من السهل على النظام أن يتصالح مع عون… لكن من الصعب على المرء أن يكون عونيا
ينبغي على الإسلاميين المراهنين على الحوار والمصالحة مع النظام- قياسا على مصالحة النظام مع عون – اعتمادا على سنة (التكتيك النبوي) في إقامة المعاهدات والتحالفات والاتفاقيات مع الخصوم، أن يأخذوا في عين الاعتبار أن كل خصوم النبي كانوا من الأشراف الذين يمكن أن يوثق بهم وبتعهداتهم ولو كانوا على اختلاف بالرأي والعقيدة، أي مع الأشراف والأرستقراطيات القبلية الذين كانوا يسمون بل ويسميهم النبي بـ “الملأ”، بينما معركتنا –اليوم- هي من السفلة والأوباش والرقعاء من “رعاع الريف وحثالات المدن”، الذين منذ اتفاقنا في إعلان دمشق عن قطعنا مع ممكنات المراهنة على الإصلاح بالاشتراك مع النظام أو التوافق معه، بل أعلنا قناعتنا المشتركة بأن الإصلاح مستحيل معهم، وأن المعركة هي معركة التغيير، ما دام الإصلاح مستحيلا، فثمة خياران للتغيير: التغيير العنفي بالقوة وهو ما تم الإجماع على رفضه في برنامج الإعلان، أو التغيير السلمي الديموقراطي التدريجي البعيد المدى الذي يتطلب معركة استراتيجية: نهضوية تنويرية ثقافية مدنية ديموقراطية، وهذا ما تم الإجماع عليه وحوله عند إعلان البيان وعند انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق، ولذا لا معنى للمراهنة على المصالحات والإيحاءات المعلنة أو المضمرة عن ممكنات عقد صفقة تخفف من عدوانية وشراسة ووحشية النظام، وإن كنا نتفهم الخصوصية الإخوانية في هذا السياق.
نتفهم هذه الخصوصية المؤلمة التي جعلتهم الأكثر عرضة للإبادة وتضررا من النظام السفاح في حربه ضدهم ومتابعته هذه المعركة ضد أهاليهم: أبنائهم وأحفادهم، حيث الكثيرون منهم بلغت فترة نفيهم عن أوطانهم أن شكلوا ثلاثة أجيال متعاقبة ومتعايشه، لكن هذا النظام- بسبب خصوصيته الطائفية – لا يمكن أن يعيش بدون عدو في المجتمع الذي لن يكون يوما سوى الأخوان مما لا مجال لمقارنته مع الجنرال عون أو غيره، فهذا العدو يتمثل في ضرورة مواجهته (الحتمية) القدرية مع الأكثرية المدينية التي يعتبرها العدو الأول، كما يتبدى ذلك- علنا وصراحة بدون أية سرية باطنية- في الوثيقة التي تطالب فرنسا بعدم الانسحاب من سوريا، فبدأ الحرب ضد المجتمع عبر الاستقطاب الطائفي باسم الاستقطاب الطبقي: إذ أن حرب صراع الطبقات أخذ شكل: المدنية = البورجوازية، والبورجوازية = السنة، والسنة يجب أن يكونوا أخوان مسلمين لكي يكونوا أعداء…
وهذه الحقيقة يعرفها الأخوان قبل غيرهم عندما كشفوا لنا أن حاملي السلاح من الطليعة المقاتلة كانوا بالعشرات، بينما تم استدراج الجسم الأساسي للتنظيم للقتال دفاعا عن النفس عندما أعلن النظام حربه ضد الإسلاميين ككل ليكون ذلك مدخلا لكسر شوكة المجتمع باسم كسر شوكة الأخوان.
أما الفكرة الأخيرة التي يستند إليها الخطاب الإخواني في استحالة الحوار والمصالحة مع النظام: فهي حظوة الأسد والنظام لدى أمريكا بسبب كسر شوكة الإسلاميين في سوريا… وكأن هذه الحظوة مكافأة له على ذلك.
هذه الفكرة هي المحرضة لنا على كتابة هذا المقال الذي طال، بما لا يتيح لنا أن نستفيض فيه بما تتطلبه هذه الفكرة من نقاش واسع وموسع وضروري لكل القوى والفصائل السياسية العربية بكافة تياراتها السياسية والإيديولوجية: إسلامية أو علمانية، قومية ويسارية أو ليبرالية… وهي الموقف من أمريكا والغرب.
فالأطروحة القائلة بأن النظام له حظوة عند أمريكا بسبب كسره لشوكة الإسلاميين تستند في جوهرها الإبستيمي المعرفي إلى (إبستيم) عداء الغرب للإسلام كإيديولوجيا، والتي ستقود إلى القول بأن الغرب لا يزال مثلنا يسبح في سديم صراع الإيديولوجيا والعقائد، عبر رفض القول بأن فكر الغرب هو إيديولوجيا المصالح، على الأقل مع ظاهرة الاستعمار وبعد توطد الرأسمالية العالمية الطابع، فحيثما وجدت المصالح والاستثمارات والأرباح فثمة الرأسمالية اقتصادا وفكرا، إذ هي لا تأبه بنوع عقيدة الربح أو بقيم العالم الروحي للمصالح، أو دين السلعة، فلا دين للاستثمار الرأسمالي سوى دين ” فضل القيمة أو فائض القيمة” وكل ما عدا ذلك أوهام ودخان وعبث وتضييع لوقت الشعوب.
فكل الأفكار القائلة بصراع الغرب والشرق، والمسيحية والإسلام، فسطاط الكفر وفسطاط الإيمان ليست سوى الانغماد في الفوات الحضاري والتكور على ذات ماضوية مريضة بماضٍ مستعص لا شفاء منه ولا براء… ولن نسوق الأمثلة عن الصداقة الإستراتيجية مع دول النفط الخليجية أو غيرها، بسبب صداقة الغرب للنفط لا بسبب صداقتهم أو عدائهم للإسلام… وهزيمة صدام حسين بسبب سلوكه كمرابي آسيوي أحمق يتطلع للاستيلاء على ما هو خارج مساحته الإقليمية باسم القرابة القومية ولإيديولوجيتها المفلسة، بدون معرفة موازين القوى لمعنى الاستيلاء والهيمنة والتوسع التي فرضتها الرأسمالية بنيويا وعالميا، لاسيما في منطقة تتكثف فيها مصالح العالم… فلكل ذلك كانت هزيمته، ولم تكن بسبب معاداة الغرب وأمريكا للعروبة البعثية والقومية العربية، ولا للراية الخضراء الدينية التي رفعها واهما في أنها ستحميه كما تحملها إيران وتوابعها اليوم من الواهمين… الخ
الأخوان المسلمون مثلهم مثل فصائل الحراك السياسي العربي القومي أو اليساري، تكمن أزمتهم في عدم حسم أمورهم الفكرية والنظرية حول طبيعة الصراع مع الآخر الغربي الذي أصبح تعريفا هو الآخر العالمي، فإذا ما انقطعنا عنه، أي (الغرب) انقطعنا معه، أي (العالم)، ومصالحنا في العالم تمر عبر بوابة مصالحتنا للعالم، والعالم اليوم ليس امتدادا جغرافيا وبشريا فحسب، بل هو عناصر القوة النوعية الفاعلة (علميا-معرفيا-اقتصاديا –عسكريا…ألخ) في مصائر العالم لجعله على صورتها، ولا نظن أننا نملك صورا لأنظمة وخيارات أفضل أمام هذه الحالة القروسطية التي لا تبشرنا إلا بـ(حاكمية) وسلطة (إبن) الحاكم: رئيسا كان أم ملكا أم سلطانا استنادا إلى شرعية وراثية عائلية أم قبلية أم طائفية تنتمي إلى طائفتها أكثر مما تنتمي إلى أوطانها.
إن الإسلام التركي هو الوحيد الذي التقط هذا الفهم الجديد والمختلف للعالم وفق معايير العالم (نوعيا) وليس معايير الهوية:قومية كانت أم دينية، فكان الإسلام السياسي التركي الأكثر ارتباطا به – بل وتبعية لهذا العالم (الغرب) بلغتنا الراديكالية اليسارية والقومية والإسلامية- لكنه الأكثر سيادة والأكثر استقلالا عنه، لأنه الأكثر ديموقراطية- ولو نسبيا- بالنسبة لعالم الأطراف العربي والإسلامي والعالم ثالثي، ومثال الموقف السيادي التركي من الحرب على العراق يبرهن على أن تركيا المرتبطة بالحلف الأطلسي هي الأكثر استقلالا وسيادة وطنية من كل أطراف الإدعاء بالسيادة ورفض الغرب الإمبريالي، عندما رفضت دخول القوات الأمريكية من شمال العراق – من كل الأدعياء الشعاريين: القوميين: البعثيين والناصريين والصداميين، والإسلاميين الجهاديين أو الفسطاطيين، واليساريين التقليديين…
فبدون أن نقطع يساريين وقوميين وإسلاميين، أي بدون أن يقطع الأخوان مع مفاهيم القوميين البائدة، ومن ثم منافستها في شعاراتها حول معاداة الغرب، أي معاداة العالم، فلا أمل بأي انجاز على طريق الديموقراطية وإنقاذ شعوبنا، فالولايات المتحدة والغرب ليسوا مع النظام السوري لأنه حارب الإسلاميين، بل هم مع النظام السوري (الخارج على القانون) مادام ليس هناك قوى على الأرض قادرة أن تعيد بلادها إلى داخل القانون، أي قادرة أن تحسم أمورها في الانفتاح على العالم من أجل تخليص العالم من زمرة عصابات القتل والإجرام التي لم تعد نهائيا قابلة لإعادة التأهيل في نادي المجتمع العالمي والدولي، حيث لم تعد في ممكنات هذا النظام أن يقدم أي مصالح مشتركة للعالم اليوم، لكي يدافع عنه الغرب والأمريكان، وإلا فسنظل ننافس النظام-ظاهريا على الأقل- برفع الشعارات ضد أمريكا والغرب دون أن تأبه لنا أمريكا أو الغرب أو النظام ذاته الذي لا يفتأ أن يوطد العلاقة مع هذا الغرب (باطنيا) ولو توسل إسرائيل لإرضائه وإرضاء أمريكا، فيديروا ظهرهم باتجاه القضايا القابلة للحل، ومن ثم الانخراط في العالم الفاعل القابل للحياة وتركنا في احتضارنا الحضاري منذ قرون ننزلق ونتهاوى، وذلك عبر اهتمامهم بتعزيز المسيرة الحضارية والمدنية لأوربا الشرقية التي تسعى لتطهير نفسها تطهيرا من أوساخ التوتاليتاريا الماضوية، لا منافسة الرجعيات القومية والفاشية على تسعير الحرب ضد العالم كما تفعل الراديكالية التركية حتى العلمانية منها، بينما الإسلام التركي يمضي صاعدا إذ يصالح بين الأممية الإسلامية و المواطنية العالمية بعقل منفتح وضمير وطني لا يأبه إلا بمصالح بلده الوطنية، التي لا يمكن تحقيقها إلا بمزيد من السير على طريق الد يموقراطية وقبول الآخر والاعتراف بالتعدد والتغاير بعد قرون طويلة من إعادة العالم إلى العصور الوسطى…!؟
وإذا كان ثمة تيار أخواني-أعضاء أم أصدقاء للأخوان – جاد في المراهنة على ممكنات المصالحة مع النظام مثلما فعل النظام مع (الجنرال عون)، فإن هذا التيار يبالغ في طيبته حد السذاجة، وذلك لأنه لا يدرك بأن النظام ليس بحاجة إلا إلى عدو واحد وهو الأخوان كما ألمحنا، وإذا لم يوجد هذا العدو فإنه سيصنعه، لأنه عبر هذا العدو فقط سيتمكن من صياغة لوحة الصراع الوطني في سوريا على أسس طائفية كما يفعل اليوم في سوريا ولبنان، بل وفي كل تحالفاته الإقليمية والدولية، إذ عبر هذا الاستقطاب الطائفي داخليا يعتقد بأنه يؤمن قاعدة اجتماعية طائفية صلبة متراصة له وحوله، وأنه هو الوحيد الذي يملك القوة والسلاح للتهديد بالحرب الأهلية ضد الآخرين حتى ولو كانوا أغلبية المجتمع، وعلى المستوى العربي يتمكن من التعبئة الأيديولوجية الطائفية باسم الصراع بين (السنة/ الوهابية) السعودية العربية (المحافظة)، وبين الشيعية (الراديكالية) التي قبلت باسم الخميني (الفئة العلوية) بوصفهاجزءا من الطائفة الشيعية، ومن ثم اللعب على الطوائف الأخرى بوصفها أقليات –وخاصة المسيحية التي يسعى النظام من خلالها إلى التقرب من الغرب – عليها أن تتحالف ضد الأكثرية العربية السنية بوصفها الأغلبية التي ستبتلع الأقليات، حيث وفق هذه القاعدة تم اغتيال الشهيد الحريري –أرقى حالة مدنية إسلامية ليبرالية- بوصفه ممثلا للإسلام الوهابي، مما دأب الإعلام السوري وملحقاته من المرتزقة اللبنانيين الحديث عنه والتعبئة ضده، وما حالة الجنرال عون إلا امتداد لهذا التحالف الباطني المضمر بين من يفترضون أنهم الأقليات الإقليمية في المنطقة: (الشيعة بزعامة إيران – النظام الطائفي المتشيع إيرانيا في سوريا- المسيحية الشعبوية الغوغائية (التسفلية) العونية)– يقف في مقدمة الجميع إسرائيل العلمانية ذات الأكثرية الملحدة في ادعائها الديني الزائف تمثيل الأقلية اليهودية في منطقة الشرق الأوسط، والتي تبدو اليوم هي الصديق رقم واحد للنظام السوري الطائفي الأقلوي بوصفها يربطها مصير أقلوي واحد معه، وذلك بشكل علني ضد ما يسمونه بالأكثرية السنية الأغلبية العظمى الغالبة في هذه المنطقة عدديا وسكانيا.
وعلى هذا فإن أي مراهنة للمصالحة مع النظام هي مراهنة فاشلة وباطلة، وهذا ما اتفقت عليه المعارضة السورية منذ إعلانها وثيقة إعلان دمشق منذ سنوات أعطت المعارضة فرصة خمس سنوات للرئيس الوريث للشرعية العضوية العائلية ليحولها إلى شرعية شعبية اجتماعية لكنه ظل أسير موروثه الأبوي الطائفي والعائلي الاستبداي الرعاعي الطائش (المتسفل)، وعلى هذا فلا مجال للمقارنة مع الصلح مع الجنرال عون، لأن أي طرف أو فرد في سوريا –بما فيهم الأخوان – يمكن أن يحقق مكتسبات عون ويقبل ويرحب به مثل عون ويعين رئيسا أو زعيما اعتمادا على الشرعية ذاتها التي يستند إليها النظام السوري ووفق منظومة مفاهيمه وقيمه الأخلاقية عن الشرعية، وذلك بالانقلاب على ماضيه وخيانته لمبادئه والتحول إلى سمسار عند نظام خارج على القانون الدولي، وأن يمضي باتجاه الطغم اللصوصية والإجرامية صاغرا ومعتذرا وداعيا شعبه وأهله للاعتذار من جلاديهم، وانتقامه من أهله وشعبه ببيعهم لأعدائهم من نظام العصابات الذي فتك بشعبه وأهله وأنصاره، فتجاه كل هذا (التسفل) سيغدو واحدا منهم ومن بني جلدتهم… عندها فإن عصابات المافيا (اللصقراطية) الدموية ستصالحه وترحب به مثلما رحبت بعون عبر إهانته أمام شعبه والشعب السوري قبل إهانته أمام نفسه، وإن أي واحد أو مجموعة يمكن لها أن تبريء عصابات القتل الطائفية في سوريا من جريمة اغتيال الرئيس الحريري ولأسباب طائفية كما فعل عون بدناءة، إذ هو يستخف بهذه الجريمة نحو مواطنه وابن بلده- إن كان قد بقي له الحد الأدنى من إحساس وأخلاق ابن البلد – وذلك عبر الحديث عن المحاكمة الدولية لقتلة الرئيس الحريري”بأنها طبخة بحص” على حد تعبير الجنرال، فإن العصابات -مقابل ذلك- ستصفح عنه وستقبله عضوا (عاملا) في منتداها (الإجرامي الدموي اللصوي المافيوي) وتعطيه حصته من “تسفلها الوفير” دون أن يناشدها المصالحة،وذلك بعد أن برهن عون أنه على سنة آل الأسد الرعاع من أولئك الذين يشخص أخلاقهم المثل القائل: “اتق شر من أحسنت إليه”، فقد ثئر من ماضيه الوضيع عندما رشح أنصاره للنيابة ضد فقيد الرئيس أمين الجميل الذي كان قد سلمه مفاتيح قصر (بعبدا) للرئاسة العسكرية للبنان، وذلك بعد اغتيال نجله بيير الجميل وهدر دمه من قبل المخابرات السورية، فقدم بذلك مثالا على ممكنات تطبيع الإغتيال عبر تطبيع فعل جرائم الإغتيال وتتفيه القتل والقفز من فوقه، كما راهن النظام السوري القاتل على تجاوز اغتيال الرئيس الحريري من خلال المراهنة على الصمت من قبل الشعب اللبناني بعدم الخروج احتجاجا على تصفية رمزا كبيرا من رموزه الوطنية، وتعمد استهدافه طائفيا كمسلم (سني) ليبرالي متنور في مواجهة طائفيتهم اللاوطنية الإيرانية…
هذا المثال القيمي عن أخلاق الجنرال يناظره فعل قيمي (جنرالي) من جنرالات استيطان سوريا، عندما فتح أكرم الحوراني أبواب الجيش أمامهم، فإنهم لم يجدوا ما يردون لجميله الوطني سوى أن يثأروا من ماضي رعاعيتهم التي أراد الحوراني الإشتراكي أن ينتشلهم منها، فقاموا بالرد على إحسانه عليهم بسجن ابنته الدكتورة فداء حوراني حمامة سوريا البيضاء الأسيرة في ظلمة زنازينهم… تلك الزنازين التي تنتظرهم وفق حكمة الله ضد الطغاة والبغاة ووفق حكم التاريخ على معرقلي مساراته الذي لا راد لحكمه… من السهل أن يتصالح النظام مع عون وأشباهه ونظائره، لكن من الصعب على المرء أن يكون عونيا ليصالحه النظم…
mr_glory@hotmail.com
• كاتب سوري
لماذا يصالح النظام السوري الجنرال عون ولايصالح الأخوان المسلمين؟ (1)