ما زالت أوبسالا، هذه المدينة السويدية الوادعة، كما تركتها قبل أربعة أعوام، فتية، طازجة، ودودة، لم تشخ ولم تترهل، تنساب في أوصالها سحر الموسيقى وعذوبة الحياة، ولم تزل تُشرع أبوابها للجمال سفوحاً تختال بالحلم والعطر النديْ، ولم تزل تمنحُ العابرينَ ثراها، ذاكرةً تبقى أبداً على رغم تعاقب الأيام تتدفق بتفاصيلَ باذخة، ولم تزل صباحاتها تكتظ بابتسامات مشرقة، ومساءاتها لم تزل منقوعة بالعشق والألحان الحالمة..
أوبسالا في هذا الوقت من العام تكون قد خلعتْ عن أطرافها ذلك البياض البهي، لترتدي الأخضرَ الشاسعَ، تنطلقُ به فسيحاً عبر المدى، فقد تركتْ أوبسالا خلفها في ذاكرةٍ محمومةٍ بالود شتاءً طويلاً، لتستقبلَ بانشراح بالغ، ربيعاً يندُّ عن دهشة طافحةٍ بخضرة فاتنة، ففي صباح اليوم الأخير من شهر أبريل الفائت، فوجئتُ حين نزولي الشارع، بالناس يتحلقون حول بعضهم بعضاً في تجمعات صغيرة هنا وهناك، يطلقون الأهازيج والضحكات والموسيقى والأغاني، وينثرون الإبتسامات الندية على الوجوه والأرصفة والطرقات، فسألتُ أحد المارة عن سبب هذه الإحتفالية التي تشبه كرنفالاً وطنياً، فقال لي بنبرةٍ ودودة : إنه اليوم الذي يحتفل به طلبة المدارس، وهو أيضاً بشكل عام احتفالنا بقدوم الربيع، وأردفَ قائلاً : عادةً ما نحتفل به في مثل هذا اليوم من كل عام، فقلتُ في نفسي، ربما يشبه إلى حد بعيد احتفال بعض الشعوب الأخرى بأعياد الربيع، كالاحتفال بشم النسيم أو النوروز، أو غيرهما من أعياد الشعوب الأخرى بالربيع، ولكني وجدته هنا بنسخةٍ سويدية خالصة..
وأنا أسير وسط فرحة السويديين البالغة بقدوم فصل الربيع، تبادر إلى ذهني سؤال مشروع، مفاده : هل الربيع هنا، يختلف عن أيّ ربيع آخر في أيّ بلد آخر.؟ بالطبع لا، فالربيع هو الربيع في أي مكان من العالم من حيث إنه يتميّز بنسماته العليلة وطقسه المنعش وألوان زهوره الرائعة ورائحة عشبه الطازجة وشمسه المشرقة، ولكن الذي يختلف حسب ما أعتقد هو تصورات الناس عن الربيع هنا أو هناك، فالأشياء بحد ذاتها كما هي أشياء تأتي وتذهب، قد لا تمنحنا شعوراً معيناً بها، بقدر ما نحتفظ بتصوراتنا الخاصة عنها في ذاكرتنا ووجداننا ومشاعرنا وأحاسيسنا، ولذلك يختلف احتفال الناس هنا وهناك حسب ما يحتفظون من تصورات عن الأشياء التي يحتفون بقدومها دائماً، وهي التصورات العالقة في وجدان الفرد وفي ذاكرته وأحلامه، والتي تجعله ينتظر قدوم الشيء الذي يريده ويشتهيه ليمتليء به نشوةً وفرحاً وتألقاً، وهي التصورات التي تمنح الفرد نشوة الاحتفاء بالأشياء حسب انسيابها الجميل والرائق في خيالاته وتخيلاته وفي أحلامه وتمنياته وأشواقه ومشاعره، وهي التصورات التي ربما تُحقق في كيان الفرد توافقاً بين ذاته وبين الأشياء التي يحبها أو ينتظر مجيئها أو يريدها أمامه واقعاً، وحينما سألت صديقي السويدي ديفيد النادل في أحد المقاهي : ماذا يعني له فصل الربيع في أوبسالا.؟ أجابني بإبتسامة منشرحة : إنه التوق الشهي للضوء الذي نبقى ننتظره فترة طويلة، وإنه يعني الاستمتاع بالطقس المنعش وتدفق النسمات الآسرة، وإنه الفصل الذي يبهرنا بلون العشب الطازج، ويملأ رئة أرواحنا برائحته العبقة، وإنه يمنحنا متعة الانتشاء البصري بألوان زهوره البديعة، وراح ديفيد يسترسل بتصوراته الرائعة عن ربيعه الفاتن، قائلاً : هو الفصل الذي يعيد لذاكرتنا أحلامنا الماضية، ويبعث فيها من جديد أحلامنا القادمة والآجلة، وفي الحقيقة لم أجد أن ديفيد قد بالغ كثيراً في تصوراته الجميلة عن الربيع في أوبسالا، لأني شعرت بكل ذلك يتهاطل في مخيلتي بمجرد أني وجدتُ نفسي هائماً بهذا المناخ الربيعي الخلاب، ففي الطريق الذي أقطعه مشياً على الأقدام إلى المستشفى الذي يتعالج فيه أخي، أتعمّد دائماً وبمتعةٍ فائقة أن أعبر المنتزه الذي يقع في طريقي دائماً، وأستمتع بشوق شهي لون العشب المفعم بنضارة ونداوة رائعتين، وأمتليء عميقاً برائحته الفواحة، وأبقى أتأمل بفرح غامر تفتح الزهور وابداعاتها على اختلاف أشكالها وألوانها وأحجامها، وأشعر في لحظةٍ وارفة بالود والانشراح، بأن هذه الزهور وكأنها تبادلني الحب والغرام والذاكرة المفعمة من النظرة الأولى، وحينما تكون الشمس ربيعية مشرقة وساطعة، فإن الناس في هذا المنتزه وفي الساحات الخارجية يبقون تحتها لفترة طويلة ينهلون من أشعتها نقاوة الضوء، وتبقى تغمرهم ببريقها الذي يشعُ دفئاً وحميمية، وكأن لهفةً جارفة تدفعهم لتعريض أجسادهم لأشعة الشمس المشرقة، كما لو أنهم ينتظرون حبيباً طالَ غيابه، فأصبحوا يتحرقون تلهفاً وشوقاً لاحتضانه بما يليق به، والتشبّع بحضوره الساحر والمتألق، وكأنما الطبيعة هنا حينما تقدم للسويديين في هذا الوقت من العام الشمسَ بسخاء لا حد له، فإنها بذلك تكفّر عن احتجازها للشمس في أعماق العتمة مدة طويلة، وكأنه اعتذار مهذب ورقيق من قِبلها تقدمه لهم، بسبب اختطافها للشمس منهم طوال الفترة الماضية..
وأما شقراوات أوبسالا، فأخذنَ في هذا الطقس الربيعي الخلاب، يتخففنَ بسرور بالغ من ملابسهن الثقيلة، ويبدينَ فتنةً آسرة تتناغم بتلقائية جمالية مع سحر الطبيعة من حولهن، ربما يفلسفنَ هذه الفتنة، بإنها إعلان صريح من قِبلهن، يعكس بعفوية مطلقة طريقتهنَ في التماهي الشفيف مع جمال الربيع حينما يغمرهن بسخائه واشراقاته ودفئه وعطائه، وربما هي فلسفتهنَ التي تقول بأن أجسادهن حينما تتفرد ألقاً وسحراً وحرية كاملة، فإنها بذلك تعلن عن انسجامها وتوافقها بوضوح تام مع شخصيتهن وذاتهن وأسلوبهن وقرارهن في الاستمتاع بالحياة..
ومن إحدى مزايا فصل الربيع في أوبسالا عليَّ شخصياً، إنه أتاح لي فرصة التمتع بالتجول في الحديقة الشهيرة التي تفتح أبوابها للزوار في الفترة ما بين أبريل إلى سبتمبر من كل عام، والتي أسسها في أوبسالا عالم النبات السويدي كارل فون لينيه ( 1707 ـ 1787 ) والمشهور باسم ( لينيوس )، فهو مَن أسس علم تسمية النباتات وتصنيفها حسب تاريخها، ويعتبر هذا العلم من أقدم الفروع في علوم النبات، وهو الذي وضعَ قواعد التسمية للنبات، ولم تزل هذه القواعد متبعة في علوم النبات إلى الآن، وتُعرف الحديقة باسم ( لينيوس كاردن )، وتضم أيضاً بيتاً ومتحفاً لمقتنيات وممتلكات وأبحاث العالم ( لينيوس )، وحينما باغتُّ إحدى العاملات هناك بسؤالي عن : ماذا يعني لكم العالم ( لينيوس ).؟ أطلقت من فورها في الهواء شهقةً غامرة بالفرح، قائلة : إننا نطلق عليه هنا ( ملك الزهور )، وتابعتْ : ما أروعه من إنسان، وعندما قلت لها : إني كاتب من الكويت، وسأذكر مسروراً هذه الحديقة في مقال لي عن أوبسالا، ردتْ عليَّ بكل ود ولطف تعلو وجهها ابتسامة مشرقة : هذا الأمر يبعث فينا السرور والسعادة يا سيدي، وتمنت لي حظاً موفقاً..
وربما صدقَ مَن قال، أن المكان هو الآخر كائن روحي يبادلكَ الود والمحبة والحميمية والألفة، ويشارككَ الذكريات والأحلام، وكم شعرتُ بهذا الأمر حينما وددتُ كثيراً أن أرتاد هنا من جديد كل الأماكن التي ارتبطت في ذاكرتي بالود والحميمية وشاركتني الذكريات والأوقات الجميلة، ولا أدري حقيقةً كيف تستطيع الأمكنة عبر تفاصيلها الناطقة بحميمية زواياها ودروبها ورائحتها من أن تتحول إلى ذاكرةٍ حاضرة في أعماقنا، وتربطنا بجماليات الزمن الفائت والآتي، هل لأن المكان بتعبير أقربُ إلى الشاعرية، هو كالشرفةِ المفتوحة على الأرواح التي سرعان ما تتآلف معها بعلاقة وجدانية، تستحضر من خلالها أعمق النبضات حباً وتجاذباً واندفاعاً، لِخلق حالةٍ اندماجية مع ظلالها الوارفة في مملكة الذاكرة، وربما هنا علينا أن نعترف أن ( المكان ) له القدرة الجمالية على التشارك مع الآخر الإنساني في صنع منجز جمالي يتجاوز محدودية الانتماء الجغرافي والهوياتي، ليسبح في فضاءات الإنسانية الرحبة، وبكل الأحوال لا يمكن أن ننفي أن للأمكنة الأثيرة في نفوسنا، قدرة استحواذية علينا، لأنها قادرة بجدارة على إلهامنا، ومن هذه الأماكن التي ارتبطت بذاكرتي جمالياً منذ أربعة أعوام مضت، كان المطعم اليوناني الذي كنتُ أحبُّ كثيراً أن أتناول فيه بين الحين والآخر أحد ألذ أطباقه الشهية، وحينما كنتُ أتناول فيه وجبتي كنت أستحضر تاريخ أثينا السابقة، وعظمة فلاسفتها الخالدين، وخاصةً أن المطعم يحمل اسم ( الأكروبوليس ) أحد أشهر المعالم الأثرية والحضارية في اليونان القديمة، ويزدان المطعم أيضاً بتماثيلَ فلاسفة الأغريق وبمعالمها التاريخية، ولا يُخفى على أحد، أن تاريخ أوروبا المدني يعود في أساسه إلى تاريخها المدني الأثيني، ولا تزل أوروبا تستمد من تاريخها المدني ذاك اشراقاته الثقافية والفكرية والفلسفية، وحينما دلفت باب المطعم اليوناني هذه المرة، استقبلني النادل هناك، فتذكرت وجهه وملامحه على الفور، واندهشتُ إنه هو الآخر قد تذكرني سريعاً، مرحباً بي من جديد، فقلت له بود طافح وأنا أهم بالجلوس : هل تعلم يا صديقي أن كل شيء هنا هو ذاته، ها أني أدخل المطعم ذاته، ويستقبلني النادل ذاته، وأجلس على طاولتي ذاتها التي تجاور تماثيل فلاسفتكم، وأريد أن أتناول طبقي ذاته، وكل ما حولي هو ذاته، فقال لي مبتسماً : صحيح يا صديقي، ولكن الذي تغير، هو الوقت، فالوقت ليس هو الوقت ذاته، فقلتُ له ونشوة بارقة تغمرني : صحيح، فالزمن يمضي ويمضي، ويبقى المكان، كذاكرةٍ آسرة يعبر فيه عميقاً وطويلاً وجميلاً أيضاً..
tloo1@hotmail.com
* كاتب كويتي
السويد ـ أوبسالا
24 مايو 2008