عندما يرمي أحدهم بالقفّاز في وجهك، فهذه دعوة إلى المجابهة والنـزال. وهذا ما فعله الأمين العام لحزب الله، الذي خرج على العالمين بالصوت والصورة، معترفا بمشاركة أعضاء من حزبه في شبكات تهريب السلاح من مصر إلى غزة.
لماذا لم يتجاهل الحزب اتهامات القاهرة، ولماذا لم ينكر صلته بالأشخاص المعنيين، ولماذا كل هذا القدر من الفصاحة والصراحة، طالما أن الأمر يتعلّق بعمليات تمس بسيادة الدولة المصرية على أراضيها؟
وحتى إذا افترضنا أن الحزب لن يتوّرع عن ممارسة دور البدر في الليلة العربية الظلماء، لماذا يصر أمينه العام على تبني الأمر بصورة شخصية، وقد كان في مقدوره الإيعاز إلى أحد مساعديه للخروج على الناس بما يفيد مشاركة الحزب في “شرف” تهريب السلاح؟
ثمة إجابات محتملة كثيرة، ليس من بينها، كما أعتقد، انخراط الحزب في مؤامرة إيرانية تستهدف زعزعة الاستقرار في مصر، لكن أعمال التهريب وتكوين شبكات سرية تؤدي في نهاية الأمر إلى نتيجة كهذه. وليس ثمة ما يبرر الكلام عن تأجيج نيران الفتنة الطائفية بين السنة والشيعة في الشرق الأوسط، كما أعلن الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز. فهذه تأويلات فائضة عن الحاجة، وتفتقر إلى منطق يضفي عليها قوّة الحقيقة.
ولعل أقرب الإجابات إلى الذهن أن دخول الحزب على خط القاهرة ـ غزة ينم عن إدراك الوقوع في مأزق يتهدد شرعية سلاحه في الحقل السياسي اللبناني نفسه، وعن مقامرة مركّبة ومعقدة للخروج من المأزق بفتح جبهات جديدة، حتى وإن كانت رمزية، تبرر حفاظه على الميليشيا والسلاح في لبنان.
لاح مأزق الحزب في الأفق مع انسحاب الإسرائيليين من جنوب لبنان. ولم تكن ذريعة مزارع شبعا مقنعة فملكيتها ما زالت موضع خلاف بين سوريا ولبنان وإمكانية، إرغام الإسرائيليين على الخروج منها بطريقة تشبه خروجهم من طابا المصرية، تبدو أكثر إقناعا في نظر الكثيرين، ناهيك عن الثمن الباهظ الذي يدفعه لبنان لقاء استمرار الحزب في شن هجمات على إسرائيل.
وقد حاول الحزب تفادي المأزق، خاصة مع تصاعد الأصوات في لبنان، وخارجه، لتمكين الدولة اللبنانية من بسط سلطتها على الجنوب، بتحويل موضوع الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية إلى أولوية على جدول الأعمال. وفي هذا السياق اختطف جنديين إسرائيليين في عملية أشعلت نار الحرب في صيف العام 2006.
قاتل الحزب بشجاعة، وألحق بالإسرائيليين خسائر غير متوّقعة، لكن خسارة لبنان واللبنانيين كانت مروّعة، وبفضلها تعمّق المأزق، إذ لم يعد الحزب قادرا على المقامرة بما لديه من شرعية ورصيد في لبنان، وخارجه، بطريقة تلحق المزيد من الأذى باللبنانيين.
وقد اغتنمت أطراف لبنانية وعربية ودولية مختلفة أجواء ما بعد الحرب للمطالبة بنـزع سلاح الميليشيات، وعلى رأسها سلاح الحزب، ووضع قرار الحرب والسلم في لبنان في يد الدولة اللبنانية. وهذا ما رد عليه الحزب بابتزاز مضاد تجلى في تكتيكات متباينة استهدفت تعطيل عمل الحكومة والدولة، وتصاعدت بطريقة درامية من خلال احتلال بيروت الغربية بالقوّة المسلحة. وهي العملية التي تمكّن بفضلها من تطويع الدولة والخصوم وخسر بفضلها، أيضا، الكثير من الثقة التي نالها في لبنان وخارجه باعتباره حركة مقاومة تستمد مبرر وشرعية وجودها من قتال الإسرائيليين.
واليوم، في المسارعة إلى تبني عمليات تهريب السلاح، وإلى رمي القفّاز في وجه النظام المصري، بطريقة تنم عن التحدي والاستخفاف في آن، ما ينم عن محاولة للخروج من مأزق الشرعية بالبحث عن منافذ جديدة خارج لبنان، تُمكّن الحزب من الحفاظ على هالة المقاومة، والالتفاف على حقيقة أن السلاح والميليشيا في لبنان أصبحا أداة لتطويع الدولة وقطاعات كبيرة من اللبنانيين، بعدما فقدا دورهما في الجنوب، وتحوّلا في الواقع إلى عبء على الدولة والمجتمع، وإلى جزء من سياسة الاحتراب والتوازنات الطائفية.
وهذا، بدوره، يحيل إلى دلالات سياسية وسوسيولوجية تتجاوز مسائل صغيرة من نوع تهريب سلاح من مكان إلى آخر. ولعل في طليعتها تحويل مفهوم المقاومة إلى أقنوم، ورفعه إلى مرتبة المقدّس، الذي لا يعترف بالدول، والحدود، والسيادة، والمصالح الوطنية. فالمقاوم صاحب حق لا يعلو عليه حق آخر، حتى وإن تسببت مقاومته في إشعال حروب أهلية، وفي تفتيت مجتمعات على أسس طائفية ومذهبية، وتعطيل دول، والحيلولة دون السلم والاستقرار الاجتماعيين.
ومع هذا وقبله وفوقه وبعده فهو صاحب حق حتى وإن ألحقت ممارسته لهذا الحق الدمار بشعبه، أو صبت الماء في طاحونة أعدائه، وخدمت أهدافهم، وعززت مصالحهم، وقوّت شوكتهم. هو صاحب حق حتى وإن كان جاهلا، أو مغامرا، أو مريضا، أو طامحا إلى سلطة لن ينالها بالشهادة والكفاءة الشخصية، و الطبقة الاجتماعية، أو الميراث العائلي.
الدلالة الثانية أن نكبة الفلسطينيين في العام 1948 فتحت الباب أمام الجيوش العربية، التي قامت بانقلابات عسكرية، وأسهمت في إنشاء أنظمة جديدة، تحوّلت إلى دكتاتوريات سافرة، ولم تربح التنمية أو الحرب. ويبدو، اليوم، أن نكبة الفلسطينيين الجديدة تفتح الباب في المشرق العربي أمام جماعات غير نظامية وميليشيات لتستولي على دول ومجتمعات. ولا ينبغي في هذا الصدد التقليل من معنى انقلاب حماس في غزة، واحتلال حزب الله لبيروت الغربية.
ثمة نماذج من نوع حروب الجهاديين في الصومال، واليمن، والجزائر، وخارج العالم العربي في أفغانستان، باكستان، وهي غير ذات صلة بالموضوع الفلسطيني، لكنها تحمل علامات جينية متشابهة.
وإذا صح هذا الكلام، وأصبحنا بالفعل في زمن ميليشيات تسعى للاستيلاء على دول، أو تحوّل مجتمعات إلى رهائن، وميليشيات عابرة للحدود، فإن ما حدث حتى الآن، في مناطق مختلفة من العالم العربي، ليس أكثر من قمة جبل الجليد: في الأعماق حراك، ودوّامات داكنة، وحيتان، وأموال كثيرة، وأيديولوجيا تحت الطلب، فما يحق للمقاوم لا يحق لغيره، بصرف النظر عن العبرة، والنتائج، وميزان الربح أو الخسارة. فالمهم أن نقاوم، والتلفزيون يتكفل بالباقي.
Khaderhas1@hotmail.com
برلين