في القرية التي تتوسط الجنوب والشوف جغرافياً، وتتوسط الدروز والمسيحيين والمسلمين سكانياً، أقيمت منصة زينتها أعلام “القوات اللبنانية” و”التقدمي الاشتراكي” و”المستقبل”، وضيف المنصة آت من جبيل (النائب السابق فارس سعيد) من أجل ان يتحدث في السياسة العامة، وفي طروحات 14 آذار وقراءاتها لما جرى عندنا وفي المحيط الاقليمي.
أهل القرية وجوارها، من المسلمين والمسيحيين والدروز، الذين أنصتوا لأحد قادة “ثورة الأرز” وهو يتحدث عن استحالة المساكنة بين مشروع الدولة وسلاح حزب الله، وعن أخطاء قوى 14 آذار كما عن نجاحاتها وعثراتها… بدوا متعجلين ليحين دورهم في طرح الأسئلة أو الشروع في مداخلات سياسية، كان الكلام في “الاستراتيجية الدفاعية” و”العلاقات مع سوريا” ومشكلة السلاح والتنظيمات الميليشاوية، وفي الاعتصام بمشروع الدولة الواحدة، والتكتيكات التي كانت متبعة من قبل الأغلبية في ادارة الصراع، والمواقف الناقصة والمشوشة التي شابت تصريحات بعض قادة 14 آذار، واللغط الذي لامس الفضيحة في تسمية وزراء الموالاة في الحكومة الجديدة.
كان الكلام في التجربة العراقية (من جيش المهدي الى قوات الصحوة) وفي التجربة الفلسطينية (خيار غزة ونموذجها) وفي احداث 7 ايار البيروتية وما تلاها في الجبل وطرابلس. كان كل شيء سياسياً هناك في القرية الصغيرة الواقعة بين الجبال والغابات والوديان.
توقعت، بعد فراغ الدكتور فارس سعيد من “محاضرته” ان يبدأ الناس بالشكوى، خصوصاً هؤلاء القرويين في مطرحهم النائي. أن يسألوا عن انقطاع الكهرباء مثلا، او عن تصريف منتوجهم الزراعي او حال الطرق.
انتظرت ان يكون اهل القرية، على عادتهم حين يأتيهم “السياسي” زائراً، معبئين بالمطالب المعيشية كأن يسألوا عن تجهيز مدرستهم او مستوصفهم، أو أن يطلبوا وظيفة لابنهم أو “واسطة” لدى دائرة حكومية.
لقد انتظرت حفلا اجتماعيا تتخلله احاديث السياسة العمومية والباهتة. بل كنت متيقنا من ان لغة السياسة هنا ستكون ساذجة، مبسطة، وان ناس القرية وجوارها ستكون آراؤهم متناقضة، او محبطة او ببساطة يائسة متأنفة من كل سياسة. وظننت ان مسعى فارس سعيد هو “التوعية” او على الأقل “التعبئة”.
لكن في الاساس ما الذي اخذ هذا “السياسي” الى هناك؟ فلا هي منطقته الانتخابية، ولا هي معقل حزبي له، ولا هي احد مواطن طائفته المارونية.
على كل حال، وما لم يكن في حسباني، ان اهل القرية من فتيات المرحلة الثانوية الى الوجهاء المحليين الى الشبان والنسوة الأمهات، كل بدوره، تحدثوا في اشد الامور السياسية الشائكة والمعقدة بوعي سياسي حاد الى حد الصدمة. فأن تقف فتاة وتطرح معادلة لم تخطر على بال “قادة” 14 آذار على الاطلاق، مفادها: “المحكمة الدولية هي تحقيق العدالة للشهداء، ونزع سلاح حزب الله هو تحقيق العدالة للبنانيين الأحياء“. وان يقف شاب ويسأل عن ترشيد “الرأسمال السياسي” وأن تقول سيدة منزل “ان المطلوب الان هو ان نرى قيادات 14 آذار مجتمعة معا وان عليهم الترفع عن الحزازات الشخصية”، أو ان يسأل آخر لماذا القبول بعلاقات دبلوماسية مع سوريا قبل تسوية المشاكل من ترسيم الحدود الى ملف الأسرى والمفقودين الى تنفيذ القرار 1701 ووقف تهريب السلاح. ثم يعقب احد الحضور: لماذا تقاعست قيادة 14 آذار عن الطلب من جمهورها النزول سلميا الى الشوارع يوم 7 ايار.
مداخلات الناس كان فحواها انهم ليسوا دروزاً ولا سنة ولا مسيحيين وليسوا “قواتيين” ولا “اشتراكيين” ولا “مستقبليين” بل انهم في “حزب جديد”: 14 آذار. هكذا على عموميتها، وهشاشتها. لكن بوضوح مدهش: انحياز عميق لثقافة السلم، الانتماء اللبناني، الترحيب بالتنوع، تجاوز ذاكرة الحرب والمصالحة، الرغبة في “العيش معا”، الخيار الديموقراطي، الاحتكام الى الانتخابات ونتائجها، نفور من الحالة الميليشاوية، التطلع الى العالم والانفتاح، والسأم من اللغة العدائية.
وأيضاً، كان المضمون الصارخ لكلام أهل القرية هو العتب الشديد على القصور الذي يعتري اداء قيادات 14 آذار وتذبذب مواقفهم وتبايناتهم التي تبدو بنظرهم “أنانية” و”غير ناضجة” بل انهم ذكروا هؤلاء القادة بالشهداء والتضحيات، وتذكروا ايضا المواقف المبدئية والاساسية الى حد ان احد الحضور قال: “أنا اشتراكي ولكن اذا خرج وليد بك من 14 آذار فأنا باق فيها“.
ما هو درس قرية “بسابا” الواقعة بين الشوف واقليم الخروب؟ انه صلابة “جمهور 14 آذار” مقابل السلوك المتردد لقادته السياسيين. انه ايضا وحدة مدنية ما زالت وشائجها متينة، وليس كما ظن الكثيرون انها كانت لحظة عابرة في ربيع 2005. والأهم ان “الرأي العام” الذي ولد ما بين 2000 و2005، بات حقيقة راسخة في الواقع السياسي اللبناني. رأي عام نقدي وواع وحاد وعنيد ومتابع.
هذا “الرأي العام” لا علاقة له بحركة القادة تشدداً او مسايرة، انه متقدم فحسب، وما زال متمسكاً بـ”روح” ثورة الأرز وعناوينها. وهو ليس مخصوصاً في نخبة مدينية، بيروتية، بل ليس نتاج “تحالف أحزاب” او “حلف انتخابي” بقدر ما بات “هوية” وثقافة، تكاد تتساوى مع تعريف “المواطن”. اذ ان الصلة الناشئة ما بين نائب سابق من جبيل وأهل قرية بسابا، ما كانت لتقوم لولا تلك الهوية المستجدة، وذاك الخيار العريض والحقيقة السياسية الحديثة التي تولدت عن نشوء 14 آذار.
المعضلة التي ناقشها الحضور مع سعيد، هي وجود سلاح حزب الله وقد بات جزءاً من المعادلة الداخلية. وهي المعضلة نفسها التي تناولتها وثيقة الأمانة العامة لقوى 14 آذار التي طرحتها في ورشة نقاشية يوم الأربعاء الماضي، والتي طرحت “المأزق” و”الحلول الخطرة” او غير القابلة للتنفيذ:
ـ التعايش مع سلاح حزب الله.
ـ اللجوء الى “الأمن الذاتي” لتأمين الحماية من سلاح حزب الله.
ـ الطلب من الدولة القيام بواجبها، وهذا امر غير متاح.
ـ الاحتكام الى الانتخابات النيابية لبت المسائل الخلافية وهذا امر صعب في ظل تجربة الانتخابات السابقة التي رفض الفريق الخاسر فيها الاقرار بنتائجها استناداً الى سلاحه.
الوثيقة التي تنشد “بناء دولة الاستقلال وحماية السلم الأهلي” تطلب “تجديد التضامن اللبناني الذي نشأ في ربيع 2005” اي انها تطلب اعادة انتاج تلك الدينامية المدنية السلمية التي استطاعت تحقيق مطالبها: اسقاط الحكومة، توقيف قادة الاجهزة الامنية، فرض الانسحاب العسكري الاستخباراتي السوري، اقرار المحكمة الدولية.. ثم انتخاب اغلبية نيابية تحت شعار “الحرية والسيادة والاستقلال”، سعياً وراء البدء بتنفيذ “اتفاق الطائف” وتحقيق المصالحة الوطنية وتجاوز انقسامات الحرب وجروحها، ونقل لبنان من محور الدول “المارقة” أو “الممانعة” الى محور الشرعية الدولية.
لكن كل ذلك اصطدم بوجود سلاح حزب الله وملحقاته من تنظيمات ميليشاوية، كما نعرف، وأدى هذا الاصطدام الى بدء “التآكل” في جهوزية وتماسك الحركة الاستقلالية من تجربة “الحلف الرباعي” الى تداعيات حرب تموز 2006، الى عصيان كانون الثاني 2007 وصولاً الى “غزوة 7 ايار 2008” وما اعقبها من “تسوية” تحققت في اتفاق الدوحة.
الوثيقة التي تطلب اعادة تجديد التضامن الذي حققه اللبنانيون في ربيع 2005، هي صائبة في رهانها على “جمهور” 14 آذار، فهم في تلك القرية الجبلية او في اي قرية أخرى في البقاع والشمال والمتن، أو في اي من احياء طرابلس أو بيروت أو صيدا أو جبيل أو صور. لكنها متعثرة في رهانها على “قيادة” 14 آذار، التي لا تمتلك الثقة كفاية ولا العزيمة ذاتها التي يملكها “الرأي العام”.
وهذا يستدعي “تجديداً” في دينامية خطاب القيادة، و”ترشيداً” أو حتى محاسبة لسلوكها. فهي يجب ان تعي انها تخضع لـ”رقابة الرأي العام”. وما سلوكها في كيفية انتقاء الوزراء سوى عينة على “تأخر” اغلب القادة عن السوية السياسية التي يقف عليها مواطنو 14 آذار.
وما تجنبته الوثيقة هو الاعتراف بالمكاسب الأساسية التي حققها “سلاح حزب الله” على الأرض وفي السياسة، فالقول بـ”فشل مغامرة حزب الله” هو نوع من المكابرة التي لا تجدي، والأصح ان نعترف بـ”التراجع” المؤذي الذي اضطرت اليه الموالاة تحت ضغط الخوف من الانزلاق الى الحرب الأهلية. وربما كان من المفيد التشديد على ان مشكلة سلاح حزب الله لا تكمن فقط في جرها لبنان الى “الحرب المفتوحة” مع العالم، بل تكمن في جهوزيته اللوجستية والسياسية واندفاعه من غير كابح لإشعال حرب اهلية، في كل وقت، ولأسباب من شاكلة النية في معاقبة موظف رسمي خالف القوانين. وان هذا الحزب ينتهج سياسة واحدة: اخضاع اللبنانيين لمشيئته او معاقبتهم بالرصاص.
من أصوات وكلمات أهالي قرية بسابا الى مناقشات ورشة “الدفاع عن السلم الأهلي وبناء دولة الاستقلال” لا يبدو في الأفق سوى “المواجهة” المريرة. وبالتأكيد جمهور 14 آذار على اتم الاستنفار المدني، لكن قياداته تتأتئ من الفزع.
المستقبل
http://almustaqbal.com/Nawafez.aspx?pageid=45528