في الفيلم الذي وضعنا رابطاً له مع هذا المقال المترجم عن جريدة “الفيغارو” الفرنسية (بقلم جورج مالبرونو، الرهينة السابقة في العراق)، مشاهد لأطفال غزّة، معظمهم تحت الـ15 سنة، وهم يمضون 8 ساعات يومياً في حفر أنفاق تحت الأرض. مشهد هذه “الطفولة البائسة” هو الأهمّ، وليس عمليات تهريب السلاح التي تقوم بها “حماس” وغيرها. فحتى لو توقّف تهريب السلاح، فإن جيلاً كاملاً من أطفال غزّة سوف “يتخرّج” بدون تعليم وبدون مستقبل..
في الفيلم مشهد لأساتذة مدرسة غزّاوية وهم يؤنّبون تلميذاً تدهورت علاماته المدرسية لأنه يخرج من المدرسة ليمارس “مهنة” حفر الأنفاق التي يتوقّع أن يمارسها “طول الحياة”! هذا “الشقاء العربي” الذي كان عنواناً لكتاب “سمير قصير” هو الأخطر على عملية السلام (ما بقي منها) وعلى المستقبل العربي.
بغض النظر عن الأسباب والذرائع التي دفعت مصر لإقفال معبر “رفح”، فهل كان طبيعياً بعد انسحاب إٍسرائيل من غزّة أن يكون إبن غزّة محروماً من التواصل مع مصر في حين يمضي ألوف الإسرائيليين “عطلة نهاية الأسبوع” في سيناء؟ وهل من الطبيعي أن يضطر “الغزّاوي” لحفر نفق للحصول على الدواء أو الطعام؟ ألم يكن باستطاعة القاهرة أن تجد حلولاً تفتح الحدود أمام شعب غزة وتقفلها أمام متطرّفي “حماس”.
في الفيلم المرفق، مشهد لـ”طفل” من أطفال غزّة يستخدم برنامج google earth على كومبيوتره ليحدّد موقع حفرِ نفق جديد! هل هذا “الطفل” إرهابي؟ هل كانت دول العرب ستعجز، لو امتلكت الإرادة والرغبة، عن تحويل مثل هؤلاء “الأطفال” إلى منتجين وفنّيين ومهندسين يحوّلون “غزّة” إلى”هونغ كونغ” عربية أو حتى إلى واحدة من “النمور الآسيوية”؟ وهل كان مستحيلاً فعلاً نقل “معجزة دبي” و”معجزة أبو ظبي” إلى رمال غزّة التي يمتلك أبناؤها المؤهلات العلمية والرغبة في الحياة التي جعلتهم قادرين على بناء هذه الأنفاق المدهشة التي تشكّل إنجازاً لشعب محاصر؟
حينما سيتوقّف إطلاق النار، هل ستتذكّر أنظمة العرب، وأثرياؤهم، أن مستقبل غزة هو جزء من المستقبل العربي، وأن “شقاء” أهل غزّة هو نموذج مكثّف لـ”الشقاء العربي”؟
بيار عقل
رابط الفيلم: http://www.youtube.com/watch?v=f9IL86T6Nc8
*
في “رفح”، يسمّونهم: “أغنياء الحرب”: إنهم رجال الأعمال الشبّان الذين يقودون سيارات 4×4 لامعة، والذين جمعوا ثروة من “صناعة أنفاق التهريب” مع مصر، والذين يستخدمون جيشاً من اليد العاملة الصغيرة في العمر، من العمال العاطلين عن العمل إلى الأطفال الذين يجوبون شوارع غزة على دراجاتهم النارية. تعتبر إسرائيل وقف تهريب السلاح من غزة شرطاً لوقف هجومها العسكري. بالمقابل، فإن “حماس” تعتبر بقاء هذه الأنفاق ضروريا لتمويلها ولمواجهة إسرائيل عسكرياً.
خلال فترة طويلة، كان الجميع يتحدّثون عن الأنفاق، ولكن أحداً لم يكن قد رآها. والسبب بسيط: فحتى إنتفاضة 2002، كان أصحاب الأنفاق يتمتّعون بحماية مسؤولي أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، الذين كانوا يضبطون مداخل الأنفاق. وكان أصحاب الأنفاق يدفعون قسماً مما يجنونه لمسؤولي الأجهزة الأمنية. وكانت عمليات التهريب تشمل السجائر، والحليب، والملابس، وقطع غيار السيارات، والمخدّرات أحياناً، وكذلك، بين حين وآخر، مومسات روسيات كانت المافيا تؤمّن تسفيرهنّ إلى إٍسرائيل. أي ان التهريب كان من النوع المألوف في كل المناطق الحدودية في الشرق الأوسط، حيث تعجز الدول عن ممارسة سلطاتها كاملة.
100 دولار لكل متر يتم حفره
إبتداءً من آخر العام 2000، تغيّرت المعطيات: فقد بدأ الفلسطينيون باستخدام الأنفاق لتهريب السلاح. وبدأ الجيش الإسرائيلي بشنّ حرب لا هوادة فيها ضد أعمال حفر الأنفاق، ولم يكن يتردّد في تدمير الأحياء التي تختفي الأنفاق تحتها. وأسفرت هذه العمليات الإسرائيلية عن مقتل فلسطينيين، دُفِنوا تحت الرمال، ولكن غيرهم ظلّ يحفر الأرض. ومع إنسحاب إٍسرائيل من قطاع غزة في صيف 2005، وسيطرة “حماس” على القطاع في يونيو 2007، تعزّزت عمليات تهريب السلاح، التي تتراوح بين الصواريخ الإيرانية والصينية التي ترد مفكّكة إلى قطع صغيرة، والصواريخ المضادة للطائرات، وأطنان مادة “تي إن تي” وغيرها من المتفجرات الضرورية لإشعال الصواريخ التي تطلقها “حماس” على جنوب إسرائيل.
ويقول “محمد”، الذي يعيش في “رفح”، ويشارك في كل أنواع التهريب: “حتى الإنسحاب الإسرائيلي، كانت أعمال الحفر تتمّ في الليل فقط. ففي النهار، كان الناس يخافون من دوريات الجيش الإسرائيلي”. وأصبح حفر الأنفاق النشاط الإقتصادي الرئيسي في “رفح”، ووسيلة لإعادة توزيع الثروة الإجتماعية، تسيطر عليها “حماس”، ولها قواعدها، وتعرفتها، وحتى “قاموسها”. ويقول “محمد”: “الذين يحفر يسمى قطّاع، وصاحب النفق هو رأس الحية، وآلة الحفر هي “الأرنب”.
ويقبض فريق “القطاعين” ما معدّله 100 دولار لكل متر يتم حفره. في الجانب المصري، هنالك حوالي 850 مدخل للأنفاق، مقابل 1250 مدخلاً في “رفح” الفلسطينية، وذلك على امتداد حدودٍ لا تزيد عن 14 كيلومتراً. ويضيف المهرّب “محمد”: “ظهرت أنفاق تنقسم إلى نفقين. وفي مصر، يمكن أن تكون مداخل الأنفاق تحت المنازل أو داخلها، أو وسط بساتين الزيتون واللوز. ويروي عسكري فرنسي ما حدث معه أثناء زيارة لسيناء: “شعرت بتيار هواء بارد ينبعث من خزانة جدار في أحد البيوت، وحينما سألت من أين يأتي الهواء البارد، كان الجواب بدون مواربة: من النفق. وحينما فتحت الخزانة، شاهدت مدخلاً لحفرة عميقة تحت الأرض”. ويتم التزول إلى النفق بواسطة حبل يتم تشغيله بواسطة “ونش” كهربائي. إن بعض الأنفاق مجهزة بـ”إنترفون” للإتصال بالسطح. ولمواجهة أجهزة كشف الأنفاق، تصل بعض الأنفاق إلى عمق 30 متراً تحت الأرض. بالمقابل، فإن عرض الأنفاق لا يزيد على عرض “رجل زاحف على يديه ورجليه”. أما بالنسبة للإرتفاع، فإن “الأنفاق الفخمة”، التي تسندها أعمدة خشبية، تصل إلى ارتفاع 70،1 متراً.
بعد أن دمّر الإٍسرائيليون الكثير من المنازل على طول الحدود، كان ردّ المهربين هو زيادة طول الأنفاق. ويقول عسكري فرنسي أن “طول الأنفاق يصل إلى 800 متر داخل المدن”.
ومنذ العام 2007، فإن “حماس” تسيطر كلياً على عمليات التهريب، ولو أنه تسمح لـ”مشغّلين” خصوصيين بالعمل مقابل ضريبة تبلغ 10 آلاف دولار سنوياً تُجبى مقابل إعطاء الحق بحفر نفق. أما الجماعات الفلسطينية المشاركة في الجهاد ضد إسرائيل فإنها معفاة من هذه الضريبة، ولو أن “حماس” تراقب بدقة ما يصلها من آسلحة. وفي حال مقتل أحد العمال أثناء أعمال الحفر، فإن “حماس” تفرض على صاحب النفق دفع تعويض بقيمة 20 ألف “أورو” لعائلة العامل القتيل.
في كل شهر، تجبي “حماس” ما بين 6 و8 مليون دولار. وهذه مبالغ كبيرة لتنظيم يعتبره الإتحاد الأوروبي تنظيماً “إرهابياً”ن مما يحرمه من أي دعم دولي لدفع رواتب ألوف الموظفين الذين يديرون قطاع غزة منذ الإنقلاب على السلطة الفلسطينية في 2007.
رجال شرطة مصريون فاسدون
خلف “حماس”، فإن “ملوك الأنفاق” هم، كذلك، عائلات “رفح” الكبرى (عائلات “الشاعر” و”قشتاح”، و”برهوم”)، التي يعيش أفرادها على جانبي الحدود منذ الإنسحاب الإسرائيلي من سيناء في العام 1982. ويضاف إليهم، على الجانب المصري، “البدو” الذين يحرسون مداخل الأنفاق مقابل حصة (30 بالمئة تقريباً) من مداخيل التهريب. ولكن، بعد التوصّل إلى إتفاقية الهدنة (التي انتهت في شهر ديسمبر 2008) بين إسرائيل و”حماس”، دخل على الخط زبائن جدد: “فقد شرع كبار تجار غزّة، الذين كانت نشاطاتهم الإقتصادية قد انهارت في ظل الحصار، بشر اء العديد من الأنفاق بسعر يتراوح بين 100 ألف و120 ألف دولار لكل نفق”، حسب أقوال المهرب محمد. إن توسيع نطاق المستفيدين من الأنفاق أتاح لـ”حماس” توسيع نطاق “الزبائن” المستفيدين من التعامل معها.
في القاهرة، يتفق جميع الديبلوماسيين على أن الأمن المصري يعرف كل شيء عن هذه الأنفاق التي تشكل منفذاً حقيقياً لمنطقة نائية تخلّت السلطات عنها. ويعرب خبير غربي عن أسفه لأن “رجال الشرطة الذين يتم إرسالهم لمراقبة الأنفاق يأتون من وادي النيل، والذين يتم اقتلاعهم من جذورهم ونفيهم إلى سيناء ليسوا من بين المتفوّقين في دورات الشرطة”. وتخفّ حماسة هؤلاء لمكافحة التهريب لأن معظم “يقبض” 50 إلى 80 دولار شهرياً مقابل صمتهم. وعليه، فليس ما يدعو للعجب إذا ما نشأت علاقات تضامن في صحراء رفح. ويقول أحد سكّان “رفح”: “مباشرة بعد تلقيّهم تحذيراً بغارات إسرائيلية وشيكة ضد الأنفاق، سارع رجال شرطة مصريون إلى الحدود صائحين لتحذيرنا”.
بعد مماطلتهم لفترة طويلة، وافق المصريون على تأمين الحدود. ولكن، إلى أي حد يمكنهم أن يصلوا؟ في الصيف الماضي، وبعد زيارة وفد من الكونغرس الأميركي، أبدت القاهرة تصميمها على إغراق مداخل عشرة أنفاق بالمياه. ويقلّل المهرّب “محمد” من أهمية الموضوع قائلاً: “ممرات قديمة لا يستخدمها أحد، وقد فهمنا جميعاً أن المسألة لا تعدو إرضاء الأميركيين مؤقتاً”. في هذه الأثناء، ورغم مئات القنابل التي أطلقها الإسرائيليون على “رفح” منذ 15 يوماً، فإن فريقين من الأطباء العرب نجحوا في اجتياز الحدود سرّاً، عبر الأنفاق، إلى “رفح”.
Dans le secret des tunnels de Gaza
George Malbrunot
رابط الفيلم: http://www.youtube.com/watch?v=f9IL86T6Nc8