الدعوة للحوار التي وجهها للنخب الثقافية الصديقُ الكاتب سعد هجرس بجريدة نهضة مصر الأسبوع
الماضي ليست مما يمكن تجاهله ، لاسيما وأنها تأتي في لحظة تاريخية مائزة ، أشار إليهاومعه الأستاذ
راجي عنايت بأنها فارقة بين العصر الصناعي ، وعصر إقتصاد المعرفة ، لا ينفع معها التمترس بما
عهدناه من معارف تقليدية مريحة .
في الغالب الأعم أتصور ألا تستهوى هذه الدعوة رموز الفكر اليمينى (فهم جالسون مرتاحون على
أرائك “اليقين” يعظون الناس ولا يسمعون للناس!) وهذا في حد ذاته خطير بالطبع. لكن الأخطر أن
يزَّاور عنها مثقفو اليسار، ممن جمَّدوا “النظرية”، وأدخلوا “فكرهم” في المعلبات الأيديولوجية من
طراز “حتمية انتصار الإشتراكية” و”البروليتاريا هي طليعة المناضلين” … الخ ، دون التفات منهم
إلى واقع المتغيرات الثقافية المستمدة من فلسفة الكوانتم، و التي برهنت على أن الحتمية وهمٌ ، وأثبتت
على المستويين الإقتصادي والسياسي – أن البروليتاريا أزيحت فعلياً عن الموقع الاستراتيجي الذى
احتلته بخارطة الإنتاج العالمى في القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين.
ولا غرو أن يأخذ هذا التجاهل للواقع المتغير أمثال هؤلاء المثقفين “اليساريين” بعيداً عن ميدان العلم
الذى تخضع فيه النظريات لمعيار القابلية للدحض والتكذيب Falsifiability Criterion بخلاف
الأيديولوجيا التي تدَّعى اليقين فتصبح – بهذا الأدعاء الأهوج – وعياً زائفاً . ومن أسف فإن أمثال هؤلاء
المثقفين اليساريين (من قصد إليهم راجى عنايت) لواقعون بين براثن الأيديولوجيا بنوعها العلماني ، الذي
يماثل النزع الديني في دوجمائيته ، وإن اختلف معه في التوجهات .
على غير ذلك تماماً، يدرك المثقف الحقيقى أن العلوم الإنسانية قد نشأت في الغرب بمحاولة من روادها
أن يمنهجوا بحوثها ، وأن يضبطوا مصطلحاتها ، وأن ينتجوا بها المعرفة الصحيحة بنفس الدقة المعهودة في
العلوم الطبيعية.. وحين تبين استحالة ذلك – لاستعصاء البشر على التصنيف والأرشفة والتكويد – ظهرت
الحاجة إلى “السوسيولوجيا” التي تربط بين الإقتصاد والسياسة والثقافة في منظومة متكاملة . فالنشاط
الإقتصادي غير منبت الصلة بالسياسة التي تُسَيِّر أمور الناس، ولا هو مقطوع النسب بثقافتهم التي تشكلها
أنماط إنتاجهم ، ووتائر سلوكهم ، وجملة أفكارهم المنبثقة عن هذا السلوك وعن تلك الأنماط الإنتاجية … إلخ
فأما العلاقة بين الإقتصاد والسياسة ، فإن درجة تطور المجتمع هي التي تحدد أيَّ الفرعين يتبع الآخر .
وآية ذلك أن المجتمعات الرأسمالية المتقدمة تسمح للإقتصاد أن يقود السياسة ، موجهاً إياها لتنفيذ غاياته،
بينما نرى مجتمعات ما قبل الرأسمالية Pre-Capitalism تهيكل الإقتصاد تبعاً لما تراه السلطة السياسية
صالحاً . والمثال الأوضح على ذلك : الإتحاد السوفيتى السابق ، ومصر الناصرية ، حيث كانت الرغبة في
الوصول إلى الإشتراكية – دون المرور بمرحلة الرأسمالية الكلاسيكية – ناجمةً عن دواع سياسية بأكثر
مما كانت استجابة لتطور اقتصادي منطقى . والنتيجة : انهيار النموذج – ذاتيا ً – هناك وهنا.
وأما العلاقة بين الإقتصاد والثقافة فأوسع وأشمل. فبينما تتمسك ثقافة معينة (النمط الآسيوى) بالمألوف
والموروث تحسباً لمخاطر المغامرة والتحديث ، في تجاهل منها لقانون التغير الدائم في الطبيعة وفي الحياة
الإنسانية على السواء ، نرى ثقافة أخرى ( أوربا بدءً من القرن 15 ) تتخلى عن مفاهيمها الموروثة من
عصور الجمود اللاهوتى لتواكب نشاط بورجوازيتها الوليدة في اختراعاتها ، وكشوفها الجغرافية ، وأبحاثها
العلمية ، وفتحها لمناطق المواد الخام ، وللأسواق بمؤازرة القوة العسكرية ، حتى ترسخت في بنية تلك
الثقافة فكرة المركزية الأوربية ، بما يعنى ألا سبيل لمجتمع يسعى للتقدم إلا بأن يسلك السبيل الأوربى ،
أي بالتبعية للغرب.
ذلك بالضبط ما تشير إليه دراسات سوسيولوجيا التنمية في أمريكا الآن حيث تطالب أمريكا الدول النامية
بوضع خطة من محورين ، أولهما : العمل على تجاوز الثقافة التقليدية المناوئة للتقدم. وثانيهما :
بناء اقتصاد حديث بتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وتبنى القيم والنظم الغربية (= ثقافة الديمقراطية )
وصحيح أن هذا التوجه من شأنه تحرير الإقتصاد من التبعية للسياسة ، لكنه بالقطع لن يحرره من
التبعية للمركزية الأوربية (الرأسمالية العالمية الآن) فما الحل؟
في تقديرى أن الحل يتبدي في قيام المثقفين بدورهم المفتقد ، تبصيرا ً لشعوبهم بالأخطار المحدقة من
كلا الجانبين : الجمود المعرفي ، والقصور الإنتاجي ..فضلا عن تمترس الاستبداد السياسي ( باسم
الأصولية دينية كانت أو مدنية ) من ناحية ، ومن أخرى التبعية للغرب ( باسم الحداثة ) مشيرين في الوقت
ذاته إلى تجارب معاصرة ناجحة في هذا السياق مثل تجربة الصين ( مع التحفظ على أدائها المراوغ )
وتجارب دول أمريكا اللاتينية كالبرازيل وشيلى وبوليفيا، لا بغرض تقليدها ، ولكن لاستخلاص عناصر
الإبداع فيها تمهيداً لتأسيس إبداعنا الخاص.
إنما إذا رأت النخب الثقافية أن فيما يطلب منها يعنى إضافة لوغاريتم جديد إلى لوغاريتمات عنايت؛
فأنا أقترح على الصديق هجرس أن يسحب دعوته النبيلة، وأن يأتي برفش مثل رفشى لنحفر بهما
قبراً لأحيائنا الموتى!
Tahadyat_thakafya@yahoo.com
• الإسكندرية
البرهان الثقافي على المسألة الاقتصادية
للأسف سوف تنتظر طويلا يا أستاذ مهدى . والدليل على ذلك أن المثقفين مشغولون عن الحوار بالبحث عن فرصة عمل لدى السلطات القائمة أو السلطات المنتظر قدومها . فقل مع الشاعر القديم :
لقد أسمعت – لو أسمعت حيا ً
ولكن لا حياة لمن تنادي