من يقف وراء عملية التفجير الثانية، في طرابلس، ضد عسكريين في الجيش اللبناني، وهل من رابط بين انفجار الأمس والانفجار الذي هز السبت الماضي العاصمة السورية دمشق؟
سؤال مزودوج ومفصلي يختصر، ويعكس في آن على الأرجح، خلفيات ما جرى في الأسابيع الأخيرة في لبنان، وما يعد له من الخارج (مع بعض الداخل) للأسابيع والأشهر المقبلة.
ففي حين لم يتوصل التحقيق بعد في لبنان الى كشف خيوط جريمة طرابلس وهوية الفاعلين أو المنفذين، ما عدا معرفة صاحب السيارة المفخخة التي سرقت منه، والذي سلم نفسه الى القضاء، بدا لافتا مسارعة السلطات السورية الى الاعلان عن أن “التحقيقات الأولية” أظهرت أن تفجير دمشق ناتج عن “عملية انتحارية نفذها ارهابي على علاقة بتنظيم تكفيري”، وأن السيارة التي استخدمت “دخلت من بلد عربي مجاور قبل يوم من التفجير”. الا ان هذه التحقيقات لم تعلن عن هوية هذا “المنفذ الانتحاري” ولا عن هوية هذا “التنظيم التكفيري”، رغم ان أي جهة لم تتبن حتى الآن التفجير الأول من نوعه في سوريا منذ ثمانينيات القرن الماضي. علما ان هناك معلومات تفيد أن بين ضحايا الانفجار ضابط كبير لم تعرف هويته.
في المقابل، ما زال الغموض يلف جريمة اغتيال قائد العمليات العسكرية في “حزب الله”، ورجل ايران الموثوق عماد مغنية، الذي إغتيل أيضا في دمشق،، في 12 شباط الماضي، رغم اعلان السلطات السورية يومها، وعلى لسان وزير خارجيتها وليد المعلم، أن نتائج التحقيق ستعلن خلال ثلاثة أيام. كما أن عملية اغتيال المستشار العسكري والأمني للرئيس السوري بشار الأسد، العماد محمد سليمان، في تموز الماضي، لا زالت محاطة بالكتمان الشديد. وقد تبين أن سليمان كان مسؤولا عن ملف العلاقة مع “حزب الله”، وعن العلاقة أيضا مع الملف النووي الايراني.
وفي الوقائع أيضا، أن تفجير طرابلس حصل بعد ثمانية وأربعين ساعة فقط على انفجار دمشق، وان عملية التفجير تمت بالطريقة نفسها – اي لاسلكيا عن بعد – التي نفذ فيها التفجير الأول الذي استهدف ايضا الجيش، في 13 آب الماضي، والذي تزامن مع توجه الرئيس اللبناني ميشال سليمان، صبيحة ذلك اليوم، في أول زيارة رسمية له الى سوريا. ورافق انفجار الأمس مسارعة الأسد نفسه الى اعتبار ان “شمال لبنان بات قاعدة حقيقية للتطرف تشكل خطرا على سوريا” (من الحديث الذي نقله عنه نقيب المحررين في لبنان ملحم كرم). كما بدا لافتا، في السياق نفسه، مسارعة السلطات السورية الى التاكيد أن التفجير أعد في بلد عربي مجاور، في اشارة واضحة الى شمال لبنان.
كلام يفهم منه أن النظام السوري يشير بإصبعه الى أن هناك تزامناً بين الانفجارين، في التوقيت، والمصدر والفاعل. وهنا يطرح سؤال آخر نفسه: هل كان التفجير الأول ضد الجيش اللبناني، في أب الماضي، “استباقيا” وبمفعول رجعي؟ ولماذا؟ وما علاقة التفجيرين الأخيرين، في دمشق وطرابلس، بالحشود العسكرية السورية على الحدود الشمالية مع لبنان، والتي حاول المعلم من نيويورك نفيها بوقاحة، رغم ان أكثر من محطة (“ال. بي. سي” اللبنانية واحدة منها) نقلت بالصورة مشاهد من عملية انتشار الوحدات السورية داخل الحدود السورية؟
تفيد معلومات حصل عليها “الشفاف” عن احتدام الصراع داخل الطائفة العلوية في سوريا، أي داخل السلطة-العائلة الحاكمة، وعن حصول تصفيات داخلية على خلفية المحكمة الدولية، أو على خلفية علاقة الملف النووي السوري-الايراني. اذ تفيد المعلومات ان اللواء عبد الكريم عباس، وهو رئيس فرع فلسطين الموجود على مقربة من مكان انفجار دمشق، اختفى بعد حصول الانفجار. وهو أحد الضباط الكبار المطلوبين في جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري. فهل هو الضابط نفسه الذي قيل انه قتل في الانفجار، بحسب المعلومات التي بثتها إحدى المحطات التلفزيونية، يوم السبت الماضي، نقلا عن قريب لهذا الضابط، لم يشأ الكشف عن اسمه؟
ناهيك عن ان صحيفة “الثورة” الرسمية السورية، في تعليق لها على انفجار دمشق، وما تم الاعلان عنه من “تحقيقات أولية” بخصوص هوية “المنفذ الارهابي وعلاقته بتنظيم تكفيري”، رأت أن ذلك يشكل “بداية نهاية كشف مسلسل المخطط الذي بدأ مع عملية اغتيال الحريري” (!). وكأنها تريد القول أن منفذي ومخططي انفجار دمشق هم أنفسهم الذين خططوا لاغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق، أي أصوليين تكفيريين. وهذا ما سعى اليه النظام السوري منذ بداية التحقيق الدولي في جريمة اغتيال الحريري.
وهذا ربما يفسر تركيز السلطة في سوريا على مدينة طرابلس، ومحاولة اعتبار انها اصبحت معقلا للارهاب التكفيري والأصولي، على خلفية نمو السلفية السنية فيها. فكلام الأسد أمس عن أن “شمال لبنان بات قاعدة للتطرف يشكل خطرا على سوريا”، سبقه كلام مماثل على لسان الأسد نفسه خلال القمة الرباعية (سوريا، فرنسا، قطر وتركيا)، التي عقدت في العاصمة السورية، في 4 ايلول الماضي. فهل لهذا السبب يتم حشد قوات سورية على الحدود مع شمال لبنان؟
الا أن هذا الكلام لم يعجب يومها لا الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ولا حتى أمير قطر، الذي رد عليه قائلا ان الأوضاع في لبنان تسير الى الأفضل بعد “اتفاق الدوحة”. كما أن ساركوزي أكد يومها أن لا مساومة على المحكمة الدولية، وأن لبنان ليس هدية، وأن على سوريا أن تلتزم بالمسار الذي اتفق عليه في باريس حيال لبنان، مقابل فك العزلة عن النظام السوري.
في المقابل، يبدو أن لهذه التفجيرات ضد الجيش اللبناني هدف آخر واضح، لا تتوقف عند حدود شل هذا الجيش وفعاليته، وانما تتعداه لتطال ميشال سليمان، من أجل افهامه أن دوره محدود كرئيس “توافقي”، وأن هناك “خطوطاً حمر” لا يجب أن يتخطاها، مثلما فعل عندما كان قائدا للجيش ابان معركة مخيم نهر البارد، في الصيف الماضي، ضد عصابة شاكر العبسي (“فتح الاسلام”)، رغم قول أمين عام “حزب الله” أن المخيم “خط أحمر”.
بعد معركة البارد، كثرت الاستهدافات ضد الجيش اللبناني، كضامن للسلم الأهلي، بدءا من أحداث مار مخايل، في شباط الماضي، الى غزوة بيروت من قبل “حزب الله”، في 7 أيار الماضي، حيث وقف الجيش شبه متفرج أمام فلتان الميليشيات (“الحزب القومي و”أمل”) التي خرجت من جحورها، الى أحداث طرابلس بين منطقتي باب التبانة (السنية) وجبل محسن (العلوية)، وأخيرا، لا آخرا، الاعتداء على مروحية الجيش فوق تلة سجد التي يسيطر عليها “حزب الله”، وقتل الضابط الطيار سامر حنا حرب والاعتداء على زميله الطيار، وخروج ميشال عون (القائد السابق لهذا الجيش)، مطالبا بفتح تحقيق لمعرفة من اعطى الأوامر (من الجيش) لارسال المروحية الى منطقة “حزب الله” (كذا)، وغيرها من الأحداث والفتن المفتعلة والمتنقلة.
أغلب الظن، أن الهدف من هذه التفجيرات أن النظام السوري يسعى لـ”تنظيم الارهاب”، وتصوير نفسه انه واقع “ضحيته”، وبالتالي اثارة واستدرار العطف الدولي تجاهه. وهو يريد، على الأرجح “استجلاب عروض” من أجل اعادة تحديد دوره ونفوذه في لبنان، بعدما شعر أن الضغوط الدولية بدأت تمارس مجددا عليه. فالانفتاح الغربي-الفرنسي عليه مشروط بما طلب منه في لبنان، وبما هو مطلوب منه بخصوص فك العلاقة مع طهران، وبخصوص انتقال المفاوضات غير المباشرة مع اسرائيل الى مفاوضات مباشرة. وما تلميح رئيس وكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي، قبل يومين، الى أن البحث في الملف النووي السوري تعرقل “بسبب اغتيال أحد الضباط المعني بالملف”، أي محمد سليمان، الا إشارة في هذا الاتجاه.
s.kiwan@hotmail.com
* بيروت