إعلان مفاجئ عن مفاوضات سورية – إسرائيلية غير مباشرة بوساطة تركية. المعنيون بها يتوجهون الى طهران، للتطمين أو الاطمئنان: وزير الدفاع السوري أولهم، وقد استمع هناك الى الرئيس الإيراني يقول «سورية لن تتخلّى عن الخط الأمامي في مواجهة إسرائيل». وكذلك خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ«حماس». وقد اجتمع بوزير الخارجية الإيراني وأعلن معه: ان اولمرت «ضعيف جداً ليقوم بالخطوات اللازمة لتحقيق السلام مع سورية». وان «على إسرائيل ان تعيد الى دمشق هضبة الجولان من دون شروط!»؛ والمعروف ان الشروط الإسرائيلية تقضي بإنهاء العلاقة السورية بطهران و «حماس» و «حزب الله». «الممانعون» لا يرغبون في ان تكون هذه المفاوضات جدية، أو ذات صدقية. ولهم من الحجج الكثير: العلاقة الاستراتيجية مع إيران، المتجذّرة «في عمق القضية وعدالتها». البليون دولار إيراني المستثمرة في سورية. الصراع على السلطة في إسرائيل، وعدم تحمّس الإسرائيليين للسلام. ثم ان «سورية لن تقبل بالشروط الإسرائيلية».
وان «الصهاينة وحلفاءهم الغربيين يرون بعد ستة عقود من الاحتلال والإرهاب تصاعد الجيل المقاوم». أو «ان الكيان الصهيوني ليس له أهلية سلام». الأقل منهم تعبئة يصفون هذه المفاوضات بأنها واجهة صراع بين الإمبراطوريتين، الفارسية والعثمانية، على تقاسم أشلاء العالم العربي. الشكّاكون بالمفاوضات او الأكثر تشاؤماً بنتائجها ينظرون إليها كشراء للوقت، أو هروباً الى الأمام، أو حملة علاقات عامة سورية وإسرائيلية تنقذ النظام في دمشق ورأس النظام في إسرائيل من الوهن.
ولكن هناك أيضاً ما يدعم جدية المفاوضات وصدقيتها. سورية راغبة منذ زمن بالمفاوضات. الاستجابة الإسرائيلية لهذه الرغبة أتت منذ عام ونصف فقط. القرار بالمفاوضات ليس فردياً في إسرائيل. انه نابع من المؤسسة العسكرية. قرار «استراتيجي»، هو سيناريو اللاحرب لدى القيادة العسكرية الإسرائيلية. سورية معزولة وفقيرة ومهددة سياسياً وعسكرياً. إسرائيل أيضاً مهددة وخائفة. ولكنها قوية ومزدهرة ولم تضعْ إلا العصي في مفاوضاتها مع الفلسطينيين؛ وآخرها بناء المستوطنات في القدس الشرقية.
الموقف الرسمي السوري لا يفصح إلا عن القليل جداً. وهذا القليل هو عبارة عن إنكار الشروط. لكن الموقف الإسرائيلي يناقش علناً، ينقسم، يأتلف، يتصارع، ويقول شيئاً آخر. المفاوض الإسرائيلي، رئيس اللجنة الإسرائيلية للسلام مع سورية، ألون لئيل، تفاوض مع السوريَين رياض الداوودي وسمير التقي؛ وافصح في مقابلة عن ان هذه المفاوضات أفضت الى الاتفاق حول 85 في المئة من القضايا. طبعاً يمكنك ان تحدس بسهولة بأن الشرط الإسرائيلي الأساسي، أي قطع العلاقات مع طهران و «حماس» و «حزب الله، يشكل جزءا لا بأس به من الـ85 في المئة هذه.
الأهم من النِسَب: التعديل الجوهري الذي ادخله المفاوض الإسرائيلي على مفهوم السلام الذي يبتغيه مع سورية. يقول انه سلام «أمني». ويشرح ان السلام مع مصر والأردن لم يكن سلاماً. الشعب في مصر والأردن «لم يمارس السلام الفعلي مع إسرائيل». ويخلص الى أنه ينبغي البحث عن أمور أخرى أهم من السلام: الأمن. صيغة الأرض مقابل السلام ليست هي المناسبة الآن. بل صيغة «الأرض مقابل الأمن»، ويقتضي ذلك برأيه «إخراج سورية من محور الشر» (صحيفة «الشرق الأوسط» عدد 1077).
لا يمكن تصور عام ونصف من المفاوضات مع طروحات كهذه من دون تصور تقدم في المواضيع «الحساسة». هذا لا ينهي الأسئلة. الى أية حدود تنسحب إسرائيل؟ أية نسبة للمياه؟ أية ترتيبات أمنية؟ بخاصة أنها سوف تكون ترتيبات أمنية، لا ترتيبات سلام… ولا يلغي أيضاً التعرّجات والمدد الطويلة. فحسابات الجميع تقريباً انه لو وقّع على سلام، فلن يكون ذلك في عهدي بوش واولمرت.
حسناً. لبنان الآن. هل يريد الإسرائيليون شيئاً منه؟ قلناها: «حزب الله». رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يرى ان للمفاوضات حسنات. وأهمها: «تخفيف التوتر عند الحدود بين الجانبين، وبين إسرائيل ولبنان». وبما أننا نعلم بان الحدود الأولى، السورية – الإسرائيلية، لم يطلق فيها إلا رصاص الطائرات المغيرة على «المفاعل النووي السوري»، أمكن الخلوص هنا أيضاً الى ان أهم ما في هذه المفاوضات هو الحدود اللبنانية – الإسرائيلية.
ساعة واحدة فصلت بين إعلان اتفاق الدوحة بين اللبنانيين المتقاتلين، والإعلان الرسمي عن مفاوضات سورية – إسرائيلية، عمرها عام ونصف. هل نذهب في التكهّن بعيداً ونقول ان هذه المفاوضات تعني ان سورية تستطيع الاستمرار في فرض برادتها على لبنان عبر «حزب الله»؟ وأنها تعطي لنظامها المناعة؟ وان هدف إعلانها منع أميركا وإسرائيل من القيام بأي عمل ضدها في لبنان فتكون لها حرية التحرّك فيه؟
لنبق الآن في الوقائع. السعي السوري للمفاوضات مع إسرائيل له فترة. والمفاوضات كانت متلازمة مع حصار غزة الخانق… وايضاً مع حملة قوية خاضها إعلام «الممانعة» ضد المحرقة الجديدة وضد «الحكام العرب» المتفرجين، المتخاذلين المهزومين…
المفاوضات دائرة منذ عام ونصف. والدافع الإسرائيلي لها «الأمن». لا السلام. الأمن من الحزب الذي فشلت إسرائيل بنزع سلاحه. بل تزايد هذا السلاح بعد الفشل. هذا هو الحاصل الآن: النظام السوري يقطف ثمرة رعايته للحزب الذي تسببت انتصاراته على إسرائيل بقبولها التفاوض معه. يقطف ثمرة الكوارث والجرائم والانفجارات والحروب على لبنان. ثم يقعد على كرسي صاحب الورقة الأمنية. بتحالفه الاستراتيجي مع إيران ومع الحزب التابع له. ولا ورقة أخرى لديه. ما من حرب خاضها بنفسه، إلا بالممانعة المريحة…
هذا ما يؤكده حسن نصر الله بوضوح في خطابه الأخير. اذ قال حرفياً: «ان مقاومتكم التي أفشلت حرب إسرائيل على لبنان (…) خفّفت احتمالات الحرب في المنطقة. بالنسبة لحرب أميركا على إيران تراجع احتمالها بعد درس لبنان. حرب إسرائيلية على سورية اصبح احتمالها بعيداً جداً جداً بعد تجربة الحرب على لبنان». قد نفهم من هذا الكلام ان نصر الله يريد لنفسه الثمن لو حصلت تسوية شاملة. حسناً قال. وارفق ذلك بأفعال. فاجأ الجميع، خصوصاً الإسرائيليين، عندما أرسل أشلاء جنود إسرائيليين قضوا في حرب تموز. وصوّره في الإعلام على انه «مقابل» «تحرير» السجين السابق نسيم نسر. بعدما أنهى هذا الأخير عقوبته منذ شهر. أي: ان الحزب هو المخوّل التفاوض مع إسرائيل أيضاً. ليس غيره.
السلام اللبناني مع إسرائيل. ليس علينا انتظار ان نكون «آخر من يوقّعه». انتظار ان يجني «الأشقاء» وحلفاؤهم ثمن البؤس الذي ابلوا به البلاد. نتيجة هدرهم لفائض قوة جهادهم. السلام مع إسرائيل والمفاوضات الرسمية. عبر الدولة الشرعية. لا الدويلة المؤتمرة بولاية الفقيه. المفاوضات الرسمية مع إسرائيل هي التي قد تنقذنا من الصفقة المحتملة. وان لم تأت بنتيجة فعلى الأقل تكون فتحت باب مناقشتها. ومناقشة ثمن التصديق بأن «الممانعة» تفضي الى انتصار.
«تلازم المسارين». هل كان هذا هو معناه فعلاً؟ مفتوحين على الحرب وممنوعين عن السلام؟
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة