه بامكان حزبي الرجلين أن يحصدا ما بين 2.6 بالمئة و 6.23 بالمئة من الاصوات الانتخابية وهو ما يضمن لهما تخطي حاجز 2.5 بالمئة الضروري لحصول الأحزاب على مقاعد في البرلمان بحسب الدستور. وطبقا لأحد الخبراء الدستوريين فان حزب الجنرال برابوو المعروف باسم جرينادا والذي يزعم أن عدد أنصاره يفوق 11 مليون نسمة إذا ما فاز بنسبة 6 إلى 7 بالمئة من الاصوات الانتخابية فانه سوف يلعب دورا محوريا في بناء أي تحالف لأغراض تسمية المرشح الرئاسي القادم.
العنصر الوحيد القوي في الساحة
لكن من جهة أخرى اذا ما أخذنا في الاعتبار أن ميغاواتي قد يطاح بها من قيادة حزبها عقابا لها على أداء حزبها الضعيف كما أسلفنا، وان قيادة يوسف كالا في حزب غولكار غير مستقرة بسبب انتمائه إلى جزيرة سولاويزي وليس جزيرة جاوة التي يأتي منها عادة سائر قادة البلاد وأحزابها السياسية الكبرى، وان الأحزاب الإسلامية فقدت مصداقيتها في الشارع كنتيجة لفسادها كما أسلفنا، فان العنصر الوحيد القوي الباقي في الساحة والقادر على إدارة اندونيسيا لفترة رئاسية جديدة مدتها خمس سنوات هو يودويونو الذي قد يضطر إلى تعزيز قيادته للبلاد بالتحالف مع رفاقه السابقين في المؤسسة العسكرية أو من خلال الاعتماد على رموز مثيرة للجدل لكن ذات إمكانيات مالية ضخمة تتطلبها الأوضاع الاقتصادية السيئة التي تمر بها اندونيسيا، من أمثال وزير الاقتصاد والتنسيق السابق البليونير ابوالرضا بكري، وزعيم حزب غولكار السابق اكبر تاندونغ، و تايكون الإعلام سوريا بالوه، ورئيس مجلس الشيوخ السابق زمن سوهارتو أغونغ لاكسونو
• باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية – من البحرين
elmadani@batelco.com.bh