“الشفّاف”- بيروت
إعلان رئيس حركة التجدد الديمقراطي الوزير نسيب لحود عزوفه عن الترشح للانتخابات النيابية المقبلة احتجاجا على “إعطاء الأولوية لتقاسم الحصص وتحديد الأحجام على حساب المضمون السياسي والأهداف الوطنية المتوخاة من هذه الانتخابات” هو أمر مؤسف للغاية، لأن الوزير لحود هو من الرموز الأساسية في 14 آذار ومن المساهمين في الوصول إلى لحظة انتفاضة الاستقلال ومن الشخصيات القليلة التي باستطاعتها التوفيق بين العمل التشريعي والموقف السياسي والتواصل مع الناس ومن الوجوه “المحببة” لدى الرأي العام لأنها توحي، وهي كذلك، بالثقة والاطمئنان…
وما حصل مع الوزير لحود ينسحب على آخرين وعلى رأسهم النائب سمير فرنجيه الذي يعتبر وعن حق ضمير 14 آذار ومهندس ثورة الأرز وهو من أعلن بالصوت والصورة انطلاق انتفاضة الاستقلال، هذه الظاهرة الفريدة من نوعها في التاريخ اللبناني التي أعادت توحيد اللبنانيين مسيحيين ومسلمين حول خيارات وطنية واحدة.
وقد أظهرت الطريقة التي اتبعت في تشكيل اللوائح وبت الترشيحات الانتخابية داخل حركة 14 آذار، حيث تم تغليب الطابع الفئوي على الوطني، أن هذه الحركة لم تتمكن من تحقيق النقلة المطلوبة من تيار جامع لمروحة من الحزبيين والمستقلين إلى مرحلة متقدمة من الصيغة الجبهوية السياسية.
وما تبين أيضا أن أحزاب 14 آذار اختصرت، بشكل أو بآخر، التمثيل النيابي داخل الحركة الاستقلالية. ولكن إذا كان هذا الواقع مفهوما ومبررا داخل الساحتين السنية والدرزية في ظل وجود الحزب-الطائفة، على رغم نجاح النائب سعد الحريري في الظهور بمثابة الحاضنة السياسية لمجموعة من الشخصيات السنية المستقلة بغية إقفال هذه الساحة أمام أي اختراق سوري أو حزب إلهي، فإنه غير مبرر داخل البيئة المسيحية، المعروفة تاريخيا بتنوعها وتعددها. وخصوصا أن الواقع الحزبي المسيحي، على أهميته وفعاليته، لا يختصر التمثيل السياسي المسيحي. فالأحزاب مكون من مكونات 14 آذار وليست كل الحركة.
ولكن هذا المشهد على فظاعته ومأساويته يفترض تسجيل بعض الحقائق أهمها:
أولا، أن المعركة النيابية هي معركة مصيرية ومفصلية باعتبارها ليست تنافسا تقليديا على السلطة إنما صراعا بين خيارين ومشروعين. وبالتالي سيترتب على نتائج هذه الانتخابات تزكية توجه وطني على آخر: توجه يسعى إلى استكمال ما بدأ مع انتفاضة الاستقلال، وتوجه يريد إعادة البلد إلى ما قبل هذه الانتفاضة. توجه يريد العبور إلى دولة فعلية وظروف طبيعية، وآخر يعمل على إبقاء الدولة معلقة وصورية وظروف البلد في حال استثنائية ودائمة.
ثانيا، أن المعركة هي مسيحية بامتياز. إذ يتوقف على الصوت المسيحي مصير الأكثرية الجديدة من جهة، وإثبات أن خيار ميشال عون مرفوض من المسيحيين من جهة أخرى، وهي مسؤولية تاريخية بهذا المعنى، لأن في ضوئها يتقرر مستقبل المسيحين ولبنان لفترة طويلة من الزمن.
ثالثا، أن الامتناع عن التصويت، نتيجة بازارات التوزيعات الحزبية التي حسمها اللقاء الرباعي الحزبي (تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي والكتائب اللبنانية والقوات اللبنانية) في قريطم، يعني فوز 8 آذار وتحويل الدولة في لبنان من دولة معلقة وفي حال انتقالية بين مرحلتين إلى دويلة حزب الله بالكامل، مما يعني نشوء لبنان جديد على أنقاض الصيغة القائمة.
رابعا، أن مسلمي 14 آذار وتحديدا النائب وليد جنبلاط، نتيجة ظروف موضوعية لها علاقة بأحداث السابع من أيار ومحاولاته الدؤوبة لمنع تكرارها، رفض إعطاء المعركة النيابية عنوانها أو بعدها السياسي المطلوب وهو “تحييد لبنان” باعتبار أن العبور إلى الدولة لا يتم إلا بتحييد لبنان عن الصراعات المسلحة، وبالتالي التخلي عن عنوان المعركة هو مسؤولية إسلامية ولا تتحملها الأحزاب المسيحية.
خامسا، أن المسؤولية في ما آلت إليه الترشيحات وتركيبات اللوائح هي مسؤولية مشتركة بين النائبين سعد الحريري ووليد جنبلاط والرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع، أي لقاء قريطم الرباعي، وبالتالي لا يفترض تحميل الثنائية الحزبية المسيحية وحدها مسؤولية ما آلت إليه هذه “الطبخة”، وخصوصا أنه كان في وسع كل من الحريري وجنبلاط التمسك ببعض المسيحيين المستقلين، وتخليهما عن هؤلاء المستقلين شكل مفاجأة غير مبررة.
سادسا، أن أحدا لا يختلف على مبدأ أن مصيرية المعركة النيابية تفترض توسيع إطار التحالفات وتأمين أوسع مشاركة ممكنة وعدم التعاطي مع هذه الانتخابات كأنها مجرد مناسبة لتحديد أحجام الأحزاب السياسية والزعامات المحلية، ولكن على رغم ذلك، إن صراع الأحجام في السياسة أمر مشروع، حيث أن كل حزب أو طرف يسعى إلى توسيع قاعدته التمثيلية على حساب الآخرين. وهؤلاء “الآخرين” هم، إجمالا، من البيئة ذاتها والصف نفسه والموقف عينه. والتجارب التاريخية أكبر دليل على ذلك وهي لا تشذ عن هذه القاعدة حتى في أحلك الظروف وأشدها وطأة، وما عدا ذلك نوع من “الطوباوية السياسية”.
سابعا، أن أحدا ليس في وارد التشكيك بأن الرأي العام المدني داخل 14 آذار شكل بحضوره الوازن القوة الحاسمة في انتصار انتفاضة الاستقلال واستمرارها. ولكن هذا الرأي العام غير منظم ضمن أطر معينة تزيد من قوته وفعاليته وتحول دون تجاهله كما حصل في “تركيبات اللوائح” مؤخرا. فالمسؤولية بهذا المعنى ليست على الثنائية الحزبية المسيحية، إنما على هذا الرأي العام الذي لم يتمكن من تنظيم صفوفه وتوحيد جهوده ليتحول رقما صعبا وملموسا وليس افتراضيا.
ثامنا، أن المشترك بين قوى 14 آذار لم يتجاوز وحدة الموقف السياسي من القضايا السيادية لا الإصلاحية. وهذه القوى لم تتمكن من تطوير الحركة الاستقلالية في اتجاه مؤسساتي من خلال إنشاء مجلس يضم كل مكونات 14 آذار ويعمل على صياغة وبلورة التوجه السياسي لهذه الحركة بعيدا عن أي استئثار أو اختزال للقرار السياسي على غرار ما حصل في الاجتماع الحزبي الرباعي الذي وزع الترشيحات من دون العودة إلى سائر مكونات 14 آذار.
تاسعا، أن المعركة الراهنة ليست معركة لتصفية الحسابات السياسية مع الأحزاب، لأن مشكلة هذه الأحزاب في الأساس هي مع نفسها أولا، حيث أنها ما تزال عاجزة على استيعاب المؤيدين لطروحاتها أو اجتذاب النخب للنضال في صفوفها أو إعادة تحفيز الشباب للإقبال على العمل الحزبي نتيجة غياب البنية التنظيمية التي تفسح في المجال أمام تداول السلطات الحزبية وإطلاق الحوار والعمل المؤسسي والمعالجة العقلانية للملفات السياسية. فلا يجوز، على سبيل المثال، أن تطالب الأحزاب بالديموقراطية والتعددية وتمارس نقيضهما. ومن بين الأزمات التي تعانيها الأحزاب المسيحية، والتي ظهرت بشكل واضح في الآونة الأخيرة، هو انتشارها على امتداد الجغرافيا اللبنانية وعجزها في الوقت نفسه عن ترشيح شخصيات حزبية للمعركة النيابية. وهذا أكبر دليل على غياب الشخصيات الحزبية المؤهلة لخوض غمار الشأن العام لأن هذه الأحزاب قائمة بكل بساطة على رئيس وجماهير حزبية من دون المرور بقيادات وسطى. أما محاولة استقطاب بعض المستقلين عبر توزيرهم أو تنويبهم لضمهم إلى هذه الكتلة الحزبية أو تلك، فهو علاج مؤقت وموضعي لسد حاجة وفراغ قائمين، ولا يقدم حلا جذريا للهوة القائمة بين الرأي العام والأحزاب السياسية بمجملها.
عاشرا، أن التصويب المطلوب، بمعنى تصويب مسار انتفاضة الاستقلال، هو بعد 7 حزيران وليس قبل هذا التاريخ، لأن فوز 8 آذار يعني القضاء على أي إمكانية لتصحيح الوجهة السياسية. وبالتالي يقتضي التصويت بكثافة، على رغم الإطاحة بشخصيات من الوزن الثقيل التي تعطي الحركة الاستقلالية قيمتها المضافة على المستويات الوطنية والسياسية والثقافية… التصويت بكثافة إذا من أجل فوز قوى 14 آذار بغية تحويل الانتخابات المقبلة إلى خطوة على طريق تعزيز حضور الدولة والعمل على إرساء ثقافة السلام والوصل عبر تثبيت استقلال لبنان وإنهاء إزدواجية السلاح واستكمال تطبيق اتفاق الطائف وصولا إلى دولة “مدنية، حديثة، ديمقراطية” تمكن لبنان من أداء دوره في أن يكون “مركزا دوليا لإدارة حوار الحضارات والثقافات”.
charlesjabbour@hotmail.com
التصويب بعد الفوز في الانتخابات
My head is spinning from this article and its deep analysis! Oh my God! Where do you find these geniuses? Sorry, I must go relax now cause my head is spinning