انتكس مجتمع المدينة الذي أقامه الرسول – صلي الله عليه وسلم – لأسباب عديدة، لعل أبرزها أن منظومة المعرفة الإسلامية في الحديث والتفسير والفقه التي وضعها الأئمة الأعلام إنما نمت في الفترة التي بلغت فيها الدولة الإسلامية مستوي الإمبراطورية (الإمام أحمد بن حنبل عاصر الخليفة المأمون).
ومع أن هؤلاء الأئمة كانوا نابغين مثلاً، وأرادوا القربي إلي الله وخدمة الإسلام وينتهجون المعرفة الإسلامية، إلا أنهم لم يكونوا ملائكة معصومين، وكانت وسـيلة التعليم الكتاب المنسوخ باليد، وأهم من هذا أن مقتضيات الدولة الإمبراطورية فرضت نفسها عليهم، ولم يكن لديهم بديل، وقد تعرض الأئمة الأربعة للاضطهاد، فجاءت وتأثرت أحكامهم بالوضع، ثم استسلمت له بحيث كانت مجافية للقرآن مداجية للسلطان.
كما أن الانتصار السريع للإسلام علي ممالك طبقية شائخة أدخل في المجتمع الإسلامي الملايين من أفراد هذه الممالك، ودخلوا في الإسلام لبساطته وسماحته، ولأن هذا الدخول يفتح الطريق أمامهم إلي المراكز، واستطاعوا بحكم ذكائهم أن يتولوا التفسير والحديث والفقه واللغة.. الخ ولكنهم وقد كانوا حديثي العهد بالإسلام طرحوا مفاهيم وراثاتهم الحضارية التي لم يتخلصوا منها تمامًا علي الإسلام، فبعدوا به عن روحه الأصيل، الحر، البسيط، وكان المجتمع الإسلامي يموج بملل ونحل ومذاهب عديدة، وأضيف إليها ترجمة الفلسفة اليونانية التي تأثر بها الفقه الإسلامي في مراحله الوسطي (الحكم العباسي).
ولم يخل الأمر من كيد دفين للإسلام.
مع توالي القرون تبلور «إسلام السلطان» في الفكر السلفي الذي سيطر علي منظومة المعرفة الإسلامية، وأصبح هو المقرر أو كما يقولون «إسلام السُنة والجماعة» واكتسب أئمته وقادته قداسة، وظل الأمر كذلك حتي مشارف العصر عندما بدأت اليقظة الإسلامية.
لم تستطع اليقظة الإسلامية التي بدأت مع جمال الأفغاني ومن عاصره وزامله أن تقضي علي الفكر السلفي، لأن قوة جديدة كانت قد فرضت نفسها علي العالم الإسلامي، هي الاستعمار الأوروبي ومحاولته طمس الإسلام والعربية في عديد من الأقطار فتركزت الجهود للقضاء عليه، وأصبح ذلك هو الشغل الشاغل، وشغلوا به عن قضية تجديد التنظير الإسلامي فانفسح المجال للمؤسسات الدينيــة التي أخذت في الظهور واحتكرت تمثيـل الإسلام.
كما أن الانتلجنسيا في الدول الإسلامية لم تسهم بدور في هذا المجال لأن بعضهم آمن بنظريات مجافية للإسلام كالاشتراكية والقومية ولم يكن لدي معظمها الإحكام الفني للموضوع، ولأن الحكومات وكلت إليهم المناصب خاصة في الإعلام فأصبحوا يسبحون بحمدها.
وظهرت تطورات في المجتمعات الإسلامية، فأصبحت السعودية بعد حرب رمضان وصعود أسعار برميل النفط من أربعة دولارات إلي أربعين، قوة، وكونت رابطة العالم الإسلامي التي تولت تزويد الأقليات الإسلامية في أوروبا بالأئمة والكتب وقامت ببناء المساجد، كما أن الأعداد الغفيرة من العمال والمهنيين الذين هاجروا بمئات الألوف إلي السعودية والخليج عادوا بعد أن تأثروا بالفهم والعادات هناك ونقلوا هذا لبلادهم.
وهكذا كان علي دعوة الإحياء أن تقوم بمهمة التجديد الإسلامي الجذري وإعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية، وكانت دعوة الإحيــاء مهيأة لذلك، ففي سنة ١٩٤٦ أصدر داعيتها جمال البنا كتاب «ديمقراطية جديدة» وخصص فيه فصلاً عن «فهم جديد للدين» وجه فيه الحديث للإخوان المسلمين الذين كانوا قد وصلوا إلي الأوج «لا تؤمنوا بالإيمان ولكن آمنوا بالإنسان»، وظلت فكرة «إسلام الإنسان» طوال خمسين عامًا تختمر وتتطور ولم يعلن عنها إلا سنة ٢٠٠٠، لمناسبة صدور الجزء الثالث من كتاب «نحو فقه جديد».
وكانت الخطوة الأولي هي إبراز المبدأ المحوري مبدأ «الإنسان المستخلف»، والبرهنة عليها بدلائل من القرآن الكريم، وأن الرسول – صلي الله عليه وسلم – طبقها بالفعل في الفترة القصيرة التي حكم فيها وخلفه أبو بكر وعمر بحيث كان مجتمع المدينة مجتمعًا إنسانيا بمعني الكلمة تسوده المساواة ويكفل للفرد الأمن والأمان.
ووضحت دعوة الإحياء كيف أن هذا المجتمع انتهي تمامًا سنة ٤٠ هجرية عندما حول معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلي ملك عضوض، وأن ما أطلق عليها الخلافة التي استمرت حتي ألغاها مصطفي كمال في تركيـــا، لم تكن خلافة، ولكن حكمًا سلطويا وراثيا مستبدًا للأسباب التي أشرنا إليها آنفاً.
تريد دعوة الإحياء العودة مرة أخري إلي إسلام الإنسان، وتري أن روح العصر الحديث تساعد علي ذلك، وهي تري ضرورة إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية علي أسس «إسلام الإنسان وليس إنسان السلطان”، ووضعت مجموعة من الكتب تفتح الطريق لذلك وتشرح أسس التأسيس الجديد والمبادئ التي يقوم عليها.
وتضمنت المراجع التي وضعتها الدعــوة أكثر من ثلاثين كتابًا كبيرًا تعالج كل جوانب القضية الإسلامية ( السياسـة، المـرأة، حرية الفكر والعقيـدة، الدعوات الإسلامية المعاصرة، الفقه، التفسير، الحديث).. الخ.
المبادئ العملية التي تتمخض عنها دعوة الإحياء، وكلها من صميم ما جاء في القرآن وهي :
*الإنسان المستخلف هو الغاية التي جاء لها الإسلام، فالإنسان هو الغاية، والإسلام هو الوسيلة.
* المساواة في الحقوق والواجبات بين الناس جميعًا، وبلا استثناء هي أساس مجتمع الإنسان المستخلف.
* العقل، وما ينشأ عنه من علم ومعرفة هو ما يميز الإنسان وما جعل الله تعالي الملائكة تسجد له، ولهذا فإن العقل أساس النظر الديني، ولا شيء يستعصي عليه سوي ذات الله وطبيعته والعالم الآخر.
ويستتبع هذا إشاعة العلم والمعرفة في المجتمع.
* العودة إلي القرآن الكريم واعتباره كتاب هداية واستبعاد كل التفاسير وكل ما جاء به المفسرون من نسخ أو أسباب نزول. إن الصياغة القرآنية فيها قوة الهداية والقرآن يؤتي أثره بالانطباع.
لقد كانت التفاسير افتياتـًا علي القرآن وتقولاً عليه بما لم يقل، ولهذا لم يستفد المسلمون من القرآن، وهو روح الإسلام وأداة التحرير والثورية فيه، وكانت في الحقيقة من أسباب تأخر المسلمين.
* السُـنة يجب أن تضبط بضوابط القرآن، وليس لها تأبيد القرآن. وهذه القضية من أكبر قضايا المفكر الإسلامي لأن السُـنة كانت الباب الذي دخل منه أعداء الإسلام وتمكنوا بوضع الألوف من الأحاديث التي تطعن في القرآن وتشوه العقيدة، بل تشوه صورة الرسول – صلي الله عليه وسلم- ، وانطلي هذا كله علي المحدثين الذين حرصوا علي تجميع الأحاديث والروايات واعتبروا أن الإسناد دليل صحة في حين أنه كان وسيلة الدس التي مرر بها الوضاعون أحاديثهم، وليس من المبالغة أن بعض المحدثين توصلوا إلي «إرهاب» الناس، وفرضوا السُـنة علي القرآن وفضلوها عليه.
* اعتبار «الحكمة» أصلاً من أصول الإسلام، والحكمة التي قرنها القرآن بالكتاب، وقال «وَيعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ”، هي كل ما انتهت إليه البشرية من أحكام ومبادئ وأصول ثبتت صلاحيتها علي مر الأجيال، وليست هي بالطبع السُـنة، كما ذهب إلي ذلك الشافعي.
* اعتبار الزكاة فريضة مقدسة كالصلاة وتنظيمها بحيث تؤدي دور «الضمان الاجتماعي والتأمين”، إن الفقهاء لا يزالون يعالجون الزكاة بالدرهم من الذهب والفضة، ولا يزالون يتسابقون حول ما إذا كانت تفرض علي غير الإبل والشياه والنخيل، وكيف توزع.. الخ.
إن المفروض أن تتعامل معها بطريقة العصر، فهي علي كل الثروات والأموال التي تزيد علي حد معين، وهي يمكن أن يوضع لها قوام شعبي تطوعي منظم ومنهج، كما يمكن أن تقوم الدولة به عن طريق جهاز مستقل عنها تمامًا (مثل القضاء)، وتكون ما بينها مستقلة تمامًا عن ميزانية الدولة لدرجة أن القائمين عليها لا يتقاضون أجورهم من الدولة، ولكن يأخذونها من الزكاة نفسها، وتصرف منها علي محدودي الدخل أو من يتعرض للبطالة والمرض.. الخ.
* كل ما جاءت به الشريعة من أحكام عن الدنيويات، وسواء كانت في القرآن أو السنة إنما أنزلت لعلة هي بصفة عامة العدل والمصلحة، فإذا حدث أن جعل التطور الحكم لا يحقق العلة (أي العدل والمصلحة) عدلنا في الحكم بما يحقق الغاية، وهو ما اهتدي إليه عمر بن الخطاب في اجتهاداته المعروفة.
*مجاوزة السلفية وعدم الاعتداد بها، فالسلفية هي الماضوية ولا نستطيع أن نعيش حاضرنا في ماضينا.
*استبعاد فكرة أن الإسلام يسيطر علي كل شيء. إن الإسلام علي أهميته القصوي ليس إلا بُعدًا واحدًا من أبعاد متعددة للحقيقة كالعلوم والفنون والآداب والفلسفة التي تنطلق كل من منطلقها الخاص، وتقدم عطاءها الذي وإن اختلف عن عطاء الدين، فإنه لا يزاحمه، كما لا يستبعده الدين.
* حرية الفكر والاعتقاد مطلقة والعلاقة ما بين الأديان هي علاقة تعايش.
* تحرير المرأة من الدونية التي جاءت بها بضعة أحاديث ضعيفة أو موضوعة، وتقرير مساواتها بالرجل.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة