(وما أتيت بذنب لكن جئت أعتذر)
هذا هو لسان حال كل من يجرؤ على أن يقول (لا) بأي شكل من أشكالها للنظام السوري.. سواء كانت (لا) لمهزلة تعديل الدستور لانتخاب شخص بعينه، أو (لا) لمسرحية الاستفتاء على المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية، (لا) للفساد وسرقة أموال الشعب، (لا) للرشاوى التي تحولت إلى عرف لا يخجل منه المرتشي، (لا) للتدهور الأخلاقي، (لا) للفقر والتجويع، (لا) لقانون الطوارئ الذي تحول إلى دستور، (لا) لتخريب علاقات سورية مع أشقائها، (لا) لمسخ الهوية السورية ودمجها بإيران، (لا) للتفرقة بين أبناء الوطن على اختلاف أعراقهم وطوائفهم، أو حتى (لا) للانبطاح أمام العدو واستجداء السلام معه.
كل من يجرؤ على أن ينطق بإحدى هذه اللاءات فهو في عرف النظام مجرم يستحق المحاكمة، ولأن النظام قد درج على استخدام سياسات الإرهاب المنظم منذ الثمانينات، فمثل هذه (الجريمة) لا تخص المعارض وحده، بل تتعداه إلى كل من يمت له بصلة القرابة، فأهون الأذى أن يستدعى أقرباء هذا (المتهور) إلى فروع الأمن المختلفة دون سبب أو حتى وجود هدف واضح من الاستدعاء، أما آخر الأذى فلا يخطر على بال، من منع المغادرة، إلى الاعتقال المؤقت أو الطويل، مروراً بالتعذيب في فروع الأمن سيئة الصيت.
سياسة النظام في هذا الأمر واضحة ومعروفة للجميع، فمن لا يمكن شراؤه أو ترهيبه، يمكن الضغط عليه عبر أحبابه وأهله، وهو بالتأكيد لن يستمر في المعارضة وسط حربين، حرب النظام وحرب الأهل والأحباب الذين يشفقون عليه وعلى أنفسهم.
أقف أمام نظرات أولادي العاتبة حائراً، كيف أفسر لهم أن من يمنعهم من زيارة وطنهم ليس (لساني الطويل) بل هو النظام المجرم الذي يريد قطع كل الألسنة، طويلها وقصيرها، ما لم تسبح بحمده.
كيف أشرح لهم أنني أفضل الموت مائة مرة على أن أحرمهم الوطن الذي حرمت منه؟ كيف أقول لهم أنني أشتاق هذا الوطن أكثر منهم، وأبكيه –وحدي- أكثر مما يبكونه مجتمعين.
كيف أجعلهم يدركون –دون أن يتألموا- الألم الذي أحسه وقد ولدت تحت ظل قانون الطوارئ، وأوشك أن أموت ولم يتنفس وطني نسمة حرية واحدة؟
كيف أقنع إخوتي أنني لست طالب منصب ولا شهرة ولا مال؟ وهذه كلها يسهل الحصول عليها بمهادنة النظام والسير في ركابه لا بمعارضته والوقوف بوجه ظلمه وإجرامه؟
كيف أفهم الصديق الذي يعرض التوسط لي عند أجهزة الأمن لقبول اعتذاري عن ما كتبته أن من يجب أن يعتذر، ليس لي بل لملايين السوريين، هو النظام المجرم الذي يخرب البلاد بمنهجية حاقدة، وليس من يقول لا للطغيان والظلم؟
هل أصبح من العسير على الناس أن يتخيلوا وجود من يطالب بحقه في هذا الزمن العجيب؟
هل يكون مجرماً من يطالب بالعدل، والحق ونظافة اليد؟
هل يكون مجرماً من يطلب المساواة بين أبناء الوطن دون اضطهاد لعرق أو طائفة؟
هل أجرمنا إذ طالبنا بحقنا في انتخاب من يمثلنا ومن يحكمنا؟
أليس من حقنا أن نختار من يقود الدولة والمجتمع دون أن يأتي إلى سدة الحكم بانقلاب عسكري؟
والسؤال الأهم: إذا سكتُّ أنا كما سكت الملايين غيري، فأي أمل لنا في العودة الكريمة يوماً إلى بلادنا؟
يقول المشفقون علي: لماذا تتكلم أنت؟ لماذا لا تدع غيرك يتكلم؟ وما نفع كلامك؟
ولأنني لم أنجح في إفهامهم أن صوتي واحد من مئات، هو أقلها علواً لكنه يشاركها نشيد الحرية الذي سيعلو يوماً، لأنني لم أعرف كيف أجعلهم يقدرون أن الكل مطالبين بالتضحية من أجل سورية، وليس فقط أعلام الحرية المعتقلين، من أجل ذلك كله، أعاهد أحبابي أن لا أصمت أبداً ما دام بي نفس يتردد، وأعتذر عن ما أسببه لهم من ألم، عزائي في ذلك أنني أريد سورية وطناً أفضل يتسع لكل أبنائه.
كاتب سوري
mahmoud@ceoexpress.com