لا يختلف المجتمع الكويتي عن المجتمع العربي او الاسلامي. ففي هذه الحضارة الممتدة عبر بحار ومحيطات وارضي شتى قلق كبير جوهره غياب الثقة. فلقد سقطت الثقة في هذه البلدان بين حاكم ومحكوم. فالحكومة لا بد ان تكون طامعة بالسرقة، والمحكوم لا بد من ان يكون طامعا بالاستئثار في الحكم. وسقطت الثقة بين الناس، فهناك نية سيئة لكل اعلان ونية سلبية لكل تصرف وهدف تآمري لكل جماعة وتكتل. ان سوء النية في السياسة وفي التفاعل بين الناس، وفي المنظمات والادارات، وفي المجالس والبرلمانات وبين المرأة والرجل وبين الانسان والانسان هو جوهر ما تعاني منه مجتمعات عربية واسلامية بكاملها، فلماذا نستغرب ما يقع في الكويت من صراخ وضجيج وصراع لمجرد انفتاح الافق الديمقراطي؟ ما يقع في الكويت هو الان اكبر من البلد والمدينة واكبر من امكانياتها وقدراتها. لقد اصاب المفكر فوكوياما عندما افرد للثقة كتابا معتبرا الثقة اساس من اساسيات الحضارة والنجاح في بناء الثروة والتقدم.
والواضح ان المجتمعات التي تخضع لثقافة الشك بسبب الثقافة، والتميز، والقبيلة، والعائلة، والطائفة والتفرقة، تتحول الى التفكك والتقاتل الداخلي. في هذه المجتمعات نجد ان الاهداف التي وضعت من اجلها القوانين الناتجة عن سقوط الثقة هي اكثر القوانين انتهاكا واقلها تطبيقا. وتتحول اللغة بين الناس وبين القادة والمعارضة وبين المدينة والباديه وبين الكبار والصغار وبين النساء والرجال والافراد الى لغة اتهام وتجريح وتشكيك.
غياب الثقة يمثل موقف من الحياة وموقف من الناس لانه يقوم على التميز وعلى العليائيه. فالذي يعبتر الاخرين غير جديرين بالثقة يجيز لنفسه لقب صاحب الثقة الاول. والذي يتهم الاخرين بلا دينيتهم او لا اخلاقيتهم يعتبر نفسه افضل من الاخرين لانه متدين واخلاقي وفق تعريفه. و الذي يتهم الاخرين بالخيانة يفترض انه الوطني الاول، بينما تهم الفساد تصدر اساسا من الذين يعتبرون انهم الشرفاء. ان لغة التعالي هي لغة خطيرة لانها تفترض السلبي بالاخرين كما و تقوم على التناقضات وتقوم على الاختلاف بين الناس على اساس مطلقات: اسود وابيض. وهذا لا يعني عدم اهمية مواجهة الفساد وغيره من الامور، ولكن الافتراض بأن الجميع فاسد، والافتراض بأن الفساد والانحراف هو الاصل هو الذي يعكس انهيار الثقة ويتحول لنسج من الخيال.
لنأخذ جامعة الكويت وقصة الاختلاط. البعض غلفها بالشرع الاسلامي وهو بريئ منها، والبعض غلفها بالعادات والتقاليد وهي ايضا برئية من هذا الامر. وكيفما نظرنا الى مسألة الاختلاط لوجدنا انها تعبير عن ضعف ثقة المشرعين الذين اقروا القانون بالجيل الشاب وضعف ثقة في نتائج التربية الاسرية ونتائج التعليم المدرسي وهي تنم عن ضعف ثقة في الفرد وحقوقه ودوره. وهذا الضعف بطبيعة الحال يترتب عليه فكر غير متفائل في المستقبل، وينظر للجيل الصاعد نظرة تحكم وتسلط وفرض. بل كيف يراد لبلد ان ينهض في ظل ازمة ثقة في اغلى ما يمتلك: الجيل الشاب والمستقبل. وهذا هو اصل الداء في الكويت: فالتشريع يتم في مجالات كثيرة اساسا للسلبيات. وما انشاء لجنة ظواهر متخصصة بالسلبيات الا دليل على سيطرة فكر متشائم وقمعي في المؤسسة التشريعية مما يعكس غياب وسقوط الثقة.
ولو اخذنا في الواقع الاداري لوجدنا ايضا سقوط للثقة بين المراتب العليا والاخرى الدنيا والوسطى. وما فرض البصمة في الكثير من المؤسسات الادليل واضح على سقوط الثقة. ففي المجتمعات الاكثر ثقة بنفسها لا تقر البصمة وما شابه الا للعمال الذين يعملون بأجر جزئي لمعرفة عدد ساعات العمل في الاسبوع ا. اما في المؤسسات التي تسود فيها روح الثقة فروح الفريق والعمل تجعل من يعمل يشعر بحرص كبير على عمله وانتاجه، فكل فرد لديه مسـؤوليات تتطلب اكثر من الساعات الرسمية للعمل.
ان كثرة اللجوء الى القوانين المانعه هو دليل ضعف ودليل غياب الثقة التي يفترض انها الاساس للشرعية: فقد تم في الكويت تشريع قانون يمنع على المرأه العمل بعد ساعه محدده، وهناك قانون يمنع منعا باتا عقد الفرعيات ويمنع التحريض، وهناك قانون يمنع الاختلاط في الجامعة، وهناك قانون يميز ضد المسيحيين من خلال نص قانون عدم تجنيسهم في الكويت تحت اي ظرف من الظروف. ان هذه القوانين تمارس التميز، وهي ليست قوانين عصرية تقوم على احترام الفرد وتقدير الناس وتنسجم مع التطور الكبير في حقوق الانسان الذي يعم الكثير من المجتمعات. كل هذا المنع في ظل استخدام القانون بصورة اكبر هو خير تعبير عن سقوط الثقة بالنفس والثقة بالاخرين افرادا وجماعات.
ان المستقبل يتطلب نمط من العمل والبناء يساهم في استعادة الثقة وبناؤها. المجتمعات التي تفقد الثقة تفقد روحها ومقدرتها على الارتقاء. لم يعد السؤال هل ننمو وهل نبدأ الاصلاح وهل نتحول لمركز مالي؟ لقد تجاوزت المرحلة هذا السـوال. بل ان السـؤ ال الاول : كيف نستعيد الثقة في مجتمعنا؟ الثقة مفتاح التنمية ومفتاح الحضارة ومفتاح اعطاء الفرص للاخرين ومفتاح تشريع قوانين تنطلق من التفاؤل.
استاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت