مَنْ، في العالم العربي، لم يسمع عن “المسلم” الفائز برئاسة بلدية لندن؟ لا أحد، تقريباً، من مستهلكي الأخبار في وسائل ومنصات الإعلام المختلفة. ولكن أقل من هؤلاء، بالتأكيد، سمعوا عن “اللبناني”، الذي أصبح رئيساً للبرازيل، بعد عزل الرئيسة البلغارية الأصل. تزامن الخبران في أسبوع واحد. نال الثاني القليل من الاهتمام، وكان للأوّل نصيب الأسد في التحليل والتأويل.
أعاد بعض المعلّقين العرب نجاح “المسلم” إلى المساواة واحترام حقوق المواطنة في بريطانيا، واقتنص البعض الآخر ضربات قليلة تحت الحزام، فذكّر الناس بحقيقة أن حظ المسلم الباكستاني، في بريطانيا والغرب عموماً، أفضل من حظوظ مواطنيه العاملين والمقيمين في بلدان عربية “تدّعي” الإسلام، وتنطق باسمه.
ومع ذلك، لم يحتل الإصرار على الهوية الدينية للأوّل (المسلم)، وتجاهلها في حالة الثاني (المسيحي)، اهتمام أحد. وللإنصاف، ينبغي القول إن الحرص على هوية الأوّل الدينية لم يقتصر على العرب، ففي الغرب، أيضاً، حرصوا على الأمر نفسه، لأسباب مختلفة. والمشترك، بين هؤلاء وأولئك، إلغاء الفرق بين الهويتين الدينية والقومية. أما المسيحي فيبقى “لبنانياً” حتى إشعار آخر.
ولا ينبغي تجاهل ما تنطوي عليه مفارقة كهذه من انزياح في المعنى. فدلالة الأسماء، والتسميات، والهويات، والصفات، تختلف من زمن إلى آخر. وفي جذر كل اختلاف، في المعنى، وخلاف عليه، فتّش عن السياسة، في اللغة، قبل كل شيء آخر.
فلو وقع الحدثان قبل ثلاثة أو أربعة عقود، مثلاً، لوجدنا أن هوية الأوّل، في وسائل إعلام التيار الرئيس في العالم العربي، هي الباكستاني، والثاني هي اللبناني، أو حتى العربي. ويبدو أن ثلاثة أو أربعة عقود، بكل ما مر فيها، وعليها، من مياه تحت وفوق الجسر، كانت تكفي لإنشاء انزياح كهذا.
لا يحدث الانزياح، أو يتحقق، دفعة واحدة، ولا ينجم عن استراتيجية مُوَّحدة، بل يتجلى في علامات تبدو، للوهلة الأولى، اعتباطية ومتفرقة، ولكنها تعكس مُجتمعة روحية، وذائقة، وحساسية زمن ما (Zeitgeist). قبل ثلاث سنوات، ترجمت الدار العربية للعلوم (ناشرون)، ونشرت، “متاهة أوزوريس” لبول سوسمان، الروائي البريطاني، الذي كتب روايات بوليسية ناجحة، استفاد فيها من مؤهلاته في علم الآثار، وتاريخ الشرق الأوسط القديم والحديث.
واللافت، في الترجمة العربية، أن مفردة الصليب، في النص الأصلي، أصبحت “الرمز الديني للنصارى”، والكنيسة “دار العبادة”، والكاهن “رجل الدين”. أما الكحول من نوع الفودكا، والنبيذ، والويسكي، كما جاء في النص الأصلي، فجرى اختزالها في بند “الشراب المُفضّل”، ناهيك، طبعاً، عن الإشارات الجنسية، التي هذبتها الترجمة العربية على طريقة المنفلوطي في “مجدولين” و”العبرات”.
لم يكن الدواعش، وقت صدور الترجمة العربية قد احتلوا الموصل بعد، ولم تكن أخبار الجزية، والسبي، وتدمير “الرموز الدينية للنصارى” وغيرهم، قد أصبحت وجبة يومية في وسائل الإعلام. لذا، لم يكن ليخطر على بال أحد، في معرض التساؤل عن مُسوّغات شطب مفردات عربية أصلية وأصيلة من نوع الكنيسة والصليب والنبيذ، أن ثمة علاقة بين التطهير اللغوي من ناحية، والتطهير العرقي أو الديني من ناحية ثانية. ويمكن، في الوقت الحاضر، إنشاء صلات كهذه، بعدما وقعت الفأس في الرأس، للتدليل على حقيقة أن التطهير يبدأ، في المقام الأوّل، كنوع من التمرينات اللغوية.
وهذا ليس حكراً على الدواعش، على اختلاف تسمياتهم، وراياتهم. فكل مطلع على تاريخ صعود الفاشية، بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، يعرف أن تمرينات كهذه سبقت الظاهرة المعنية، وتجلياتها الحزبية، بعقود طويلة.
وكل مطّلع على تاريخ صعود القومية، في العالم العربي، قد يعود إلى ما تجلى من تمرينات كهذه، منذ أواخر القرن التاسع عشر، جعلت من خاتمة معلقة عمرو بن كلثوم “إذا بلغ الفطام لنا صبي/تخر له الجبابر ساجدينا” مرجعية لعلاقة العربي بتاريخ مزعوم ومأزوم، في دولته القومية (nation state) الحديثة. فلن يتمكن أحد سكنه خيال كهذا من العيش في، والتأقلم مع، الأزمنة الحديثة.
خلاصة هذا، كله، ضرورة أخذ الانزياح اللغوي، أينما ورد، وكيفما جاء، في رواية، أو خبر، أو تحليل، وفي كل تجلياته السمعية والبصرية، على محمل الجد، ومحاولة اكتشاف صلته بالسياسة. فلا وجود لمفردة بريئة، أو علامة اعتباطية، في ما كل يُمثّل روح وحساسية وذائقة زمن ما.
وبهذا نعود إلى ما بدأنا به، إلغاء الفرق بين الهويتين الدينية والقومية، في العالم العربي، ظاهرة جديدة، نبتت في دفيئة تحوّلات سياسية وأيديولوجية كثيرة على مدار العقود الأربعة الأخيرة، وفي خواتيمها ما يشبه نوعاً من الانتحار الجمعي، والخروج من التاريخ والأزمنة الحديثة.
وتبقى مسألة أخيرة: وسط مظاهر النشوة والفرح الغامر، من جانب عرب أصبحوا قوميين إسلاميين، (يجمعهم بالباكستاني، والماليزي، أكثر مما يجمعهم بأبناء بلدهم من طائفة مغايرة، في البناية، أو الشارع، أو المدينة نفسها)، لم يتوقف أحد أمام تفاصيل صغيرة من نوع أن الأخ المسلم، الباكستاني، رئيس بلدية لندن الجديد، يؤيد زواج المثليين، وهذا ما استدعى، قبل سنوات، فتوى صدرت بحقه من جانب أحد الأئمة، واستدعى، أيضاً، تدخل الشرطة البريطانية لحمايته. في سياق كهذا، ثمة أكثر من مفارقة موحية، واللبيبُ بالإشارة يفهم.
khaderhas1@hotmail.com