في مصر الآن، الهوّة تكبر بين الجنسين. والصراع آخذ بالاحتدام. لم تعد قصة الجنسين حبيسة همس البيوت وصمتها. خرجت الى الاعلام والانترنت والنشر والقضاء الجنائي، لا الشرعي فحسب. خرجت بقوة الصراع نفسه، تقذف المسائل والخلافات الى التداول العلني. والمدى المنظور يحمل معه المزيد من الاحتدام.
لأول مرة في مصر… مدوِّنة شابة، إسمها غادة عبد العال، تكتب على الشبكة الالكترونية قصتها مع اللهفة الى العرسان، وخيبتها منهم. وتسرد بسخرية عارمة عشرة مواقف «طلب يد» رسمية. وتفند عيوب كل عريس واسباب رفضها له او رفضه لها… وكلها وقائع ساخرة يختلط فيها الضحك على النفس بالضحك على العريس والمجتمع. وتعلن الكاتبة بعبارات بسيطة عن التغيير الذي اصاب العلاقة بين الجنسين، بعد التبدّل الذي لحق بوضع النساء، اذ تقول «دلوقتي الكرة بقَت في ملعب البنات. يعني لازم تخرج وتشتغل وتروح أفراح وتزور اصحابها. لأن مهمة مسؤولية إحضار عريس بقَت ملقاة على عاتقها بالكامل». كل ذلك بلغة تهكّمية ووتيرة سريعة، لا تحتمل لحظة ملَل او تكرار. فصول المدوَّنة نُشرت في دار الشروق. ولاقت رواجا وطبعات عديدة.
أن يُكتب لا عن «العنوسة»، (وهذا اسم بشع يجب تغييره)… بل عن عزوبة الفتيات غير المحمودة، بغير التقارير الجافة، ومن دون تستير على المشاعر الحقيقية التي تختفي خلف الخيبة الانثوية… وبأسلوب صريح وطريف، فهذا من باب خرق تابو (محرّم) معشْعش بين الجنسين. تابو يبهّت الوجوه الشابة وينزع عنها مبكرا عفويتها العذبة. وهذه خسارة من خسائر الحرب الدائرة بين الجنسين؛ العزوف عن الارتباط والعيش سويا. والفتيات يجدن الامور تضيع من ايديهن، من القدرة على تغيير الكثير في المعادلة الجديدة المهتزّة. لم يعد الشاب هو طالب القُرب، بل الشابة.
لأول مرة ايضا في المحروسة: تقضي محكمة الجنايات في شمال القاهرة، بعد جلسة محاكمة «ساخنة»، بمعاقبة شاب بالحبس لمدة ثلاث سنوات وغرامة 5001 جنيه؛ وذلك بعدما رفعت الشابة نهى رشدي دعوى ضده، تتهمه فيها بالتحرش الجنسي بها على رصيف احد الشوارع. فالشابة نهى لم تسكت كما بقية البنات. قررت لحظة انطبعت فيها نظرته المستبيحة لجسدها، بأنها لن تدَعه يفلت. ساندها اهلها، وانتقدها الكثيرون، والشرطة حاولت احباطها… لكنها عزمت ونالت حكما اعتبرته «إنتصارا للفتاة المصرية ضد ظاهرة التحرّش». ومن شأن سابقة كهذه ان تنصب المزيد من القوانين والعقوبات والبروتوكولات للحرب الدائرة بين الجنسين. وتكون كل هذه الروادع من ادوات معاركهما اللاحقة.
السابقتان كشفتا عن قليل من المستور في هذا الصراع. كان يجب ربما ان تحصلا قبل ذلك. سيما وان الشواهد على الهوّة لا تنْضب.
الطلاق بدوره جاثم على المحاكم الشرعية. بعد إضافة بند «الخُلع» على قانون الاحوال الشخصية، صار بوسع متوسطات الحال، والفقيرات احياناً، ان ينْعمنَ بحق الإنفضاض عن الشريك غير الشريك. الاحصآءت المستمرة حول الطلاق لم تعد تخفي نسبته الضاربة للارقام القياسية.
المثلية الجنسية: الوسْوسة بها على أشدّها من دون ان يعني ذلك، بطبيعة الحال، ما يؤدي الى خفضها. صحيفة «قومية» (أي حكومية) ترشد الامهات الى كيفية إلتقاط اولى بوادر «الشذوذ» لدى طفلها؛ وتذكر الطرق المختلفة لمعالجته منذ المهد. إحداها تقتضي الصدمات الكهربائية!
العجز الجنسي: بات يجتذب بدوره الاحصاءات والدراسات الاستقصائية. في آخر دراسة لنيل الماجستير، يبلغ العجز نسبة بالغة الارتفاع، والمقصود العجز الذكوري طبعا. فالعجز الجنسي الانثوي ليس ذا موضوع اصلا.
إنعدام الاختلاط بين الجنسين. سدّ منيع يحرمهما من التعرف الطبيعي على بعضهما. عالمان لا يتصلان. وعندما يكبرون ويلتقون، يتوتّرون، يستغربون، يجهلون. واذا حدث ان انسجما وتواعدا يأتي من يبتزهما بالشرف والحلال… واللافت ان الهوة مزدوجة بين شباب مصر جميعهم. فكما لا يلتقي الشبان بالشابات، لا يلتقي الشبان المسلمون بالشبان المسيحيين الاقباط. العلاقة بينهم إن قامت، فعلى اساس الغرابة الاخروية ايضاً.
موضة تعدد الزوجات او الزوجة الثانية، والتي لم تعد تقتصر على امثال «الحاج متولي» الشهير، الثري والشعبي. بل تعدتها الى نخب بعينها. ماذا تنال المرأة؟ ماذا ينال بالاصل الرجل عندما يكون مقسّما بين اثنتين وثلاث واربع؟ دسائس ومناورات وتستّر وإستغلال وابتزاز… حرب شرسة، ارقى تجلياتها ضخامة جريمة مقتل سوزان تميم. ربما لأنها تمسّ هواجس وهلْوسات… تجد قضية مقتل الفنانة كل هذا الاهتمام، كل هذه التغطية الاعلامية التي يلتهمها بشراهة المواطن – المشاهد.
ثم رجال يهربون من العمل. يهربون من التزاماتهم ويحمّلون زوجاتهم اعباءها. ويقولون بالحرف «أما كنتم تريدون النزول الى العمل؟ تفضلن! انزلن! ونحن نرتاح…!». انه واحد فقط، من الردود على خروج النساء للعمل. وتواتر تلك الردود لا يقتصر على الطبقات الوسطى العليا، حيث الكفاءات المهنية للنساء هي الأعلى. بل ايضا يطاول الطبقات الافقر، الأقل مهنية، الاقل قدرة على الاستقلال الاقتصادي.
تستطيع ان تحصي شواهد الهوة والحرب بالحجاب والنقاب؛ والزواج العرفي الذي يغطي دينيا ما كان في السابق يسمى العلاقة الجنسية الحرة. ما يؤرق ان هذه الحرب تطغى على تعبيرات الحب. على وفرة الحب. الحب يغيب بفداحة في هذه الحرب بين الجنسين. وهذا امر طبيعي في الحروب غير العسكرية؛ المناوشات، عرض العضلات والمفاتن خلف الحجاب او على الشاشة الخ… وفي النهاية دائما هناك دراما حزينة ويأس… وسط غبار هذه المعارك لا بد ان تجد تائهين، لا تعنيهم الاصطفافات، باحثين عن الحب. وهؤلاء هم الشهداء الحقيقيون للمعركة الدائرة بين الجنسين.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة