“بين فقه الإصلاح الشيعي وولاية الفقيه” كتاب جديد للمؤرخ والباحث الدكتور وجيه كوثراني، (“دار النهار” 2007) يستحق التنويه والتقدير لاسباب عدة. فهو يأتي في لحظة حرجة يعيشها الفكر الشيعي وسياساته في لبنان والعراق وايران، وفي لحظة جمود لفقه الاصلاح والتجديد منذ غياب الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين. فيعيد وجيه كوثراني وصل ما انقطع في تراثنا وتاريخنا وفقهنا وواقعنا، مستعيداً الكبار الكبار من أعلامنا، ومؤسساً لرؤية معرفية وفقهية – كلامية على الخطى نفسها التي سار عليها صديقنا المشترك الشهيد الدكتور فاضل رسول، والمحقق الباحث الاصلاحي الايراني محسن كديور، والدكتور عبد الكريم سروش، وغيرهم من أعلام الإصلاح والتجديد والوعي النقدي والشجاعة الأدبية.
منذ التقيت وجيه كوثراني وعملت معه، اي منذ العام 1969 – 1970 وهو على ما عهدته فيه يومذاك من تواضع جمّ (وتلك سمة العالِم الحق) ومن ولع بالحقيقة ونهم الى المعرفة وبحث دائب وجهد جاد، ومن شغف الى حدود المثال، بالواقع الممتلىء تفاصيل حياة ونضال ومواقف وأفكارا، هي بعض من تاريخنا المشترك ومن مستقبلنا الواعد.
كنا في خلية 23 نيسان، (نسبة الى انتفاضة 23 نيسان 1969)، المسؤولة عن القطاع الطالبي في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين – لبنان الاشتراكي، (التنظيم الموحّد الذي صار لاحقاً منظمة العمل الشيوعي، ايار 1971)، قبل أن نتركه: وجيه (تموز 1971) وأنا (تموز 1972)… لينصرف هو الى متابعة التحصيل العلمي والبحث والدراسة في بلجيكا وغيرها، ولأواصل أنا مسيرة البحث والدراسة في فرنسا، كما النضال والقتال في جنوب لبنان.
وكنا، وجيه وأنا، مع أحمد بيضون ووضاح شرارة وعلي حرب وسميرة حميدان وعزة شرارة وسناء البواب وحكمت العيد ونصير الاسعد ومختار حيدر وغيرهم، في قلب معركة الطلاب الثانويين وانتفاضتهم ضد سياسات التصفية، (العلامة اللاغية في اللغة الاجنبية)، والعزل والتهميش، (مسألة المعادلات)، والقمع والتنكيل، فكانت انتفاضة 1970 – 1971 وأداتها نشرة “صوت الثانويين”.
وكنا مع المقاومة بكل أشكالها كتجسيد للحقوق العادلة للشعبين اللبناني والفلسطيني: من انتفاضة 23 نيسان 1969 الخالدة الى تجمّع الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية والتقدمية، الى الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية بقيادة كمال جنبلاط، الى لجان تحصين ودعم الجنوب، الى تجربة السيد موسى الصدر في كفرشوبا وفي كل الجنوب… الخ، ومن تجربة منظمة الاشتراكيين اللبنانيين – لبنان الاشتراكي، الى التجربة الماوية المستقلة، الى التجارب الجماهيرية النضالية المختلفة تحت عنوان “اليسار الجديد”، إلى التجارب مع الحركة الشيعية النهضوية الاصلاحية لموسى الصدر، ثم مع الثورة الايرانية بشقها الاصلاحي الديموقراطي. انشغل وجيه في كل هذه المراحل والتجارب بهمّ واحد هو فهم التاريخ وفهم الواقع في نظرة علمية تبحث عن مواطن التغيير نحو الافضل دوماً. وحين انشغل وجيه بالاتجاهات الاجتماعية – السياسية للواقع اللبناني والعربي، (اطروحته وكتابه الاول)، أثبت قدرة وكفاءة على قراءة التاريخ واستعادة محطاته في خدمة الناس والتغيير والمستقبل. هذا هو المصلح المعتدل، الفقيه العالِم، الباحث المؤرخ، وجيه كوثراني، الذي يعطيني ألف سبب وسبب لكي استمر على المحبة والوداد، وعلى الصداقة والزمالة رغم كل المحن والصعاب.
في كتابه الجديد، يواصل وجيه الحوار والنقاش الذي كنا بدأناه مع شيخنا الجليل الإمام محمد مهدي شمس الدين، منقباً باحثاً في فقهنا الشيعي الاصلاحي، وفي فكرنا السياسي اللبناني، وفي واقعنا العملي، حاملا الهمّ نفسه والهاجس نفسه، الدولة والوطن. ومن نقده استقواء اهل السياسة بالدين، الى فضحه ثقافة الحزب – الطائفة، (اي استقواء اهل الدين بالعصبية وبالسياسة)، الذي يقمع المثقف والمفكر والمواطن والوطن، الى تفكيكه ذهنية اختزال الحياة السياسية اللبنانية بالطائفة، أو بحزبها الحاكم الوحيد فيها، (وعليها)، او بثنائية حزبية عصبية بغيضة تتناتش المغانم والمواقع في الطائفة والدولة والوطن، وعلى حسابها، (وكل الكلام السابق هو منّي وليس من كتاب وجيه). يدعونا كوثراني الى التأكيد على ان وحدة المواطنين هي أساس وحدة الدولة / الوطن، وليس وحدة الطائفة، وان العقد الاجتماعي المدني بين المواطنين والدولة هو خلاص الجميع. ووجيه في ذلك يؤكد انتسابه الصريح والمعلن الى المواطنة والمدنية، والى الاصلاح والديموقراطية، والى الانسان، المقدس الوحيد الذي ليس فوقه اي مقدس، (حتى الدين وُجد لخدمة الانسان وليس العكس، على ما كان يردد إمامنا شمس الدين). ولهذا فإن وجيه يقدم الينا في كتابه كشف حساب نظرياً، فقهياً
وكلامياً، مع كل التهويمات الايديولوجية الدينية، (والشيعية تحديدا)، التي حاولت وتحاول اختزال الدين بالسياسة، واختزال السياسة بالسلطة وموازين القوة، ومع كل محاولات تقييد المواطن والوطن بقيود “وحدة الطائفة” و”شرعية الحزب وإلهيته” وعصمة القائد وقداسته.
والمسألة الاساس في كتاب بين فقه الاصلاح الشيعي وولاية الفقيه هي كيفية انزياح ذلك البناء النظري والعملي العظيم الذي شاده كبار فقهاء الاصلاح عند الشيعة، انزياحه بقوة وبقسوة صوب احادية نظرية ولاية الفقيه، وأحادية مرشدها وحزبها وقائده. كان وجيه كوثراني قد ابتدأ بالاطلالة على هذا الموضوع الخطير في واحد من أهم كتبه، (ولعله الاهم) هو كتاب “الفقيه والسلطان” الذي ناقش فيه جدلية العلاقة بين الدين والسياسة من خلال نموذجَي الدولة العثمانية والدولة الصفوية. وهو بذلك يندرج ضمن سياق أعمال الشهيد الدكتور علي شريعتي، والمرحوم الدكتور مهدي بازركان، والشهيد الدكتور فاضل رسول. إلا أنه يتميز عنهم باستعادته مقولة ابن خلدون عن “العصبية المتغلبة” التي تستقوي بالدعوة الدينية لتزداد قوة وبأساً، ولينبّه ويُحذّر من ان اللجوء الى الدين من قبل السلطان يُفسح في المجال واسعاً امام اي كان في المجتمع، لاستخدام الدين نفسه وبالأسلوب نفسه. وهكذا فإن الاسلاميين الحركيين لم يستشعروا خطورة ترسيخ الفرقة بين اهل الاديان، واستخدموا، كما غيرهم من القوى السياسية، الحاكمة والمحكومة، السلطات كما المعارضات، ورقة الدين والخلاف الديني لترسيخ مواقعهم في الشارع، وانغمسوا في حسابات تكتيكية وانتهازية ضيقة الأفق تقوم على أساس تحريك الشارع والسيطرة عليه، من دون النظر إلى عواقب الأمور على الوحدة الوطنية والوطن، وعلى الشخصية الثقافية والمواطنية السوية للمواطن وللمجتمع، لا بل وعلى الدين نفسه.
وفي هذا الاطار تقع أزمة المثقف والباحث والناقد الذي عليه الانضواء في الجسد السياسي للطائفة، أو “الخروج” على طائفته ودفع أثمان ذلك حين تكون الطائفة معبأة ايديولوجياً ودينياً حول قداسة حزبها وزعيمه، وحول تكفير وتخوين كل “خارج” على هذا الإجماع. فيتعطل دور المثقف والباحث والمواطن، والمنتج لمعرفة ما او لفن أو إبداع، لمصلحة أدوار هامشية لا تسمح له “بالتأثير” في الناس.
والحقيقة أنني كنت، منذ مطلع السبعينات، شديد الحساسية تجاه مسألة الصلة بالناس هذه، الى حد الغرق في الشعبوية الماوية تارة، وفي الحركية النضالية والجهادية تارة اخرى، في حين أن تراث شيعة اهل البيت والأئمة منهم هو تراث التأكيد على الاستمساك بالحق والعدل، (ولو على ذي قربى)… أليس هذا ما قاله الإمام عليّ: “أعرف الحق تعرف أهله، وما أوحش طريق الحق لقلة سالكيه”؟
أليس هذا هو تاريخ ما قاله في “نهج البلاغة” في ذم الحشود والناعقين مع كل ناعق في غربال؟ أليس هذا ما قاله وسلكه الإمامان الحسن والحسين، وكل من جاء بعدهما من أئمة ومن صحابة ومن رجال؟ إذن فلمَ الخوف؟ “ما دمنا على الحق لا نبالي، وقعنا على الموت ام وقع الموت علينا”.
يقول وجيه كوثراني في أجمل مقطع من كتابه: “قد يسهل على اصحاب الخطاب الديني أن يعبئوا ويقودوا العامة الى ما يريده خطابهم السياسي، بل يسهل عليهم ان ينشئوا استشهاديين، تأسيساً على حقائق إيمانية مطلقة ووعداً بالجنة، بل ويسهل عليهم ان يُعمموا على الأتباع والمحازبين، وعلى جمهورهم العريض، أنهم جميعاً الأنقى والأطهر والأشرف (…) أي أنهم، بتعبير سلفي قديم، الفرقة الناجية الوحيدة. ولكن ما المحصلة اذا ما استمر العمل السياسي الاسلامي المعاصر يؤسس لنفسه، أي لقياداته وكوادره وجمهوره وبرامجه ومواقفه، على قواعد وأساليب الثقافة الدينية والتعبئة الدينية وفقه الحلال والحرام، والايمان بالمقدس ونبذ غير المقدس…؟“.
نعم، ما المحصّلة التي سيقف بها هؤلاء أمام الله يوم القيامة، أو أمام الناس يوم الحساب الديموقراطي، او يوم الكوارث والمآسي؟ لقد أسس الصفويون والعثمانيون لشرعنة ولايات الغلبة والاستيلاء، وصولا الى “وجوب” وحدة السلطان الديني والسلطان الزمني (رئاسة في الدين ورئاسة في الملك)، في شخص السلطان. وهذا “الوجوب” استدخلته الثقافة الاسلامية “في نصوصها وأعرافها، من خلال الاعتقاد الشائع ان الاسلام دين ودولة، ولا ثنائية فيه، وشكل مأساة التاريخ الاسلامي على امتداد مراحل فتنه وحروبه الاهلية”.
على ان ما كان يشغل بالي وبال كل من رافق وحاور الامام شمس الدين واستفاد من علمه وحكمته، سؤال مختلف حاول وجيه الاجابة عنه، من دون القطع او الحسم بشنه. والسؤال هو الآتي: ماذا نعني بالدولة المدنية؟ وكيف يمكن بناء هذه الدولة في مجتمعاتنا العربية والاسلامية من دون الوقوع في النقل الاعمى للنموذج الغربي الاصولي العلماني؟ وهل يمكن تحقيق “الانسجام” بين الدين والدولة، (على ما يقول اتفاق الطائف)، أم ان المطلوب تحقيق قطع وفصل كما في التجربة الغربية للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟ وهل صحيح ا ن قانونا وطنيا، لا طائفياً، للانتخابات النيابية، وقانونا مدنيا للزواج والاحوال الشخصية هما فعلا الحل لمشكلاتنا اللبنانية، (الطائفية السياسية)، والمدخل الى معالجة قضايا الدين والدولة في المجتمعات العربية – الاسلامية؟ لا يفعل وجيه كما فعل بعض المثقفين من اصدقائنا في التهكم على مشروعية هذه الاسئلة وفي عرض العضلات العلمانية الفارغة.
سألت الامام شمس الدين يوما: ما هي حقيقة انتقاداتك لكتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم”؟ وما كان سيكون موقف محمد عبده لو انه كان حياً حين حوكم الكتاب واضطهد صاحبه؟ وما الاختلاف بين دعوتك يا سماحة الشيخ الى “دولة مدنية لا دين لها” وبين دعوى كتاب علي عبد الرازق؟ وكان الشيخ قد كتب كتابه الاول “نظام الحكم والادارة في الاسلام” حين كان طالبا يافعا في النجف (1954) في اجواء صحوة الهوية الاسلامية السياسية والثقافية التي اطلقها “الاخوان المسلمون” في مصر، وكتابات سيد قطب والنبهاني يومذاك، علما ان الحزبية السياسية الشيعية الاسلامية هي ابنة شرعية لثقافة الاخوان وسيد قطب نفسها، و”حزب الدعوة” الشيعي ولد من صلب تلك التجربة واقتدى بها. يومها قال لي الشيخ ما قاله في مقابلة شهيرة اجراها معه وجيه كوثراني في مجلة “منبر الحوار”، حول العلمانية والاسلام. قال الشيخ: “يمكن ان نتصور ونرسم مخططا لدولة اسلامية لا تفترق عن اي دولة مدنية حديثة. فلنسمها علمانية إذن، ومع الحفاظ على الخلفية الفلسفية للتشريع… ومع الحفاظ على السمات العامة التي تميز المسلم عن غيره، وخصوصية السما ت الثقافية موجودة في كل حضارة ولدى كل مسلم”. وكان الامام سبّاقا الى لفت الانتباه الى الخصوصيات الثقافية والدينية والإثنية واللغوية للجماعات التي تكوّن اجتماعنا السياسي على المستوى المحلي اللبناني، كما العربي والاسلامي. ويومها قلت له حين سمعت منه عبارة “دولة لا دين لها”: هي علمانية إذن وفصل كامل بين الدولة والدين واستعادة لمقولات علي عبد الرازق؟ قال الامام بصوت حاسم: “لا، أبداً… لأن علي عبد الرازق أخطأ خطأ كبيراً دل على عدم معرفته بالواقع بأن النبي كان رسولا ومبشرا ونذيرا فقط وانه لم يؤسس دولة… وهذا خطأ تارخي اصلا لأن الرسول أسس دولة في المدينة وعقدها الاجتماعي هو صحيفة المدينة، (أو ميثاقها ودستورها)… علي عبد الرازق وقع في ما وقع فيه طه حسين حين اخذ عن المستشرق مرغليوث، وبتسرّع، أفكاره حول الشعر الجاهلي والقرآن… وهما تراجعا عما كتباه، ولم يكن الأمر تحت ضغط واكراه بقدر ما كان يدل على تواضعهما وعظمتهما، خصوصا حين كتب طه حسين سلسلته حول الاسلام: الفتنة الكبرى، وعلي وبنوه، والشيخان، الخ. كما كتب العقاد عبقرياته”.
المهم أن ما أراده الشيخ وما أكده عليه في المقابلة الشهيرة مع كوثراني هو “توليد علمانيتنا الخاصة بنا، وحداثتنا الخاصة بنا، وأن ننتج ديموقراطيتنا، وولاية الأمة على نفسها، وأن نقتبس في ذلك من الغرب لأن الخير في كل حضارة هو “أحسن قولها”، (حسب التعبير القرآني)، أو هو أفضل تجاربها، (بتعبيراتنا المعاصرة)”. ويقول الشيخ أيضاً: “الخشية القائمة الان لدى العلمانيين لها ما يبررها اذا ما أردنا ان ننتج دولة على غرار تلك الدول المسماة اسلامية: دولة شمولية، بالمصطلح الحديث، او دولة سلطانية بالمصطلح التاريخي. أنا كفقيه مسلم واسلامي لا أوافق ابدا على دولة من هذا القبيل ولا أراها اسلامية، وأفضل عليها أي صيغة تتم برضى الناس واختيارهم”. وحين اقول انني كنت اسير على نهج الامام، واختلف مع الكثير من الاصدقاء “العلمانيين” حول فهم العلاقة بين الدين والدولة، فذلك لأقول ان مساهمات وجيه كوثراني كانت تتميز عن مساهمات غيره من العلمانيين. فهو “المقتنع شخصيا بأكثر مفاهيم الحداثة السياسية”، كان مقتنعاً أيضا بأن “الاصلاح الديني”، الذي كان شرطا من شروط النهضة الدستورية على يد الحزبية الاسلامية السلطوية وعلى يد الحزبية القومية الانقلابية التوتاليتارية”. واني أوافقه الرأي في ذلك، مع فارق بسيط هو انني اعتبر المسؤول الاول عن إجهاض النهضة الدستورية، (في حركة الدستورية والمشروطة والوفد وغيرها من التجارب)، هو الحزبية القومية الانقلابية والعسكرية والتوتاليتارية، حين لم تكن الحزبية الاسلامية قد ولدت بعد، أو أنها ولدت جواباً عكسياً على هذا الإجهاض.
وكتاب كوثراني يعيدنا الى استذكار تاريخ الاصلاحيين الشيعة وتراثهم في هذا المجال، وانطلاقا من الموضوعة الاساس التي تخترق الكتاب من أوله الى آخره، وهي ان “ولاية الفقيه” لا تمثل الفقه الشيعي ولا تنتمي الى سياق ومرجعية الاصلاحية الشيعية الحديثة، لا بل هي قطع معها واستعادة لمفهوم توحّد السلطة الزمنية والسلطة الدينية في شخص السلطان، اي انها استعادة “حداثوية” للنموذج الصفوي السلطاني العصبي، سبب كل مصائبنا. وبهذا المعنى فإن “ولاية الفقيه” لا تمثل حتى فقهاء الشيعة زمن العصر الصفوي، الذين لم يتوحدوا حول المؤسسة الدينية الصفوية ولم يسلّموا بمقولة “نيابة الإمام” إلا بمعنى كونها تسمح بتعدد مرجعيات الاجتهاد والتقليد من دون معنى الصلة بالسلطة والسلطان أي بتأسيس دولة.
وقد ظلّت الغالبية الساحقة لمجتهدي الشيعة، والى يومنا هذا، تقول بمحدودية ولاية الفقيه او لا إطلاقيتها، او بتقييدها بحدود مرجعية الاجتهاد المعمول بها منذ غيبة الامام المهدي. وقد وقف الشيعة على العموم ضد زجّ “نيابة الامام” اي “الفقيه المجتهد” او “المرجع الديني”، في المؤسسة السلطانية، اي في جهاز الدولة. ونشأت بينهم تيارات واتجاهات عدة التقت كلها على تحديد ولاية الفقيه وعلى الاستقلال عن الدولة… من الاتجاه الاخباري، (اي السلفي المحافظ)، الى الاتجاه الاصولي – الاصلاحي، (ورأسه الشهيد الثاني زين الدين بن علي الجبعي العاملي الذي ذهب ضحية الصراع العثماني الصفوي حين كان يفتي اهل جبل عامل الشيعة وأهل صيدا السنة)، الى الاتجاه النقدي العرفاني الاجتماعي، (اي الصوفي وصاحبه الملا صدر الدين الشيرازي وبهاء الدين العاملي وغيرهما… علماً ان الامام الخميني تاثر في شبابه بهذا الاتجاه كما غيره من اعلام فقهاء الشيعة في قم والنجف)، وصولا الى الشيعة الاصلاحية الحديثة وعلمها الاول الميرزا حسين النائيني صاحب كتاب “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”. ولعل اهم فصول كتاب كوثراني هو ذاك الذي يتحدث عن اعلام الاصلاحية الشيعية الحديثة ويعرض ابرز افكارهم، وهنا لفتة مهمة من الكاتب تتعلق بالمرحوم الشيخ محمد جواد مغنية، إذ هو يضعه الى جانب الاعلام المؤسسين من النائيني ومحسن الأمين، الى موسى الصدر وشمس الدين، وفي ذلك ما هو جدير بالتنويه والشكر لوجيه، خصوصا بسبب مظلومية الشيخ مغنية الذي لم يعرف الشهرة رغم إسهامه
الواضح والقوي في تمتين دعائم الاصلاحية الشيعية في النجف وجبل عامل.
يبقى ان الكتاب استعرض افكار عبد الكريم سروش، “القبض والبسط في الشريعة الاسلامية”، ولم يتطرق الى اعمال محسن كديور او العراقي احمد الكاتب، او الشهيد المظلوم الدكتور فاضل رسول، (انور الكردي)، الذي اغتيل غدراً في فيينا حين كان يقوم بتكليف من دولة ايران الاسلامية بالوساطة بينهم وبين الزعيم الكردي عبد الرحمن قاسملو… فجاء القتلة الى منزل انور وقتلوه هو وقاسملو. وكان فاضل رسول مؤسس مجلة “الحوار”، (عملت معه فيها حين كنا لا نزال في فرنسا)، والتي انتقلت الى بيروت ليصير اسمها “منبر الحوار” ويديرها وجيه كوثراني. ويسجل للشهيد انور انه اول من ترجم ونشر اعمال علي شريعتي ومهدي بازركان وابو الحسن بني صدر، وانه كان اشجعنا وافضلنا على طريق الحق والعدل.
وفي الختام، فإن الاصلاح الشيعي يحتاج الى كلام واضح صريح، والى موقف أدبي وأخلاقي شجاع وجريء، لا يخاف في الحق لومة لائم او نعيق الغربان… واليوم ليس هناك ما هو اوضح واشجع من الكلام الذي قاله وجيه كوثراني في هذا الكتاب. انه كتاب يليق بصاحبه ويليق بالشيعة ويليق بنا جميعاً، وهو افضل الكلام في هذا الزمان.
*
(•) هذا النص فصل من كتاب الدكتور سعود المولى الجديد تحت عنوان: “طريق ذات الشوكة – الشيعة اللبنانيون في تبلور وعيهم الوطني” والصادر ضمن سلسلة “دفاتر هيا بنا”.
mawsaoud@hotmail.com
*كاتب لبناني- بيروت