“لكنّها تدور”، قالها غاليليو غاليلي، قاصداً الأرض التي رأت سلطة التفتيش الدينيّة أن الشمس هي التي تدور حولها. قالها غاليليو وعقاب الموت أو السجن مدى الحياة ماثل في أفقه.
في الثلث الأوّل من القرن السابع عشر الإيطاليّ كان ذلك صحيحاً. وهو صحيح في الثلث الأوّل من القرن الحادي والعشرين اللبنانيّ. فهي تدور وإن قالت سلطة ما، سلطةٌ لا تعوزها القوّة والجبروت، عكس ذلك. وهي تدور حتّى لو فُرضت على الواقع أخطاء رُفعت بالقسر الى سويّة المقدّسات.
تدور بمعنى أن لبنان لا تحكمه جماعة واحدة وعقيدة واحدة. فهو بالـ18 طائفة وثقافة فرعيّة التي فيه لا يحتمل حقيقة نهائيّة تُفرض عليه كما تُفرض الايديولوجيّات الرسميّة. تدور بمعنى أن لبنان هذا بلد قويّ لا بمقاومته ومقاتلته بل بتقديمه نموذجاً أكثر تعدّداً من جواره، بصحافته وأحزابه وأفكاره وكتبه ونقاباته. تدور بمعنى أن بيروت مدينة عاصية على حكم الحزب الواحد، أو «الجبهة الوطنيّة» الواحدة، وأنها مدينة للّغات والثقافات والجامعات والمشافي والمصارف والفنادق وعلب الليل. تدور بمعنى أن المطار والمرفأ فيها ليسا مكانين بل هما مفهومان. تدور بمعنى أن بيروت تلك حاضرة للعرب وللمتوسّط وللعالم، تغتني بكثرة السحنات وبلبلة الألسنة وضياع الهويّات واختلاطها. تدور بمعنى أن بيروت، ومن ورائها لبنان، أعقد مما يُظنّ للوهلة الأولى: فهما يعصيان على تعريف محدّد ملزم، الأغنية فيهما أحبّ من النشيد والكلمة أقوى من البندقيّة، وكلّ جماعة من جماعاتها تستدعي من غيرها الاحترام والانتباه إليها، وإلاّ جُرف الجميع بحقد مدمّر متوهّج. تدور بمعنى أن الجهل بلبنان المركّب هذا والظنّ بأنه يؤخذ غلاباً طريق مختصرة الى فناء الكلّ من غير استثناء. تدور بمعنى أن التخلّص من طرف معتدل في طائفته ينمّي الأطراف الأكثر انتحاريّة وتعصّباً في الطرف عينه. تدور بمعنى أن لبنان قوّته فعلاً في ضعفه وضعفه في قوّته.
وهي تدور بمعنى أن الأشياء، مهما بدت جديدةًً، لا تؤسَّس من صفر ولا تقطع مع ما سبقها، فهناك دائماً حكمة التجارب السابقة لأجيال سابقة. وهي تدور بمعنى أن كلّ جديد ثوريّ في عالمنا ما لبث أن تكشّف عن قديم هو أقدم من ذاك الذي يتّهمه بالقِدم. وهي تدور بمعنى أن كلّ جديد ثوريّ كُتب له أن يحكم بالقوّة أطيح وتداعى، أو فقدَ جذوته التي أوحت ذات مرّة بالجدّة.
وهي تدور بمعنى أن قيم الحداثة والعصريّة سوف تتغلّب في نهاية الأمر، فإن لم تتغلّب ارتفع منسوب التعفّن ليُغرقنا كلّنا، واحداً واحداً وجماعةً جماعة. وهي تدور بمعنى أن العالم دول وحدود، وأن السياسة هي الحَكَم في الدول وأن القانون الدوليّ هو الحَكَم بينها حتى لو تأخّر اتّضاح ذلك او تعثّر. وهي تدور بمعنى أن الدول إن لم يُكتب لها القيام، وقد لا يُكتب، كانت الغابة بديلها الوحيد. وهي تدور، في لبنان وغير لبنان، بمعنى أن الإنجاز ليس عنفاً وأن العنف غالباً ما يكون تعويضاً زائفاً عن عدم الإنجاز. وهي حقّاً تدور…
* نقلا عن صحيفة “الحياة” اللندنية