على مدى أيام طويلة، ابتداء من العاشر من مارس/آذار المنصرم الذي صادف ذكرى انتفاضة شعب التيبت في عام 1959 ضد النظام الشيوعي في بكين، أي الانتفاضة التي فشلت وأدت إلى خروج زعيمهم الروحي “الدالايلاما” إلى المنفى في “دارامسالا” في شمال الهند، تركزت أنظار المراقبين ووسائل الإعلام المختلفة على منطقة الهملايا الوعرة حيث إقليم التبت الذي اصطدم شعبه بقيادة كهنته البوذيين مجددا بالجيش الأحمر الصيني.
مقاطعة الألعاب الاولمبية القادمة
وبينما كان التبتيون يسقطون قتلى أو جرحى أو يقادون إلى المعتقلات، والمجتمع الدولي يستنكر ويدين عملية القمع تلك ويهدد بمقاطعة الألعاب الاولمبية القادمة المقرر إقامتها في الصين هذا الصيف، ووسائل الإعلام تقارن أحداث التيبت بأحداث ساحة ” تيان إن من” الدموية في عام 1989، وتخرج باستنتاجات مفادها أن أوضاع حقوق الإنسان لم تتغير كثيرا في الصين منذ ذلك التاريخ، وان الصورة التي تحاول بكين إشاعتها قبيل الألعاب الاولمبية حول تماسكها وتآلف مجتمعها وتناغم مكونات شعبها غير صحيحة، تحولت الأنظار فجأة بعيدا عن الهملايا إلى مضيق تايوان، حيث كان نائب رئيس تايوان المنتخب حديثا “فينسينت سيو” يعلن انه – بصفته رئيسا لمنتدى “بواو” الآسيوي – سيتوجه إلى البر الصيني ليترأس اجتماعات المنتدى المذكور الذي أسسته مجموعة من الاقتصاديين ورجال الأعمال بهدف تنشيط المبادلات بين الصين وتايوان للتوجه، مضيفا أنه لا يستبعد عقد محادثات رسمية مع الرئيس الصيني”هو جينتاو” من اجل بحث طبيعة الاتصالات المستقبلية بين بكين وتايبيه في عهد القيادة التايوانية الجديدة.
رد فعل زعماء بكين على المبادرة التايوانية
ويقال أن الرئيس الصيني المعروف بذكائه وخبرته الطويلة في شئون التيبت والمستمدة من سنوات إدارته لهذا الإقليم قبل تدرجه في المسئوليات الحزبية والسياسية الأخرى الأعلى شأنا، رد بالإيجاب السريع على المبادرة التايوانية رغم كل ما عرف عنه من تشدد إزاء تايوان التي تعتبرها بكين إقليما منشقا ومتمردا. أما السبب فلا يحتاج المرء إلى كبير عناء لإدراكه. فبخطوته تلك ضمن انحسار الأضواء عن التيبت وانتقالها إلى مكان آخر، لاسيما وان أي انفراج في مضيق تايوان في صورة عقد لقاء بين زعماء بكين وتايبيه، سيكون حدثا مدويا بكل المقاييس – أو كما قال احد المراقبين ” حدثا لا يختلف في دلالاته وتداعياته وتوقيته عن القمة التاريخية ما بين الزعيم الصيني الأسبق ماو تسي تونغ والرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في بكين في عام1968″ – وسيقابل بالتركيز الإعلامي الشديد، على اعتبار أن الطرفين لم يلتقيا وجها لوجه أو تحت قبة واحدة منذ ستة عقود تقريبا، أي منذ انتصار الشيوعيين بقيادة المعلم “ماو تسي تونغ” على الوطنيين بقيادة الماريشال “تشيانغ كاي تشيك” في عام 1949، ودفع الفريق الأول للثاني للخروج من البر الصيني نحو جزيرة فرموزا.
هدية من السماء لبكين
وبغض النظر عما إذا كان هذا صحيحا أم لا، فانه مما لا شك فيه أن الاقتراح التايواني كان بمثابة هدية من السماء للقيادة الصينية، لأنها نقلت الأضواء بالفعل من الهملايا إلى مضيق تايوان، وبالتالي أزالت بعض الحرج عن بكين وصورتها العالمية قبيل العرس الاولمبي الكبير الذي تسعى بكين إلى استغلاله أفضل استغلال والترويج من خلاله لنهضتها وتقدمها وقوتها. من جهة أخرى، كان الاقتراح التايواني عاملا مساعدا على إذابة الجليد المتراكم على علاقات طرفي مضيق تايوان، وبالتالي تخفيف حدة التوتر في هذه المنطقة. ذلك أن آخر ما تريده بكين في هذه الفترة هو أن تتوتر الأوضاع في الأخيرة بفعل تصريح أهوج أو عمل مستفز من قبل تايبيه، فيفسد العرس الاولمبي المرتقب.
بكين، الرابح الأكبر في انتخابات تايوان الرئاسية
ومن هنا قيل أن القيادة الصينية كانت الرابح الأكبر من نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تايوان، والتي وجهت صفعة جديدة إلى الحزب الديمقراطي التقدمي، من بعد الصفعة التي تلقاها الأخير في الانتخابات البرلمانية الماضية في يناير/شباط الماضي. إذ جاءت النتائج لصالح مرشحي حزب الكومينتانغ التاريخي لمنصبي رئيس الجمهورية ونائب الرئيس: “ما ينغ جيو” و “فينسينت سيو” على التوالي، وبفارق تجاوز المليوني صوت عما حصل عليه مرشحا الحزب الحاكم (الحزب الديمقراطي التقدمي): “فرانك هسييه” للرئاسة و “سو تسينغ تشانغ” لنيابة الرئاسة، هذا الحزب الذي لم يكف منذ وصوله إلى السلطة في عام 2000 لأول مرة عن مشاغبة بكين بالتصريحات والخطوات التي اشتمت منها روائح انفصالية أو روائح تقنين الأمر الواقع.
إن هذا يجرنا إلى إلقاء نظرة سريعة على برامج مرشحي الفريقين والتي لئن تشابهت اقتصاديا فإنها اختلفت لجهة السياسات الخارجية وبالذات لجهة شكل العلاقة مع بكين، وهو الأمر الإضافي الذي يبدو انه ساهم في قبول الرئيس “هو جينتاو” بعقد لقاء مع “فينسينت سيو”.
برامج الفريق الفائز
طبقا لما تردد في الحملات الانتخابية لمرشحي الفريقين المتنافسين حول السياسات الخارجية، فان فريق “جيو- سيو” تمسك بثلاث نقاط:
• إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول الاجنبية على قاعدة السياسة والكرامة والبرغماتية، بمعنى ألا يكون ثمن فك عزلة تايوان هو التفريط في هذه الأمور.
• توثيق وتعزيز التعاون والاتصالات الثنائية مع الأمم المتحدة، مع السعي إلى نيل عضويتها تحت اسم جمهورية الصين الوطنية أو تايوان أو أي اسم آخر.
• السعي وراء نيل عضوية البنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة الصحة العالمية.
أما فيما يتعلق بالعلاقة مع البر الصيني، فقد خاض فريق “جيو- سيو” المنافسة على أساس المباديء الثلاثة التالية:
• استئناف المفاوضات مع بكين على أي مستوى، وذاك من اجل إقامة سوق صينية- تايوانية مشتركة كوسيلة لدمج البلدين لاحقا، وكذلك لبناء الثقة ما بين المؤسسات التايوانية التي تخشى من عدم صمودها أمام منافسة نظيرتها الصينية في الإنتاج والتكلفة والسيطرة
على الأسواق الخارجية.
• منع العمالة والمنتجات الصينية من دخول تايوان، لما تشكله من منافسة صعبة.
• إطلاق محادثات فورية حول ربط البلدين بخطوط نقل واتصالات منتظمة.
برامج الفريق الخاسر
مقابل هذا ركز فريق “هسييه- تشانغ” على النقاط التالية فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات مع بكين:
• العمل بأي وسيلة من اجل نيل اعتراف اكبر عدد ممكن من الدول.
• تعزيز الثقة المتبادلة مع منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
• تقوية أواصر الصداقة والتعاون مع اليابان.
• تشجيع التفاعل السلمي مع البر الصيني
• منع العمالة والمنتجات الزراعية الصينية من دخول تايوان
• دعم عملية تسيير رحلات جوية خاصة ” تشارتر” من المطارات الصينية إلى مطارات تايوانية معينة.
لماذا كان اجتماع جينتاو – سيو حميما؟
الذين راقبوا لقاء جينتاو- سيو التاريخي القصير (20 دقيقة) عن كثب، أفادوا أن الأجواء كانت حميمة رغم كل ما راكمته سنين الحرب الباردة، ومن قبلها سنوات الحرب الأهلية الصينية من عداوات. والسبب بطبيعة الحال هو أن محادثات الرجلين تطرقت على وجه التحديد إلى القضايا الاقتصادية، تاركة القضايا السياسية والأيديولوجية والتاريخية المختلف عليها على الرف. ومما قيل في هذا السياق، أن أهم ما تم التطرق إليه مسألتين: الأولى تخفيف الإجراءات الصينية حيال استثمارات رجال الأعمال التايوانيين أموالهم ومدخراتهم الضخمة في المشاريع الصينية، والثانية العمل على إنشاء خطوط مواصلات منتظمة عبر مضيق تايوان بحرا أو جوا.
السفر ما بين الصينين
والمسألة الأخيرة ذات خصوصية، لا يعرف أهميتها إلا من كابدها مثل كاتب هذه السطور. فقبل عقدين مثلا حينما كنت أتردد على تايبيه، وكانت زيارة بكين الشيوعية أمرا محظورا على حاملي وثائق السفر الخليجية، قررت ذات مرة أن أجازف وارحل إلى بكين بدافع الفضول فقط، منتهزا وجودي على مقربة منها. غير أن ما تصورته ممكنا وسهلا وموفرا للدراهم، اتضح في حينه انه احد أكثر المستحيلات. إذ لم تكن الرحلات المباشرة بين تايبيه وبكين هي وحدها المحظورة، بل أن أجهزة الحاسوب لدى شركات الطيران الاجنبية العاملة في تايبيه كان يحظر عليها تداول كلمة بكين لعمل حجوزات للمسافرين الذاهبين إلى بكين، وان كان هؤلاء أجانب يريدون السفر عبر مطارات ترانزيت أجنبية كمطاري هونغ كونغ أو طوكيو، وكذا كان الحال مع الملصقات التي تربط بها الحقائب للدلالة على وجهتها، حتى لو كانت تلك الوجهة غير مباشرة.
وحينما أردت أن أعود إلى تايبيه من بكين لمواصلة رحلاتي المقررة سلفا في منطقتي جنوب وشمال شرق آسيا، واجهتني في البر الصيني مشاكل مماثلة، بل أكثر صرامة، لجهة حجز الرحلات والفنادق وإيداع الحقائب.
تطورات متواضعة في التسعينات
وبطبيعة الحال، فان هذه الإجراءات تم تخفيفها في السنوات التالية، وتحديدا في التسعينات التي شهدت تفاهما مبدئيا حول فكرة “وجود صين واحدة”. هذا التفاهم الذي ساهم في تبادل الوفود التجارية والرياضية بين تايبيه و بكين، غير أن الأمور على ما يبدو انتكست في سنوات الألفية الجديدة مع التدهور والتصعيد في العلاقات الصينية- التايوانية بعيد وصول الحزب الديمقراطي التقدمي إلى السلطة وتبنيه سياسات هادفة إلى إعلان تايوان وطنا مستقلا لا علاقة له بالبر الصيني، أي شيئا مختلفا عما درج حزب الكومنتانغ على ترديده أو حشو رؤوس التايوانيين به على مدى ستة عقود، من أن تايوان “أو جمهورية الصين الوطنية” هي صاحبة السيادة الوطنية على كامل التراب الصيني والممثل الشرعي للصينيين أينما وجدوا.
واشنطون أيضا مبتهجة
من جهة أخرى، لا تبدو بكين وحدها المبتهجة من نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تايوان، إذ شاركتها الفرحة واشنطون التي أحرجت أكثر من مرة خلال الأعوام الثمانية الماضية من سياسات ومشاغبات الرئيس التايواني “تشين شوي بيان”، المقرر خروجه من السلطة في العشرين من مايو/أيار القادم ، مما دفعها إلى لفت نظره والامتناع عن استقباله على الأراضي الأمريكية، على نحو ما بينا في مقال سابق.
..وكذلك برلين
إضافة إلى واشنطون، كانت برلين في مقدمة المرحبين بنتائج الانتخابات التايوانية، ربما لأن الاتحاد الأوروبي لا يرغب في هذا الوقت تحديدا نظاما حاكما في تايبيه يصعد الأمور في مضيق تايوان، ويفضل عليه نظاما بقيادة الكومينتانغ، يعلن صراحة أن تايوان تختلف اختلافا كليا عن التبت و هونغ كونغ، وبالتالي فقضيتها يجب أن تدرس بطرق مختلفة مثل بناء الثقة وتدشين محادثات سلمية يسبقها نزع الصواريخ المزروعة في مواجهة بعضها البعض على طول مضيق تايوان.
.. ومعهما سنغافورة
آسيويا، جاء الترحيب والإشادة بما أسفرت عنه انتخابات تايوان الرئاسية، من سنغافورة التي لطالما خشيت من التقارب مع تايبيه، خوفا من ردة فعل بكين والملايين من السنغافوريين من ذوي العرق الصيني، إلى درجة أنها رفضت في العشرين من فبراير/شباط الماضي السماح لشركة تايوانية حكومية متخصصة في المجالات الفضائية بعرض منتجاتها وإنجازاتها تحت اسم تايوان في معرض سنغافورة الجوي لعام 2008 .
elmadani@batelco.com.bh
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين