س- هل تعتقد فعلا أنهم لم ينالوا من سمعته وكرامته، وهم يخترعون صورا له إذ هو يوقع على انسحابه من اعلان دمشق؟
ج- لا أبدا، لأن الشعب السوري ينظر بعين الاكرام والتقدير لكل أصحاب العيون التي تقاوم مخارزهم، بل إن أي مواطن سوري من العشرين مليون قادر على كسب معركة الرئاسة مادامت تخاض ضد هكذا رئاسة…وذلك إذا أتت ظروف تفرض أن تكون الانتخابات حرة، اعتمادا على رصيد وحيد وهو رصيد كره الشعب لنظامه، وأن منافسه ليس إلا رئيس وريث لأبشع طاغية مغتصب للسلطة عرفه التاريخ السوري، ومن ثم فإن رصيد المنافس الوحيد -الدائم- ليس إلا رصيد رئيس (عصابة مافيا) تعريفا وليس هجاء مشاعريا كما يحب الكثيرون من الأصدقاء الكتاب في سوريا أن يتعاملوا بجدية شديدة ورصانة نظرية عليا مع موضوعات حوشية مبتذلة مثل موضوعة : واقع حقيقة أن من يحكم سوريا هم عصابات مافيا تتشكل سوسيولوجيا- فيما وصفناه سابقا- من رعاع الريف وحثالات المدن، فنقول : إن هذا الأمر ليس بحاجة للدهاء النظري أو المكر السياسي للقبض على شيطانية الواقع السوري، فالناس بتجربتهم اليومية المعاشة قادرون على رواية عشرات الوقائع والأحداث عن حالات من الفساد والافساد في كل قطاعات الحياة المعاشية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والقانونية والقضائية أو الطبية والصحية والتعليمية، مما ليس بحاجة لأي برهان…
لو أن أحدا ما طرح مشكلة قضائية أو ادارية أو طبية…الخ في سهرة عائلية بين أصدقاء فسنجد لدى كل فرد من المشكلات مالا حاجة به لقراءة الدراسات والأبحاث المعمقة أو المبسطة، فالوضع على درجة من الابتذال والانحطاط مالا يحتاج إلى تقعيد أو تنظير، ولذا كنت دائما أنظر بعين اللامبالاة نحو التتفسيرات التي تعزو أزمة المعارضة السورية تارة إلى خطابها وتارة إلى برنامجها… وأستغرب حماس البعض من الأصدقاء -وخاصة المحامين- في تناول الوضع في سوريا وكأنه ثمرة حالة الطواريء، وكأن كل جرائم النظام مقوننة ومستندة إلى حالة الطاريء والأحكام الاستثنائية، وإن الغاء هذه الحالة سيلغي حالة ابادة الحياة السياسية استطرادا واستتباعا لالغاء حالة الطوارئ منطقيا، وهذا القول يشابه الحديث على أن احلال السلام مع اسرائيل سينزع ذرائع النظام نحو استخدام القمع… أو ما يحاول النظام اليوم أن يكذب فيه على المجتمع الدولي في مسألة علاقته في لبنان، حيث يظهر الاعتراف باستقلاله وتبادل التمثيل الدبلوماسي وافتتاح السفارات معه..أو…أو… الخ كأن ذلك سينقذ لبنان من براثنهم، وكأن الاتفاقات أو المعاهدات يمكن أن تشل اليد الاجرامية للنظام ، وكأن النظام كان يستند في تسلطه على لبنان بسبب عدم وجود روادع قانونية تحمي لبنان من اجرامهم… إن هذه أوهام في أوهام، لأن المجرم يقوم بجريمته-عادة- مع أنه يعرف أن كل قوانين العالم المدنية والدينية تحظر الاجرام.. بل إن كل من يعتقد- خاصة الأوربيون- أن النظام سيذعن للقبول بالاتفاق مع لبنان في سبيل رفع الحصار عن سوريا، فهذا وهم أيضا لأن أمر دخول سوريا السوق الأوربية لايعني الطغم المتسلطة لأنها تكشف شبكة لصوصيتهم، وهم يفضلون الحصار والعزلة لأنه يتيح لهم التفرد بشعبهم الأعزل قهرا وتنكيلا، والأوربيون واهمون عندما يعتقدون أنهم معنيون بالانضمام للسوق الأوربية، لأن دخولهم في السوق الأورية سيضع قطاعات واسعة من الاقتصاد السوري تحت الشفافية العلنية والرقابة الأوربية، وعلى هذا ما يظنه الأوربيون أنه مكسب وطني لسوريا فإنه يعكس فهمهم للمسألة الوطنية وليس فهم النظام، لأن فهم المصلحة الوطنية لسوريا يدخل دائما في حالة تناقض مع مصلحة النظام، وذلك لأن النظام عصابة وليس دولة.
س- ما هو دافعهم إذن؟
ج- هاجس الرعب من المحكمة الدولية،علينا وعلى لبنانيين أن نفهم أن هذا النظام منذ مؤسسه الأول لا يحترم أي مواثيق سوى ميثاق القوة، ولهذا فهو لا يحترم أي اتفاق سوى اتفاقاته مع اسرائيل، وذلك لأن لاسرائيل يدا- دائما- هي على الزناد، وعلى هذا فهو يستخف بكل من لايعزز كلامه بالجزمة، أي بالقوة، لكن القوة بالمعنى الحسي الوضيع والغريزي العاري للقوة الحسية الجسمانية : ارهاب، اغتيالات، خطف، أي القوة ليس بمفهوم ميزان القوى بالمعنى الحضاري والمدني الدولي الذي يتشكل بدوره ليس من الميزان لعسكري فحسب، بل الاقتصادي والسياسي والثقافي والبشري…الخ، لذا فهم لا يفكرون إلا بقوة اسرائيل العسكرية ومن ثم بطبيعة الحال الأمريكي، فما كان أبسط عليهم أن يخزلوا صديقهم جاك شيراك الذي آواهم وعمدهم رئاسيا لينقلوا توقيع عقد اتفاقية استثمار النفط من فرنسا إلى أمريكا لأن شيراك ليست يده على الزناد كبوش، وأظن أن ساركوزي لن يكون مصيره أفضل عندما يتأكدون أنه لن يستطيع أن ينقذهم من مصيرهم الحتمي أمام المحكمة الدولية، وهم الآن يوافقون على كل ما يطلب منهم في الاتفاق مع لبنان لأنه لايكلفهم سوى الكلام، بينما هم يتوقفون عند الحديث عن مزارع شبعا مترددين، لأن الأمرهنا يتعلق باسرائيل فلا مجال للكذب والشطارة في المراوغة والديماغوجية مع اسرائيل، ولهذا لم يترددوا في المسايرة على كل المسائل إلا على مسألة مزارع شبعا، لأن الأمر-مع اسرائيل- جاد ولا يحتمل (الزعبرة)، فهم عند ما يجد الجد لا يحرجهم أن يتفرجوا على لبنان يتدمر بسبب أوامرهم في توريط حزب الله، دون أن يتجرأوا أن يرفواجفنا بل وحتى إذا زأرت الطائرات الاسرائلية فوق عرين أسدهم ليس الصغير فحسب، بل وحتى الكبير عندما هددت تركيا ولوحت بالعصا وخصت مطارات القرداحة بالتهديد بالقصف لاستضافتهم الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، فراح مؤسس مملكة الخوف والرعب في سوريا يتوسل حسني مبارك أن يتدخل رغم أن مبارك كان يقول له : أنت كذاب ياحافظ..! لكنه صدق ووفى في هذا الأمر، فسلم أوجلان لتركيا بل وتنازل عن لواء اسكندرون…!
إن ثقافتهم الريفية التي تمجد القوة الجسدية سمحت لمصطفى طلاس أن يتقرب من سيده ليتحدث باعجاب عن معلمه الأسد بوصفه مصارعا ونطاحا وهو يعلم أن هذا الحديث سيسر قلب (الأب القائد). ولهذا فإن ثقافة القوة الجسدية هي التي ستغدو المعيارالقيمي للجيش والمخابرات، وستغدو اسرائيل وفق هذا المنظور قوة مرهوبة الجانب، وحيث سيشكل القادة الاسرائيليون تحديا (نطحيا) للأب ولجيشه ومخابراته، ولوأنهم كانوا يفكرون بقوة اسرائيل وفق معايير التحدي الحضاري : العلمي التقني والثقافي والسياسي والمدني، أي بمعاير القوة البشرية الحضارية والمدنية وليس الجسدية (المصارعة والنطح) لما كان ميزان قوى سوريا مع اسرائيل على هذه الدرجة من الفضائحية.
إن كل القراءات التي تراهن على ممكنات اعادة تأهيل عصابات النظام وترشيدها لكي تنتظم في منظومة المجتمع الدولي إنما هي قراءات تستند إلى بطر استنتاجي منطقي مجرد لا يأبه أو ينتبه إلى واقع متعين ومشخص بالبداهة، وهو بداهة أن هذا البلد محكوم بالمزاجية الاعتباطية الغريزية لعصابة (مكتب الأمن القومي المشكل من مجموعة جنرلات أمن وعسكر) التي تأخذ قراراتها الأمنية بدون الاستناد غلى أية مرجعية قانونية أو تشريعية أو قضائية عادية أو استثنائية أو طارئة تماما كما كانوا يقررون اعدام العشرات يوميا في سجن تدمر، بل وربما تدخل الحظ أو السهو أو الملل في طبيعة النطق بالحكم … بل حدثنا بعض نزلاء تدمر عن حوادث من نوع أنهم أرادوا أن ينفذوا حكم الاعدام بمجموعة ما، وفي اللحظة الأخيرة عند التنفيذ غامر أحد المحكومين منبها أنهم ليسوا هم المقصودون!
لقد قال لنا أحد أركان هذا المكتب: إما أن نوافق على اقتراحاته أو سـ”يلجأ إلى القانون”، فيغدو القانون في عرف الجنرالات هو الاعتقال والسجن لا غير، بينما هو شخصيا ممثل العفو وضمان عدم الحبس، وقد تفضل علي ذات الجنرال بارسال رسالة تطمينية شفوية مع أحد المقربين من أصدقائنا، يبلغني بأنهم لن يستجيبوا لدعوة منذر الموصللي باسم الشعب لحبسي بعد مقالي التضامني مع عارف دليلة، طبعا: إن هدف الرسالة واضح وهو أن أقدرها له فلا أعيدها…
وعندما أعدتها أحلت بالسهولة ذاتها للمحكمة العسكرية. وبذات السهولة قرروا تبرئتي بسبب قرار عفو رئاسي يشمل المهربين فشملني العطف الرئاسي على التهريب (تهريب الفكر).. فلم أحبس! بل لقد قالوا لأحد الأصدقاء الكتاب بعد سجن شهر عند أمن الدولة، بأن عليه أن يقنع أصدقاءه خارج السجن بفوائد حالة الطواريء، لأنها أتاحت لهم الافراج عنه، وإلا فإن القوانين القضائية للمحاكم العادية كانت ستحبسه،وذلك لأنه تناول مشكلة الفقر في إحدى أقاصيصه… لقد تم تقويض الأنا القانونية في داخل الانسان السوري على مدى نصف قرن من التسلط الأمني البعثي الارهابي بداهة وطبيعة وكينونة وفطرة… فالبعث ارهاب بالفطرة، وإلا ما سر هذا التشابه والتماثل إلى حد التناسخ بين البعثين: العراقي والسوري…!؟
س- كيف يتجلى هذا التماثل المتناسخ بين البعثين السوري والعراقي؟
ج- سأعطيك أمثلة أخرى تؤكد ما نذهب إليه من أن النظام في سوريا فاسد على الفطرة ولسنا بحاجة للبرهان على هذه البداهة الفطرية عبر الدراسات والبحوث النظرية والفكرية الجادة والموضوعية، وآية ذلك أنه قد جرى -ذات مرة- نقاش من هذا النوع التلقائي اليومي بين بضعة محامين في حلب حول وضع القضاء الذي أصبحت مرجعيته ليس المدونات القضائية والحقوقية التي اشتغلت عليها الانسانية ألاف السنين، بل هي مرجعية (نضالية) حزبية بعثية أي: (مخابرايتة ). فكانت محصلة النقاش هو الوصول على أنه ليس ثمة قضاة في حلب لا يرتشون سوى سبعة، واختلفوا على سابعهم، وهذا الحديث مر عليه بضعة سنوات أظن أن هؤلا الستة أو السبعة قد توفوا أو ربماعزلوا بأوامر أمنية ، بتهمة أنهم عرقلة إيقاع الحياة البعثي والتهديد لمهابة النفوذ الأمني على البلاد المهددة من قبل الامبريالية، بسبب عدم قدرتهم على تطوير أنفسهم وتأهيلها لتتكيف مع القيم النضالية الثورية لحزب البعث…! وهذه ليست سخرية عابرة بل هي محاكاة ساخرة لواقع تسلط مملوكي -لا يرتقي للشرف الفروسي للماليك- عبر عنه ضابط ذو (جزمة لماعة بكعب نقار) عندما رفس أحد أساتذة الجامعة لأنه لم يستجب لأمره بتنجيح أو ترسيب أحد الطلاب، قائلا له: أن هذه الرفسات (الدرس) ليست من أجل الطالب فلان، بل لتتعلم كيف تطيع سادتك!
هناك صور لكل مناحي الحياة في ذهن المواطن السوري تؤكد له أن من يحكمه هم طغاة صغار وعصابات مسلحة وطغم لصوصية سوقية تبيع ضميرها ووطنها للشيطان مقابل حفنة من الليرات تبلغ حد أن محافظا لحلب كان يقتسم (البخشيش) مع سائقه إذا أرسله لتوصيل أحد عملائه…
وتفسيره لطمعه هذا أنه يريد أن يدفع لمعلميه الأعلى ثمن توليته: (المحافظة-الولاية)…! هكذا كانت تحثنا كتب المدارس عن حالة الفساد السياسي في زمن السلطنة العثمانية. وأظن أن المناهج المدرسية للبعث -على درجة من الوقاحة، حيث لا تخجل من تردادها، بل ارتقت بهذه الممارسات إلى درجة اضفاء القداسة عليها من خلال صناعة رب لها: (رب أرباب الفساد هبل الأسد الأكبر) الذي قال عنه صديقه باتريك سيل بأن من حقه على الطائفة العلوية أن يكون لها نبيا وذلك في كتابه عنه المعنون باسمه… وحديثنا هذا ليس ضربا من المشاعرية الهجائية، بل يمكن للمرء أن يتأكد من ذلك من خلال أحد نماذج الأسئلة الجامعية لمقرر ما يسمى (الثقافة القومية) حيث يصاغ السؤال وفق المثال التالي، قال الأب القائد…الخ في إحدى خطاباته القومية: “إن…… الخ” أكمل نص الخطاب حتى كلمة كذا…، طبعا هذه الصياغة للأسئلة هي على على غرار أسئلة مادة التربية الدينية، وذلك عندما يسأل الطالب أن يكمل نص إحدى الأيات القرآنية الكريمة. لكن الفرق في درجة القداسة ستذهب لصالح (آيات مسيلمة البعثي)، وذلك لأن مادة التربية الدينية ليست مرسبة للطالب على عكس (آيات مسيلمة) التي تقرر مصير حياة الطالب العلمية، بالاضافة إلى أن مادة الديانة لم تعد مقررة في الجامعات…
نستطيع القول: إن هذه المسائل برهانها في بداهتها اليومية، حتى أن مواطنا فرنسيا مهتما بالشأن السوري، لا يستطيع أن يصف ويدعو النظام السوري سوى (نظام المافيا) وبسلاسة شديدة دون الشعور بأن رأيه هذا محكوم بالمشاعرية، وقد كان شديد الغضب -أكثر من كثير من السوريين الذين لم يتذوقوا مثله طعم الحرية- لاستقبال رئيسه ساركوزي لما كان يسميه برئيس المافيا السورية، ولم أسمعه قط يسميه بالرئيس السوري عنما يسألني إن كان ثمة أخبار جديدة عن الاعتقالات. ولا أظن أن هذا المواطن الفرنسي ينطلق من أي موقف مشاعري، وليس لديه أية أحقاد بالتأكيد، وذلك لأنه لم يتعرض لتجارب تدفعه لمشاعر الحقد: من نوع أنهم أغتصبوه أو اغتصبوا ابنه أو بنته أو أخته أو زوجته، ولم يكن له أهل أو أقارب في حماة قد تهدمت أحياؤهم فوق رؤوسهم، أو أقارب أواصدقاء أعدموا ببيجاماتهم يوم العيد في المشارقة في حلب،ولم يكن له عزيز بين 135 معدوما يوميا،الذين صرح وزير الدفاع بأنه كان يوقع بالنيابة عن سيده، الأسد الكبير- سيد القتلة في التاريخ السوري -على اعدامهم يوميا.
علينا أن نتصور أن أحرار سوريا المغيبين في زنزانات العصابة الحاكمة هم ارهابيو سوريا على حد تعبير الديكتاتور الكوميدي الصغير، بينما عصابات القتل والارهاب ومافيات الفساد واللصوصية التي ولغت بدم الشعب السوري والفلسطيني واللبناني مما لايقارن بالارهاب الاسرائيلي والحروب الاسرائيلية منذ قيام دولة اسرائيل، هم ممثلوا الشرعية الدستورية والمدنية والقانونية لسوريا…وفق هذيانات آخر سلالة الارهاب في باريس للصحافة الفرنسية.!
س- لم تقل لي رأيك في ادانة اعلان دمشق لبيان مأمون حمصي؟
ج- لا تزال ثمة شوائب شمولية في وعينا السياسي والثقافي، حيث لا نستطيع أن نرى حقوق الآخرين في حرية التفكير والتعبير المستقل والمختلف عن رأينا، وهذا ماوقع به أصدقاؤنا في اعلان دمشق، فإذا كان البعض في رئاسة اعلان دمشق يصر على علمانية خطابه السياسي، ويرفض أن يتحدث إلا بصوت العلمانيين فهذا حقه وشأنه وأنا أنتمي لهذا الخطاب بكل الأحوال، لكن من حق فئات أخرى في المجتمع المدني والأهلي أن تعبر عن هواجسها وقلقها السياسي والاجتماعي تجاه طائفية النظام وآثارها الخطيرة المدمرة على تجانس النسيج المجتمعي، من حق ابن دمشق المحافظ مأمون حمصي أن يعبر علنا عن حساسيته الطائفية السياسية- وليست الدينية بكل الأحوال- تجاه طائفية النظام وطائفية عميله حزب الله الذي لم يكن يقوم باحتلال (علماني) لبيروت في كل الأحوال عندما رفع مأمون حمصي صوته الاحتجاجي ضد اجتياح حزب الله لأحياء السنة البيروتية، فأية مفارقة أن نسمع أصواتا محتجة على (طائفية) حمصي بينما تسكت عن طائفية النظام السوري وحليفه اللبناني الشيعي المنشق بحق عن مجتمعه اللبناني لصالح علاقته الطائفية بدولة أجنبية يفترض وفق الخطاب البعثي أن يعتبر هذا الالتحاق خيانة كما كانت ايديلوجيا بعث العراق تتعامل مع أنصار ايران فتجدع أنوفهم وأذانهم، علما أن الطائفية تعريفا تتعارض مع وعي وثقافة وانتماءات الأكثرية التي ليست بحاجة لها أصلا. ولهذا لا يمكن أن تكون الطائفية هوية الأكثرية السنية عربيا واسلاميا في مطلق الأحوال، لأن الطائفية هي ايديولوجيا أقلوية حدا وتعريفا، إن كان على المستوى الوطني أو على المستوى الاقليمي والعالمي. وهذا ما يفسر أركيولوجيا المشروع الطائفي لايران، كونها أقلية على المستوى الاسلامي، إذ أن الشيعة لا يشكلون أكثر من عشرة بالمئة على المستوى الاسلامي فيما يمكن تسميته بالعالم الاسلامي، والذي جعلنا نبحث عن هذه النسب ونتحدث بهذه الأرقام هم ملالي طهران وأوهامهم حول تشييع العالم…!
بالمقابل ليس هناك في العالم الاسلامي ما يمكن أن نسميه مشروعا طائفيا سنيا،لأن السنة -بوصفهم الأغلبية المطلقة- ينتجون حركات أصولية تنطلق من بداهة تمثيلها الاسلام الكلي وفق زعمها. ولهذا فالسنة بداهة ليسوا طائفيين، حيث الطائفية – والأمركذلك- لاتنتج وعيا مطابقا بمصلحتهم كأكثرية، وعلى هذا تسقط كذبة النظام باتهام كل من يعارضه بالطائفية، وتتبدى حقيقة أن المجموعة الاجتماعية الوحيدة في سوريا التي تفكر وتمارس على أساس طائفي هي النظام الاستيطاني التسلطي المعزول داخليا وعالميا، والذي يسعى لفك عزلته ومداراة غربته واستيطانيته القائمة على كراهية شعبه، عبر القيام بتسعير الاستقطاب الطائفي، وذلك لانتاج وعي ايديولوجي زائف لصناعة هوية طائفية تجمعه وتوحده مع البؤساء والمحرومين من الطائفة،أي ليتساوى السارق مع المسروق والجلاد مع الضحية، ليستشعر الحاجب برشوى معنوية تجعله أكثر عبودية لجنراله الذي يستخدمه تحت وهم التوحد تحت عنوان (ابن جماعتنا)…!
لقد اصبح من البلاهة السكوت على الابتلاع الطائفي لسوريا ولبنان تحت الأكاذيب الشعارية المضللة عن الوحدة الوطنية، وعندما وصلت السكين إلى الحنجرة وتنادى المجتمع اللبناني للتنبه إلى المشاريع الطائفية لحزب الله الذي كان على وشك الانقضاض على السراي الحكومي، راح الاعلام البعثي في الصحافة السورية وفي قناة (المنار) التي لا تقل ديماغوجية عن أساتذتها البعثيين، تتحدث عن طائفية 14 آذار، وطائفة تيار (المستقبل) الذي لا تشغل الطائفة السنية -حسب علمنا- في مؤسساته الاعلامية (تلفزيون-صحافة) ما تشغله هذه الطائفة سكانيا على مستوى المجتمع اللبناني، بينما الأغلبية فيه للمثقفين من الطوائف الأخرى، وخاصة الطائفة الشيعية التي لم ترشح مثقفا كبيرا ألمعيا واحدا ليكون في اعلام حزب الله، حيث تجد كل مثقفي اعلام حزب الله (المنار) بما فيهم العرب المستوردون هم مجموعة مثقفي شعارات وجمل جاهزة هتافة تترنم بالمدح وتسكر بالقدح،وهذه الثقافة لا تحتاج لأكثر من الثقافة البديهية اليومية التي ينتجها الفكر اليومي العروبو-اسلاموي أو العكس (حزب اللاهوي- بعثاوي).
س – هل يمكن الاستنتاج من حديثك أنك تعتبر الحالة الطائفية في لبنان أفضل من حالة الوحدة الوطنية السورية؟
ج- الوحدة الوطنية في سوريا ملفوظ هاجرد دلالته مع حلول المنظومة الايديولوجية البعثية مع الانقلاب البعثي، لا أدري من سمى الايديولوجيا البعثية بـ(الكلامولوجيا) في الستينات، والطائفية في السبعينات، والفاشية في الثمانينات، وقد حسمها النظام عندما اعتبر انتصاره على الاخوان المسلمين – أوالأدق على الجناح المقاتل منهم- هو انتصار طائفي على المجتمع.
هذه الايديولوجيا الارادوية الشعبوية تستند على محمول رغبوي في بناء منظوماتها السياسية والشعارية، رغبوية مشبعة بالماضي والحنين إلى زمن القوة، حيث القوة تتمثل : (السيف -الفتح -قهر الآخر…الخ من الجراح النرجسية التي يعيشها العرب كوعي مأزوم ومهزوم، حيث الرغبوية تنحل إلى مستوى ترسيمة تخييلية للعالم عبرل العقل الغريزي الملتصق بالأنا الطبيعية الرغبوية الأهوائية التي تمتد عمقا إلى التفكير السحري القائم على مبدأ (ذكر الشيء يعني حضوره)، فذكر الذئب لفظيا يستدعي حضوره حسيا، ولذلك عبر عنه البدائي برسمه للذئب على جدران الكهوف، بل ورسم كل الأشياء الطبيعية حوله،باستحضارها تخييليا عبر الرسم، لكن مع الخطاب (القوموي) والبعثي خصوصا سيستبدل الاستحضار السحري للأشياء من الرسم إلى الكلمة، وهذا ما كان من أمر شعارارات الوحدة الوطنية مع الخطاب البعثي مثلها مثل شعاراته عن الوحدة العربية والحرية والاشتراكية حيث تحضر في ملايين أطنان الورق، لكن الواقع المتعين يسير بشكل مضاد لها عند أي ذكر لها، حتى غدا من الممكن اعتماد قرءة دلالية للخطاب البعثي بكونه خطابا مجازيا لا يستعيد واقعيا أو مرجعيا سوى الفراغ والبياض… والمآل الموت وفق التطوير المخابراتي للخطاب البعثي وهو يخوّن كل ما عداه…!
هذه المنظومة الغريزية تذيب ولا تشكل، تحل ولا تركب، ولهذا فإن البعث توج على يد -حافظ الأسد- المشروع القومي العربي الوحدوي من المحيط إلى الخليج بتحويله مدينة ساحلية صغيرة على الشاطئ السوري (بانياس)، إلى كوريا: شمالية وجنوبية حسب تعبير أهلها من المثقفين العلويين العلمانيين، الذين يرون أن النظام بعودته إلى الغرائزية الأولى (التشكيل العضوي ما قبل المدني) شطر المدينة إلى سنة وعلويين في عالمين مستقلين (شمالي وجنوبي) مثل كوريا، كل منهم يزداد تطرفا وانغلاقا على هويته البدائية الغريزية الطائفية.
حافظ الأسد هو المؤسس لهذا الانشقاق عندما جعل من الميل السوسيولوجي الطبقي العفوي لفقراء الفلاحين القائم على الانتساب إلى المؤسسة العسكرية في الخمسينات والستينات، نقول: حول الأسد هذا الميل التلقائي الطبقي إلى مشروع طائفي، وهذا التحوير أو التشويه بدأه منذ كان في اللجنة العسكرية مع (صلاح جديد ومحمد عمران)، حيث حركة 23 شباط لم تعن لـ(ابن غوريون) سوى حركة (علونة للجيش السوري) وهو يرد على القلقين على سوريا من التطرف اليساري لحركة 23 شباط.
حافظ الأسد حسمها نهائيا بعد استخدامه لمعركة مفتعلة مع مجموعة من اليائسين الاسلاميين الذين حملوا السلاح إذ يستشعرون طائفية نظامه، فحولها إلى معركة كبرى مع المجتمع السوري المديني السني، واختار حماة نموذجا للابادة (الجينوسية)، ومن ثم حلب ارهابا وعقابا لها على بقائها محافظة على هويتها السنية التقليدية التي أبت على الحمدانيين وسيف الدولة أن (يعلونها)، وآية ذلك هذا الميل العلني والمتحدي الذي يقوم به الأبناء اليوم لتجديد مسيرة المشروع الطائفي للأب بفتح أبواب سوريا أمام المد التشييعي الايراني بدون خجل، بل إن أحد محافظي حلب من (الطائفة المختارة) كما راح بعض الأبناء المتنفذين من الطائفة يدعون أنفسهم فيما بينهم داخليا، تمهيدا -ربما – للعلنية والرسمية، حيث قال المحافظ (المختار) لمحامي حلب في احد مؤتمراتهم التي انتقدوا فيها أوضاع المدينة، قال لهم دون أن يحمر وجهه خجلا: من لا يعجبه الوضع في حلب فليهاجر ! أي ليتركها للسيد المحافظ المختار !
فحافظ الأسد الذي كان حذرا في طائفيته التي انحلت إلى (عائلية)، وفق مبادئ العقل الغريزي التفكيكي عضويا في السبعينات، كشف عن الوجه الطائفي ومن ثم العائلي في الثمانينات واعتبر أنه خاض معركته النهائية التي لم تعد تتطلب الحذر في اللعب الطائفي، ولذا لم يعد إلى سياسة ذر الرماد في العيون للتخفيف من أثر هذه السياسات على توازنات المجتمع السوري، حيث لم يخجل أن يكون سجن تدمر رمزا للانقسام الطائفي الأبشع في تاريخ سوريا من حيث حفر أخدود الكراهية والحقد، وذلك عندما لم يخجل من جعل سجن تدمر مشهدا مكثفا للانقسام الطائفي الكريه في شدة عدوانيته القبيحة، حيث ينقسم السجن انقساما طائفيا صافيا بين الجلاد والضحية ، حيث مشهد طائفة السنة -بشكل مطلق- هم المسجونون باسم الأخوان المسلمين (الضحية)، وطائفة العلويين- بشكل مطلق- هم السجانون باسم السلطة (الجلاد). دون أن يرف للأسد جفن من الدلالة المخيفة للتقسيم الطائفي السافر للسجن هذا على مستقبل الوحدة الوطنية للوطن وعلى مستقبل الطائفة العلوية التي يورطها بخدمة مطامحه الفردية والعائلية
هذا المشهد لم يكن عابرا، بل غدا نواة الفلسفة السياسية لحافظ أسد الذي كان قاصدا أن يقسم مجتمعه إلى أقلية تحتكر أدوات العنف (الجيش والمخابرات)،بعد تفريغ دور وزارة الداخلية والشرطة من أية فعالية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إلى أكثرية عزلاء لا تخشى الجيش والمخابرات فحسب، بل راحت تخشى الأقلية (المدعومة)!
أي نظام وطني وأية وحدة وطنية هذه التي لا تخجل من تكريس هذا الواقع وتلك الصورة، أن يستشعر الناس أن طائفة من طوائف المجتمع -حتى ولو لم تكن أقلية بل وكانت أكثرية – تشيع الخوف والرهبة عند باقي الطوائف من خلال قناعة الناس أن من يحكم هو الطائفة، وأن المؤسسات المدنية بما فيها الحكومة والمؤسسات والادارات ليسوا سوى موظفين صغار- بما فيهم الوزراء- عند المخابرات والجيش، أي عند الطائفة !
يتبع
حوار “الشفّاف” مع المفكر د. عبد الرزاق عيد في المنفى (1)
مسؤول أمني قال لنا أن ثروة حافظ الأسد لم تتجاوز 8 مليار دولار!