لا أعتقد بأن شعباً من الشعوب، أو بأن مجتمعاً من المجتمعات احتلته واستحوذت على مسام تفكيره عقلية المؤامرة، او ثقافة المؤامرة كما هي الشعوب العربية او المجتمعات العربية قاطبة التي ما زالت ومنذ حقبٍ بعيدة أسيرة ورهينة هذه العقلية بشكل مرضي يحتاج بالفعل الى تشخيص وعلاج جسور علّه يقضي على هذا المرض الوبال او على هذا الداء الخطير الوراثي او المتوارث.
لا يختلف في هذه العقلية في عالمنا العربي.. يسار عن يمين او نظام عن نظام او اسلامي عن قومي؛ فالكل في ثقافة المؤامرة منغمس ومتورط ومؤمن بها الى النخاع، والكل على مذبح ثقافة المؤامرة سواء ومتعادل في القسط والميزان. ولم ينجُ جيل عربي سابق او جيل عربي لاحق من هذه الثقافة التي حرصت كل الاجيال على توريثها للاجيال اللاحقة وعلى الوصاية للتمسك بها، والعض عليها بالنواجذ فهي التعويذة الثقافية الاهم، وهي العصا السحرية للهروب من المسؤولية. يؤكد ويؤصل لعقلية المؤامرة احد كبار مشايخنا العربي وهو الابرز الآن بينهم وهو الاكثر حظوة وانتشاراً.. يؤكد نظرية المؤامرة، فيقول لا فض فوه »ان الامريكان رشحوا الاسلام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عدواً بديلاً يجب ان تتوجه اليه مشاعر التعبئة بالكره«. وهو كما نلاحظ »حكم« لا يقبل النقض أبداً يذهب لتأكيد وتأصيل التفكير المؤامراتي المعتاد والاسهل تقبلاً لدى الرأي العام الجمعي والاسهل هضماً لدى جماهيرنا العربية التي عودناها على الجاهز والعلب من التحليلات الهروبية التي تكفي المؤمنين القتال، بحثاً عن الاسباب الجوهرية للأزمة العربية الممسكة بخناقنا، والتي لن نتخلص منها ما دمنا نعيد انتاج مثل هذه الافكار المؤامراتية دون النظر بعمق عميق الى داخلنا العربي، وتقصي اسباب عجزنا وتخلفنا وتعطلنا، وايضا فشلنا في انجاز مشروع تنموي عربي واحد كما انجزت شعوب آسيا عشرات بل مئات المشاريع التنموية الخلاقة بخلاصها اولاً وقبل كل شيء من عقلية المؤامرة وثقافتها، والبحث عن افضل السبل للخروج من ازماتها والخروج بمجتمعاتها وشعوبها الى النور والى الفضاء العالمي الاوسع بقدرتها الذاتية دونما البحث عن اعذار وهمية.
أكاد أجزم بان صناعة الاعداء صناعة عربية بامتياز؛ فنحن العرب ان لم نجد عدواً اخترعناه، وما اكثر ما اخترعنا من اعداء لنا حتى من داخلنا ومن بين ظهرانينا.. فنجحنا في خلق عداءات وخلق اعداء وهميين لنا، رحنا نعلق على شماعتهم كل اسباب عجزنا وفشلنا. هل المشكل نشأ بأسباب ان تاريخنا العربي منذ نشأته الاولى او منذ تكوينه الاول كان تاريخ مؤامرات لم يسلم منها تاريخ الخلافة الاسلامية اي النظام العربي الاول كما لم تسلم منها الفرق اي الاحزاب المعارضة. ام ان المشكل في تشبثنا بثقافة المؤامرة ناشئ بالاصل من تاريخنا الحديث والاقرب الذي اخترقته وقوضته المؤامرات والدسائس والانقلابات التي اسميناها »ثورات« وفي التسمية انعكاس غير واعٍ بايماننا بثقافة المؤامرة، وتمكن عقلية المؤامرة من تفكيرنا وتحليلنا. ومن نتائج استمرار وتراكم ثقافة المؤامرة ان فقدت الانظمة العربية ثقتها في المعارضة، وفقدت المعارضة ثقتها في الانظمة واصبح انعدام الثقة بين الطرفين امراً مفروغاً لم يحاول طرف من الاطراف المعنية دراسة اسبابه وطرح الحلول والبحث عن مخارج حقيقية وعملية بمعزل عن عقلية المؤامرة. ومشكلتنا هي الاصرار على تجذير وتأصيل عقلية المؤامرة؛ فمقابل التيار الاسلامي السياسي الذي عرضنا نموذجاً منه وكيف يكرس المؤامرة، نجد قائداً وزعيماً يسارياً يقول »إن الدعوة الى الديمقراطية عبر مشروع الشرق الاوسط الكبير وشمال افريقيا هو جزء من استراتيجية اعادة انتاج الاستعمار والهيمنة الاجنبية، فبعد ان خرج الاستعمار من الباب يريد ان يعود من النافذة عبر هذا المشروع«. وهي كما نلاحظ قراءة نمطية تقليدية محافظة فكراً وتحليلاً وتفسيراً رغم يساريتها تصب في النهاية في ذات مجرى ومصب عقلية المؤامرة بتسطيح الوعي بالتغيرات والتبدلات والتحولات الكونية الكبرى.
ونتيجة تمكن وتغلغل عقلية المؤامرة وثقافتها في الوجدان العربي بتنا نلاحظ بلا كبير جهد كيف ان المعارضة العربية في اكثر من مكان وربما في كل مكان وقد اصبحت تتوجس خفية وتتعاطى بحذر مبالغ فيه مع بعضها بعضاً، وتحيل وتفسر اي مبادرة لتوحيد صفوفها حول المشتركات الواحدة الى مؤامرة خفية يحيكها هذا الطرف المعارض ضد الطرف المعارض الآخر لتفشل جميع المبادرات في جمع معارضة البلد الواحد حول الحدّ الادنى المشترك فيما بينهم، والغريب في الامر ان احدا لم يلتفت ولم ينتبه الى خطورة تمكن وتنفذ عقلية المؤامرة على الذين اخترعوها واعادوا انتاجها وتكرارها بحيث بات الشك والتوجس والخوف والتردد وعدم الثقة يفرض وجوده ويحكم علاقات اصحاب التيار الواحد.
ولعل ثقافة المؤامرة والعقلية المسكونة بها هي التي فتحت للانشقاقات والتمزقات والتفتُّتات كي تستمر وتجدّد نفسها بشكل اكثر ضراوة وحدّة وقسوة ايضا. ومشكلة ثقافة المؤامرة انها تكرس نظرية التبرير السائدة.. فالطفل فاشل في دراسته او في هذه المادة او تلك لان المدرس الفلاني صاحب المادة ضده ويعاديه »هكذا لله في الله« والوالدان واولياء الامور لديهم استعداد ذاتي لتصديق ذلك نتيجة الاتكاء الثقافي على عقلية وثقافة المؤامرة بحيث انهم يرددون اسطوانة الضدية والمعاداة الى درجة ان الطفل الذي اطلقها »اكذوبة« لتبرير فشله تصبح حقيقة لا تقبل الجدال. وعلى ذلك قس كل مظاهر الفشل والعطل.. فالموظف الكسول الخائب يحيل اسباب خيبته على المدير الذي يقف ضده على طول الخط وكذلك هو العامل الفاشل.. حتى اللاعب والرياضي الفاشل يحيل ويعلق فشله على مدرب الفريق لدرجة اصبح فيها المدربون ضحية هزائم وفشل المنتخبات الوطنية في كل البلاد العربية التي سرعان ما يلملم المسؤولون عن الرياضة فشل منتخباتهم الرياضية، ويعلقون الفأس في رقبة المدربين ولذا كثيراً ما تتكرر بعد كل فشل رياضي حكاية انهاء عقد المدرب وفصله في كل لعبة وفي كل رياضة وفي كل مسابقة او دورة..!! ومن هنا نقول ونحذر من ثقافة المؤامرة ومن عقلية المؤامرة كونها تجاوزت الآخر واصبحت شماعة لاخطائنا الذاتية واخطاء ابنائنا الصغار وجيلنا الجديد.. واخطاء خططنا على الصعد كافةً.. وهو ما يضعنا او سيقودنا الى كارثة حقيقية ما لم نراجع اسلوبنا، وما لم نراجع ثقافتنا ونظريتنا الأثيرة في ارجاع كل شيء إلى المؤامرة. لم يبق إلا ان يعلق الفرد منا انه يتآمر على نفسه.. وهذا حالة ليست مستبعدة وقد ننظر لها ونفلسفها قريباً اذا لم نتراجع ولم نجتث هذه الثقافة اجتثاثاً اسئصالياً قوياً لا رجعة فيه ولا تردد حتى ننقذ ما يمكن انقاذه في حالتنا العربية التي لا تشابهها ولا تماثلها حالة.
* كاتب واعلامي من البحرين
عقلية المؤامرة لماذا.. وكيف؟
السيد المحترم
مقالك جيد وممتاز، لكنك لم تذكر بشكل مباشر، أسباب هذه “العقلية” المَرَضية التي وبكل أسف عامة شاملة في مجموع هذه البلاد. أنا أعتقد أن أهم سبب، هو هيمنة “الفكر” الديني في حياة هذه المجتمعات. هذا “الفكر” يعلم من يؤمن به على أنه سليم وغير قابل للخطأ، وإن يكن هناك شيء فهو بسسب إبليس. ونحن خير أمة أخرجت للناس. وكل الآخر هو عدوي.
ولايوجد عندنا نقد ذاتي، ولا نحب العمل التطوعي، بدون مقابل. لأن كل عمل نقوم به يجب أن يتبعه مكافأة “دخول الجنة”.