كان الموفد الرئاسي الفرنسي، فيليب ماريني، غادر دمشق الى بيروت، وأطنب في مديح السياسة السورية ودورها «المحوري» في المشرق العربي أو الشرق الأدنى، حين التقى الرئيس السوري بشار الأسد قادة «الفصائل الفلسطينية في دمشق»، على ما تسمى وتعرّف – وهذه المنظمات – ما خلا «حماس»، وأمينها العام الدمشقي الإقامة منذ وقت طويل خالد مشعل، والجهاد الإسلامي وأمينها العام رمضان عبدالله شلح صنو مشعل إقامة – هي من فتات منظمات سابقة كان لبنان ساحتها، وميدان أعمالها ومهماتها، وكانت القيادة السورية بوابتها الى لبنان وساحته وميدانه.
فمنها ما تخلف عن سياسة سورية رمت الى شق المنظمات الأخرى، المستقلة بعض الاستقلال، أو المائلة الى خصوم سورية الإقليميين. وهي حال «جبهة» أحمد جبريل المتورطة في معظم الحوادث التي أدت الى ردود إسرائيلية على لبنان وفيه. ومنها ما ورثته «الضابطة الفدائية»، أي الشرطة السورية المولجة بمراقبة الأنشطة الفلسطينية على الأراضي السورية غداة الهجرة «الفدائية» عن الأردن في 1970 – 1971، عن عراق صدام حسين. ومؤدى التصنيف هذا ان الأسد الابن لم يستقبل «قادة» ندبتهم «فتح» أو «الجبهة الشعبية» أو «الجبهة الديموقراطية» الى لقائه، وشكره على «دعمه الكبير» في حرب غزة، وإعلان «شراكته في الانتصار الكبير» على طريق «إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس». (وهذا كله في بيان الرئاسة السورية، في 28 كانون الثاني/ يناير).
ورد الرئيس السوري بإبراز «ضرورة استثمار هذا الانتصار سياسياً لتكريس الحقوق الفلسطينية بما فيها حق العودة». وانتقى الأسد عبارة كان انتقاها قبل سنتين ونصف السنة في تعليقه على حرب «حزب الله» وإسرائيل غداة حرب تموز (يوليو) – آب (أغسطس) 2006. فيومها، كذلك، دعا الخطيب «شعب لبنان» الى ترجمة انتصار «المقاومة» سياسياً. وترتب على «الانتصار» و «ترجمته السياسية» سبحة إجراءات أولها الاستقالة الشيعية من الحكومة، وتعطيلها وتعطيل المجلس النيابي تالياً (فلا ينعقد المجلس من غير مثول حكومة «شرعية» أو قانونية، على ما ينص الدستور وفسر رئيس المجلس «الشيعي»). وثانيها اضطرابات عامة قسرية ومسلحة. وثالثها احتلال قلب بيروت. ورابعها هجوم مسلح على بيروت وطرابلس وبعض الشوف والجبل.
وخامسها توريط الجيش في مناوشات على حدود الجماعات المذهبية، وسادسها «مؤتمر» الدوحة وفروعه الرئاسية والنيابية والوزارية وتطويل الإعداد لانتخابات «رؤيوية» (نهائية وكارثية) فوق السنة.
وقادت هذه كلها الى «وحدة وطنية» ثمرتها تجميد الأحوال اللبنانية، وتعليقها على انتظار عقيم. وفي الأثناء، لم تكف الاغتيالات ولم تهدأ، ما عدا في الفصل الأخير من «الترجمة السياسية»، غداة وساطة فرنسية، من حلقاتها الأخيرة زيارة الموفد المادح والمقر بالدور «المحوري» والعتيد. وقبيل استقباله الموفد الرئاسي والوفد الفلسطيني الجماعي، وهو سبق ان استقبل زعيم «حماس» خارج غزة منفرداً مرة أولى، نفى الرئيس السوري نفياً قاطعاً «مرور» العلاقة الفرنسية – السورية، وتحسنها، بلبنان. وكان وزير خارجيته، وليد المعلم، كرر على رؤوس الأشهاد ان إقرار الحكم السوري علاقة ديبلوماسية بلبنان لا شأن له بالسياسة الفرنسية، أو لا شأن للسياسة الفرنسية به، وهو ثمرة «تطور» علاقات البلدين واحدهما بالآخر. وتنفي الديبلوماسية السورية علاقة السياسة الفرنسية بالمفاوضات الإسرائيلية – السورية السابقة وغير المباشرة، والمعلقة «الى أجل غير مسمى»، على قول الأسد الابن في «قمة» الدوحة الجزئية والمحبطة (التي أحبطتها الديبلوماسية المصرية).
ويرد هذا الى «الاستثمار السياسي» الذي تدعو إليه الحكومة الأسدية «الفصائل الفلسطينية في دمشق» إليه. ونصب عينها، من غير شك، المثال اللبناني «الناجح»، على ما تصفه. والخطوة الأولى على طريق الاقتداء بالمثال هذا، والنسج على منواله، هي تثبيت «حق العودة» بنداً أول واستثنائياً. وحق العودة هو أحد بنود المبادرة العربية، السعودية قبل إقرارها في قمة بيروت (آذار/ مارس 2002). وتدعو المبادرة الى مناقشة البند هذا في إطار دولي، ولا تنكر جواز السعي في تسويتها في هذا الإطار. وتقدم عليها مسألتي الدولة الفلسطينية وحدود 1967، وتدرجها في سياقهما. المسألتان هاتان هما مرحلتاها الأوليان والراجحتان. فحين يخص الأسد الابن حق العودة بالذكر فإنما ينبه الى دوام طعنه في المبادرة العربية. وهو دعا الى نقلها الى «سجل الوفيات»، بحسب عبارته البليغة.
والحق ان «حماس» و «الجهاد» ليستا في حاجة إلى إبراز ما يضمن تعسير الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعثرها بما لا يحصى من الحواجز والكوابح. فمن «حق المقاومة» والعسكرة والصواريخ وإنشاء القواعد بين مساكن المدنيين ومرافقهم الى إقامة الدولة على «كامل التراب الفلسطيني»، ورفض الاعتراف بالدولة العبرية و «مسخها» «كياناً صهيونياً»، على ما اقترح رأس الدولة السورية في الدوحة، عاصمة حركات التحرر العربية، كذلك، الى الحق في الخروج على المجتمع الدولي وأعرافه، وإنشاء كتلة ثورية «مقاومة» – لا تعدم الوحدة الوطنية الفلسطينية المزمعة ما يلبننها لبننة حثيثة. ولن تألو السياسة السورية جهداً في السبيل المختبر والمجرّب هذا. وسبق لـ «حماس» ان أنجزت عملاً كبيراً في هذا المضمار. فهي لم تقتصر على شل «جيش» فلسطيني متنازع، أو على نخر إدارة مشلولة ومتقاسمة، بل أنشأت «قوة أمنية» خاصة على مثال «فرق الموت». و «فرق الموت» الحمساوية هذه صخرة لا قبل لسلطة فلسطينية قادمة، إذا قُيّض لها القدوم، بمناطحتها. وتضطلع مسائل «ثانوية» في نظر «حماس»، مثل إعمار غزة تمهيداً لهدمها، على ما تخمن الحكومة المصرية، أو مراقبة تهريب السلاح، ومراقبة تهريب المال «الشريف»، الى مراقبة بوابة رفح، تضطلع بدور «توحيدي» مدمر. وحركات التحرر «الإسلامية» أهل لهذا الدور.
* كاتب لبناني.