أُحبطت المعارضة بتكليف فؤاد السنيورة رئاسة الحكومة من جديد. لا العنف نفع ولا الخيم ولا التشهير. فكأن الرئيس المذكور، بهدوئه الناطق والمستفزّ، يقول للضارب إضرب الى أن تتعب قبضتك، وبعد ذاك نتحدّث.
والسنيورة ليس في عرف المعارضين سوى شيطان. فهو كريه كإبليس الذي ترسمه الأديان كائناً فوق – طبيعيّ في توليده الأذى والشرّ. فإذا كان الناس مصنوعين من طين فهو وحده مصنوع من نار بلا دخان.
وشخصيّة الشيطان كثيراً ما اغتنت بها أعمال الأدب والموسيقى. فهو يلعب ويحوّر، يتحايل ويحيّر، ويمارس قوّته ضعفاً ويسوّق ضعفه قوّة. والظاهر في الشياطين غير الباطن والقول غير الفعل فيما المدلول لا يصدر عن الدالّ. وهي تناقضات يعشقها المبدعون.
لهذا فالسنيورة حتّى عندما بكى، وهي لحظة تؤثّر في الأسوياء، قال «النقّاد» إن ما يخرج من عينيه دموع تماسيح أو دموع شياطين. وإذا ما ذُكر أنه كان، ذات مرّة، قوميّاً عربيّاً راديكاليّ التوجّه، استحقّ التذكيرُ بماضيه هزّة رأس تؤصّل ماضي الخديعة. أما الذين يبغون شتم رفيق الحريري ويتهيّبون الأمر فيشتمونه هو. ولعنُ الشيطان عادةٌ يلتقي عندها البديهيّ المسلّم به وتجنّب الحقائق أو الاكتفاء بالإيحاء بها إيحاءً.
والسنيورة هو من تبحث عنه الشعبويّة كي تبدو زاهية بذاتها وانتصاريّة. فإذا كانت سياسته الاقتصاديّة غير شعبيّة، وهي كذلك، حوّله النقد الشعبويّ الى «سرّاق» بالمعنى البسيط للكلمة. هكذا تُرسم له صورة مباشرة لا يخالطها تركيب أو تجريد، كما لو أنه يمدّ يده شخصيّاً الى جيب هذا الفقير فيستلّ منها ألف ليرة ثم الى جيب ذاك ليقنص خمسمئة.
وهو شيطان، في عرف «النقّاد»، لأن القوّة التي يملكها مما لا يفهمه الأقوياء بالقوّة وحدها. فهو، بالسياسة، لم يكن، في حرب تمّوز، أضعف من المقاتلين الذين سعوا الى دعمه لهم في «المحافل الدوليّة». ومن دون أن يقاتل أدّى، إبّان حصار السراي، دور البطولة من غير أن يكون بطلاً. ومن دون أن يتزنّر بالصواريخ عبّر عن صمود المواطن والحياة المدنيّة في وجه الحرب. وقد ظلّ حتّى اليوم الشاهد الحيّ على تفاهة التخوين والتكفير بوصفهما متن ثقافة سياسيّة رائجة. فهو أكثر من شُتم واتُهم وطولب، حسب تعبيره، بـ «فحص الدم». ولم يدر في خلد كثيرين من «نقّاده» أن الحطّ منه مرآة على استضعاف بلد من قبل المعجبين بحكّام مستبدّين عتاة في جوارهم. ولم يدر، كذلك، في خلدهم أن تركيبة لبنان، حتى إشعار آخر، تجعل البذاءة بحقّه بذاءة بحقّ طائفة كاملة. بيد أن الثوّار، في آخر المطاف، لا يعنيهم الامتثال لـ «التركيبة الطائفيّة»، وإن أبدوا ضروب التقديس لمراجع تنسب الى نفسها القداسة.
ثم إنه وجه الطبقة الوسطى الحديثة، صانعة السياسة ونواتها الصلبة. هكذا استُقبل في الوسط التجاري،ّ وقد فُكّ أسر الوسط، استقبال مخلّص تماهى مع الوسط السجين يوم كان محاصراً في السراي، قبل أن يتماهى مع الوسط الحرّ بعد إزاحة الخيم الجاثمة على صدريهما.
والشياطين تُطرد فلا تعود ثانيةً الى حيث طُردت. لكن السنيورة عائد الى سراياه، مستجمعاً قوى منظورة وغير منظورة، وكاشفاً حدود ما يستطيعه العنف في ظل التعدديّة الطائفيّة المصاغة برلمانيّاً. أما الإحباط بحدود العنف فيُخشى أن يدفع أصحابه، في مرّة مقبلة، إلى محاولة إطاحة التعدّديّة تلك، لا سيّما إذا ما غيّر الوليّ الفقيه رأيه بتعدّد لبنان؟
الحياة