حينما نشير إلى مفهوم الحداثة، فذلك لا يعنى فحسب استخدام وسائل التكنولوجيا الحديثة في الحياة، لأن المجتمعات غير الحديثة قد تستخدم تلك الوسائل أيضا. فالحداثة ترتبط بالفكر والذهن وبالمفاهيم قبل ارتباطها بالوسائل. فقبل أن تظهر رؤى جديدة في عالم الأفكار والمفاهيم فإننا لا نستطيع أن ندّعي بأن الحداثة قد وُلدت. فاستخدام أفراد مجتمع ما للكمبيوتر ليس دليلا على إنهم حداثيون، بل دليل على إنهم استفادوا من أحد نتاجات الحداثة. إذ لولا وجود المفاهيم الحديثة لما ظهر الكمبيوتر. بمعنى أن واقع الحداثة يكمن في ولادة المفاهيم الحديثة التي بدورها تنتج الوسائل الحديثة، وهذه المفاهيم تقدم وصفا جديدا للدنيا وفهما آخر للحياة ما جعلها تساهم في إنتاج الوسائل الجديدة. إذن الحداثة لاتتمثّل فقط في شكل الحياة وظاهرها، إنما لابد أن يسبق ذلك تغيّرا في الأذهان وفي المفاهيم.
وحينما وُلدت الحداثة شعر الخطاب الديني بأن منافسا جديدا له ظهر في الحياة، وأنه لابد من مواجهة هذا المنافس، وإلا قد يسحب البساط من تحت رجليه ويزلزل قوته وجبروته ويجعله خالي المحتوى من دون أي قدرة على طرح إجابات يستطيع من خلالها أن يرد على أسئلة الحياة الجديدة بمختلف تفرعاتها. وقد فشل الخطاب الديني في ذلك فشلا ذريعا، خاصة في سعيه تقديم وصف جديد للحياة، وصف يبدّل النظرة القديمة في تفسير أمور الحياة ومسائلها إلى نظرة جديدة.
وأكثر من ادّعى في داخل الخطاب الديني بأنه يسعى إلى تقديم نظرة دينية جديدة للحياة هم الفقهاء. فقد كانت نظرتهم شكلية لم تستطع التغلغل إلى ذات ومحتوى الحداثة. فالفقهاء يعتقدون بأن مسئوليتهم في الحياة الراهنة تكمن في إيجاد إجابات فقهية على الأسئلة الحديثة أو على ما يسمى بـ”المسائل المستحدثة” التي تواجه البشر. أي أن إجابات الفقهاء ستتعلق بظاهر الحداثة في علاقتها بالدين ولن تتطرق إلى أصل الحداثة ومحتواها. كالسؤال المتعلق مثلا بكيفية الصلاة في الطائرة أثناء السفر، أو كيفية الصلاة والصيام إذا سافر الإنسان إلى القمر، أو كيفية تصرف الإنسان مع القضايا الحديثة مثل التأمين، أو حكم المواد المختلطة بالكحول، وغيرها من المسائل “المستحدثة”. هذا هو حجم المساحة الذي يستطيع الفقيه أن يسبح فيه في الحياة الحديثة. مع ذلك يدّعى الخطاب الديني الفقهي قدرته على مواجهة اصل الحداثة ومحتواها.
إن تصور الفقهاء يستند إلى الفكرة القائلة بأن ظهور العالم الجديد يجعل الناس في مواجهة مباشرة مع مسائل فقهية جديدة، وعلى هذا الأساس لابد للفقهاء أن يبحثوا عن إجابات فقهية (أحكام) لمسائل متعددة متعلقة مثلا بالإقتصاد الجديد والعلوم الجديدة والحريات الدينية وغير الدينية ومسائل حقوق الإنسان. أي أن الفقهاء يعتقدون بأن إجاباتهم الفقهية هي إجابات على أسئلة الحياة الجديدة، في حين إنها ليست كذلك بل هي مجرد إجابات قديمة على أسئلة تاريخية تجددت في الحياة الجديدة بسبب تغيّر شكلها لا محتواها. فهناك عبارة يردّدها البعض باستمرار بأن فقيها ما “حداثي ومتنوّر”، لأنه استطاع أن يجيب على “المسائل المستحدثة”، ولقوله مثلا بأن “الكافر غير نجس” أو “يمكننا السلام على الكفار”. لكن، هل هذا النوع من المسائل والإجابات دليل على أن الفقهاء “متنوّرون”، أو تثبت بأن الفقه قادر على أن يصبح “تنويريا”؟
وعلى أن الأسئلة الجديدة هي تلك التي تتعلق بمحتوى الحياة الحديثة من أفكار ومفاهيم، فهي أيضا تحتاج إلى إجابات جديدة. والفقه أثبت أنه غير قادر على تقديم إجابة حداثية واحدة على هذا النوع من الأسئلة، بل أثبت إنه عاجز عن مواجهة التطور الفكري والمفاهيمي في مختلف مناحي الحداثة، لا سيما في المسائل المتعلقة بالحريات وشرعنة التنوّع واحترام حقوق الإنسان. وإذا كان الفقه لم يستطع طرح رؤى في هذا الإطار فإن محاولاته في حل ما يسمى بـ”المسائل المستحدثة” ليست سوى جهد تاريخي ذي شكل جديد لايمت بصلة إلى الحياة الجديدة ومفاهيمها.
إن مسؤولية الفقه والفقيه في العصر الحديث تكمن فقط في تقديم ردود تثبت أن شيئا ما “حلال” أو آخر “حرام”، لذلك كان بعض الفقهاء يعتبرون التلفزيون “حراما” لأنه “يحث على الرذيلة” إلى أن “حلّلوه” بعد فترة. أي هم يتعاملون مع منتجات الحداثة وقضايا الحياة وكأن الإنسان فاقد لإرادته وعقلانيته ومحتاج على الدوام لمن يسيّره ويحدّد له الصحيح من الخطأ، الأمر الذي يقف في الضد من فطرته البشرية ويتعارض مع مفهوم الحرية. فكيف لحكم فقهي أن يتحول من حرام إلى حلال لمجرد عجزه عن مجاراة الواقع أو فهم الواقع؟ إن الغالبية العظمى من الفقهاء اليوم (إن لم يكن جميعهم) لايعيرون أي اهتمام للمفهوم الحديث لحقوق الإنسان، ولا تزال أحكامهم بالنسبة لقضايا المرأة ومسائلها مرتبطة بالنص والتاريخ، وبالذات ما يتعلق بمسألة تعدد الزوجات الذي يقوم أساسها على “خيانة” الزوجة الأولى للزواج من أخرى ثانية. فهل نستطيع، في ظل هذا النوع من الأحكام الفقهية، أن نزعم بأن الدين يسلب من الإنسان إرادته وحريته؟ هل يحث على “الخيانة” ويهضم حقوق المرأة ويدافع عن حق الرجل بالزواج على زوجته لمجرد أن النص التاريخي يدعو لذلك ولو خالف الواقع الجديد؟ بالتالي، هل هذا الدين، الفقهي، يستطيع أن يتوافق مع مفهومي الحرية وحقوق الإنسان، ومن ثَمّ مع الحداثة؟!
إن فهم المرأة الحديثة عن نفسها وحقوقها وواقعها، أي عن هويتها، تغيّر، لذلك تغيّر فهم الآخرين عنها أيضا. لذلك لابد أن تتغيّر المزاعم التاريخية حول حقوقها، سواء كانت دينية أو غير دينية. فكما كانت المرأة في الماضي راضية عن وضعها استنادا إلى الواقع الاجتماعي المفاهيمي الذي كانت تعيش في وسطه، فعلى الفقه أن يرضى بواقع المرأة الجديد حتى لو خالف ذلك النص الديني التاريخي. لذلك فالتحدي الرئيسي للفقه لقبول ذلك، هو الاعتراف بواقع المرأة الجديد، الواقع المستند في معظمه إلى المفهوم الحديث لحقوق الإنسان. فالمرأة القديمة التي كانت تستخدم وسائل بدائية في تنظيف منزلها، استبدلت ذلك بأساليب جديدة للتنظيف في العصر الحديث، لكن تغيّر الأسلوب هذا لم يرتبط فقط بالوسائل إنما في تغيّر حقوقها وتطوّرها.
لقد بيّنت إجابات “الحلال” و”الحرام” أن الفقه لايستطيع أن يتغلغل في بنيان الحياة الحديثة، بل جل ما يستطيع أن يفعله هو الإجابة على بعض الأسئلة “المستحدثة”، لزعمه أن الحياة لم تتغير في محتواها بل تغيّر شكلها ومظهرها ولابد من إجابات وردود على أسئلة الشكل والمظهر. في حين أن هذا المظهر لم يكن ليتغير لولا ولادة مفاهيم جديدة ساهمت في هذا التغيير.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي