حمل حلمه وآلته الكاتبة ورحل عن وطنه العراق. بعد ربع قرن كتب صموئيل شمعون، محنة وطن وأزمة مواطن ومعاناة مثقف في وطنه وفي منفاه. ودّع أهله في الحبّانية قائلا:”خلال شهر أو شهرين سأكون في أمريكا”. فترد عليه أمّه: “أنت مجنون يا صموئيل. فبعد يومين أو ثلاثة سترجع إلينا”.
كانت السينما هاجسه، وأن يصبح مخرجا سينمائيا في هوليوود، كان حلمه الذي رافقه في مسيرة حياته. فإذا ما وصفته امرأة بأنه يشبه بحارا قديما، أيقن أنه سوف يصبح ممثّلا.
تتناقله المنافي وتستضيفه “الزنازين الشقيقة” ثم يعيش حياة بوهيمية عبثية. مواجهة أجهزة المخابرات العربية كانت صدمته الأولى، حيث يقابلها الكاتب ببراءة المواطن المغادر لتوه بيئته البريئة الطيبة. ففي المنطقة الشرقية في بيروت يقول لسجّانه:
“اذا قتلتني يا طوني فان كثيرين سوف يحزنون عليّ” .
وكأن القاتل الذي لا يقيم وزنا لحياة الآخرين يهمه حزنهم. وفي بيروت الغربية وفي مقهى الشموع حين هاجمه مسلح، أجاب:
“الكتائب يريدون تفجير رأسي، و الفلسطينيون يريدون تفجير رأسي. ماذا فعلت؟ أنا شاب طيب وأحب مساعدة الآخرين.”
تبدأ رحلته في دمشق، محطته الأولى. عمل في الطباعة ليحصل على بعض النقود قبل متابعة رحلته إلى بيروت فأمريكا. في دمشق جنى عليه أسمه. فبعد أسبوع جاءهُ البوليس السري، فاعتقل وعذّب بتهمة انه يهودي عراقي. ثم يطلق سراحه بعد أن ينصحه رجل المخابرات بتغيير اسمه.
في بيروت الشرقية، “تستضيفه” مليشيا حزب الكتائب بتهمة العمالة للفلسطينيين والسوريين، فيلقى من التعذيب ما يجعله يعتقد أن اعتقاله في دمشق كان مجرد مزحة.
أطلق سراحه وعاد الى دمشق ومنها الى عمّان مستذكرا في الطريق كلمات قرياقوز ابن الحبانية بأن “الله هو أعظم كاتب مخطوطات!”.
في عمّان لم يمد له يد المساعدة أحد. وحده الفلسطيني بائع الشاي المتجول مد له يدا رحيمة إلى أن وجد عملا. عمل في الطباعة ووجد له مأوى في مكتب المحامي والروائي وجيه النجّار. ثم بدأ صموئيل بكتابة القصص القصيرة ونشرها في الصحافة الأردنية.
كتب قصة رجل عاش يحلم بالعمل في السينما، وذات يوم، وعلى مدرج المسرح الروماني اكتشف أنه أصبح في الخمسين من عمره، ولم يعد بالتالي يناسبه هكذا عمل، أصيب بسكتة قلبية قضت عليه. فسأله رب العمل اذا ما كانت تلك نبوءة لما سيحل به.
كتابة خطابات النعي والتعزية هي أكثر ما اشتغل به في عمّان. حتى خيّل أليه أنه “اذا استمرّ الأردنيون في الموت هكذا، فان إسرائيل ستجد أرض ميعاد جديدة بدون ناس”.
مجددا يداهم البوليس السري المكتب ويعتقله مع رب العمل وتستضيفه الزنازين مجددا، حتى وجد في اعتقاله لدى الكتائب مجرد مزحة أخرى، حيث المواطن في بلادنا مدان بهويته أو بمعتقده الديني. يطلق سراحه فينصحه رب العمل بالمغادرة الى بيروت الغربية مع كتاب توصية لعربي عواد “الحزب الشيوعي الفلسطيني – القيادة المؤقتة” حيث عمل في الإذاعة والأرشيف.
يستحضرك الكاتب مرحلة الفاكهاني، بأبنيتها وناسها، بأحاديثهم وقعقعة سلاحهم، وفي الرواية تسجيل لأحداث تاريخية كادت أن تنسى. التنقل من بيروت الى طرابلس في الشمال اللبناني عن طريق قبرص، والقرصنة الإسرائيلية في عرض البحر، قد خبرها الكاتب حين قام بنقل كمية من الدم تبرعت بها النرويج أو الدنمارك. الاشتباكات الداخلية بين الفصائل المختلفة. جوازات السفر المزورة. ثم الغارة الإسرائيلية على الفاكهاني عام 1981، وهي مجزرة قتل فيها صديقه الفرنسي فرنسوا، الذي عمل مساعد طبيب مع المقاومة الفلسطينية. ومن بيروت ارتحل الى قبرص ثم تونس، ويستمر صموئيل يؤرخ لأحداث جرت هناك. وحين يشاهد أحد الحلاقين يختن طفلا يستدرجه الكاتب الى بيته ليختنه.
في فرنسا
في فرنسا حيث محطته قبل الأخيرة، يرسم الكاتب صورة حية لحياة اللاجئين في مراكز عيشهم، وهي في مجملها لا تختلف عن مراكز اللجوء في الغرب عامة. حيث تشكيلة أمم مختلفة الألوان والأعراق والديانات تتقاسم غرف سكن مشتركة. روائح الطعام التي لم يألفها أنف الغربي. الشبق الى الجنس، وكم من مرة اضطر الكاتب لمغادرة الغرفة والتسكع في الطرقات، حين تحضر صديقة “رحيم” مشاركه في الغرفة، فيشعر بأنه لاجىء في قصر رحيم وليس في فرنسا. ثم صعوبة الاندماج وتعلم اللغة. تقول معلمة اللغة الفرنسية عن أحد الطلبة المشاكسين “انه فقط يدافع عن نفسه ضد شيء جديد، لكني متأكدة انه بعد وقت قصيرسوف يتقن اللغة”. يسرد الكاتب العديد من النوادر المضحكة. ولتعزية اللاجئين عن أوضاعهم، علقت في أحد المقاهي صورة كبيرة لفيكتور هيجو كتب تحتها “تذكر أنه هو أيضا كان لاجئا ذات مرة”. وفي مركز اللاجيئن هذا كتب صموئيل مقاطع من مخطوطته “الحنين الى زمن الانكليز”
في باريس
في باريس قضى ليلته الأولى بلا مأوى، “هل عليّ الاعتراض على ماضيّ المروّع؟ لا أريد شيئا من ماضيّ. أنا أريد حياة جديدة”.
هكذا فكر في نفسه وهو يجوب الطرقات حتى مطلع الفجر. وكانت ايذانا ببدء حياة بوهيمية لا تعرف الاستقرار، حتى وصفه صديقه الايطالي دينو “بالعراقي التائه”، وقدمه صديقه مصطفى لصديقته “هذا صديقي الإله الأشوري الهارب من جحيم الميسوبوتوميا وشبه الجزيرة العربية ويريد أن يصبح راعي بقر”.
أجواء المثقفين
عرف صموئيل العديد من الشعراء والمثقفين العرب الذين عاشوا في باريس أو ترددوا عليها، سيما من مثقفي المغرب العربي، وخلف كل واحد منهم حكاية. يغرق الكاتب في سرد تلك الحكايا بما هو جزء منهم ومن مجتمعهم. فهذا صديقه الشاعر مصطفى يحذره من الاختلاط بالعرب وأن له تجارب مريرة معهم، ولكنه يناقض نفسه كعادة المثقفين، إذ لا يعطي المواعيد إلا في المقهى الذي يجتمع فيه غالبية المثقفين العرب. وصديقه الشاعر آدم يقول له.”لن تحصل من اختلاطك بالعرب الا وجع الرأس، ابتعد عنهم قدر الامكان”.
الشاعر مصطفى لا يقيم في باريس بل يزورها مرارا، ويرى أن “…المثقفون العرب يعيشون في باريس في حالتين فقط، اما لجوء سياسي مثلك، او العمل في المجلات العربية في باريس أو لندن، وكما تعرف تلك مجلات تنتمي الى السعودية العربية أو القذافي او صدام حسين،
وأنا كما تعرف شاعر فقير ومستقل”.
أما الصحفي السوري زياد فقد اعتزل الكتابة لأن “الصحافة في بلادنا ماخور” كما يرى.
الصحفي عبد الوهاب يتجنب الجلوس في المقهى الذي يجتمع فيه الصحفيون، الذين يعملون في أجهزة مخابرات الحكومات العربية وسفاراتها في باريس.
أما الكاتب فلا يرى أن الفضيلة في الابتعاد عن العرب، فهو كان يستدين المال منهم، وكثيرا ما استضافوه في بيوتهم سيما في أيام الشتاء الباردة. غرق الكاتب في ليل باريس بصخبه ونواديه الليلية ومطاعمه ومومساته، وحين يسأل أين يسكن في باريس يجيب “في كلّ باريس” أي في الطرقات. وحين تسأله سيدة بأنه يبدو وكأنه شخصية مشهورة يجيبها “نعم في البارات”.
عالم المومسات
الابتزاز والسرقات والفحش لكل منها حظها من تصوير الكاتب لتلك الأجواء. نادية فتاة مؤمنة، تتبع تعاليم الاسلام، وفي رمضان لا تمارس الجنس مع المسيحيين، لذا فقد عقدت والأخريات اتفاقا، بإرسال المسيحيين الى الفتيات الفرنسيات، وهن يرسلن لها الزبائن المسلمين من تركية والبوسنة، لكنها لا تمارس الجنس مع العرب، تقول “العربي يدفع في اليوم الأول التسعيرة كاملة، في اليوم الثاني يدفع النصف، وفي اليوم الثالث يبوح بحبه، ثم ينتقل للعيش معها، وبعد أيام يطالبها بالمال الذي تجنيه من عملها، وعندما تمرض ولا تستطيع الذهاب الى العمل يضربها.”
مراعاة الحساسيات
عقدة السؤال عن الدين هي سمة مشتركة ليس في فرنسا وحدها بل في معظم بلاد اللجوء. أحد الأفارقة لم يستوعب كيف يمكن أن يكون الانسان عربيا ومسيحيا في آن واحد. لأن اللغة العربية هي لغة القرآن. وقد فشل الكاتب في إقناعه لأنها ثنائية متناقضة بالنسبة له. وحين ينقذ حياة رجل ايراني ويسأله من أين هو، لم يستطع الإجابة بأنه عراقي، لأن الحرب العراقية الإيرانية كانت مشتعلة الأوار. فقال انه من باكستان. ضحك الرجل وقال: تصور يا أخي العزيز أنه من بين الاثني عشر مليون خنزير يعيشون في هذه المدينة، أرسل الله لي صديقا مسلما لينقذ حياتي، أليست معجزة؟ ولم أستطع ان اقول له أنني واحد من هؤلاء الخنازير لانني مسيحي وليس مسلم كما تصوّر!
حياة بوهيمية عبثية
غالبا ما عاش الكاتب مشردا في محطات القطارات، ينام على مقاعدها، يستحم في حماماتها، ويودع أمتعته القليلة في خزائنها. ولمحطة اوسترليتز، حظ وافر من شعره وكثيرا ما تغزل بها، حتى قام اتفاق غير مكتوب وغير محكي مع عمال النظافة، بعدم إزعاجه أثناء نومه. خبر شوارع باريس وأزقتها، وحتى مقابرها التي زارها وحفظ قبور مشاهير فرنسا، واهتدى الى قبر صديقه فرنسوا فالتزم بتنظيفه وزرعه بالورود.
تأجيل الألم
“دينو” المثقف الايطالي وصديق الكاتب، يعمل مهرجا في أحد الملاهي الليلية. يسأل صموئيل كيف يتعامل مع الألم؟ ” يا عزيزي، لقد اكتشفت مبكرا أن الإنسان عندما يجد نفسه ملقى في الشارع، فلا خيار له، الا كما فعلت شهرزاد في ألف ليلة وليلة، تأجيل الألم. وهو يستدعي الفانتازيا لتأخذه بعيدا عن الطرقات والحدائق العامة، والمقاعد ومحطات القطار، ومن عصف رياح الشتاء الباردة وفراغ المعدة، عندئذ يرى كيف تتحول المقاعد إلى فراش وثير، والرياح الباردة تصبح أكثر دفئا وراحة. ثم يسأل صديقه:
“وأنت كيف تتعامل مع الألم؟”
“الألم هو الذي يقود الإنسان لكي يصبح مهرجا”.
بينما صديقه الآخر يقول: “بدون الجنون والهلوسة فان العالم يصبح جحيما”.
وهي ذاتها فلسفة زوربا اليوناني، الذي يرى استحالة الحياة بدون بعض الجنون.
هجس صموئيل بالسينما التي تعلم أبجديتها، وصناعة الظلال على ضوء الشموع، قبل أن يدخل المدرسة ويتعلم الألف باء. وظل هذا الهاجس مسيطرا على أجواء الرواية من أولها حتى آخرها. يستعير تشبيهاته منها. حين علم بوفاة أبيه وهو في باريس:
“رأيت الحياة بلا ضجيج والناس تسير ببطء بخطوات صغيرة، تماما كما في فيلم صامت”.
ويستعير في الكثير من اجاباته، أسماء الأفلام الهوليوودية، حتى أن صديقا كان يقول: “أنت تعيش فيلما وليس حقيقة”.
ولد الشارع والسينما
عامل الزمن كفيل بتغيير كل شيء…الأمكنة والناس..لكن التغيير الطبيعي غيره حين يحدث اثر الأعاصير التي تعصف بالمجتمع لتقلب حياته رأسا على عقب.
القسم الثاني من الرواية بعنوان”ولد الشارع والسينما” يعود فيه الكاتب الى زمن طفولته في الحبانية في العراق، يرسم طرقاتها وأحياءها، بأسماء ناسها وأعمالهم وعلاقاتهم الاجتماعية. كانت بيئة منسجمة ومتآخية، رغم اختلاف أصولهم ومشاربهم. نصرت شاه، الشيعي الإيراني، الذي جاء والده تاجرا عبر الجبال واستقر هناك. رفيق الهندي الذي كان هندي الأصل، والذي جاء والده مع الجيش الإنكليزي إلى العراق.أما شاكر الهندي فلم يكن هنديا، هو فقط الاسم وقد جاء من منطقة الحدود السورية، وكان بائع خضار، ودائم ترداد لازمته “منذ انسحاب الإنكليز لا أحد يأتي لشراء الفاكهة”.
وهو يتحدث في مذكراته عن زمنٍ آخر. الآشوري والسني والشيعي معظمهم كانوا أخوة في الرضاعة . وكثيرا ما كانت جورجيا والدة صموئيل ترسل ابنها الى سكينة زوجة نصرت شاه لترقيه وترد عنه العين. وتلك المرأة هي التي علّمت، لاحقا، صموئيل قراءة آية الكرسي ليتلوها أثناء عبوره المقبرة، ليختصر الطريق إلى مدرسته ولتكون تلك الآية رقية تحجب عنه الشرّ.
يكاد القاريء أن يسمع ثرثرات النسوة أثناء اجتماعهم على صنبور المياه العام لغسل الأواني، وموضوعات أحاديثهنّ… العنوسة، غيرة النسوة، أخبار الحب….كلها مادة شيقة للثرثرة ينقلها الكاتب بأمانة حتى تخال نفسك، بأنك قد خبرت تلك الحياة.
المذبحة
كان الإعصار الأول ألذي ضرب تلك البيئة الهادئة، هو المذبحة التي ارتكبها الأكراد بحق الآشوريين. فتفرق أبناء الأسرة الواحدة، وهاجر قسم كبير منهم إلى مناطق الجوار. هنا يسلّط الروائي أضواءً على صفحات مغيّبة من تاريخ أخوتنا الأكراد. أنهم لم يكونوا دائما ضحايا. كانوا أيضا جلادين ويشهد التاريخ على دمويتهم وإبادتهم لمسيحيي شمال العراق. وصموئيل يتناول بالوصف الدقيق ما حدث له. ولاهله. ولأبناء جلدته على يد هؤلاء الأكراد. الوصف الحي للمجزرة بأدواتها من الفؤوس والبلطات، والوجوه المقنّعة، لا تختلف عما بدأت تنقله شاشات الفضائيات من مذابح في أماكن مختلفة من العالم. تراكض النسوة، تقافز الأطفال من النوافذ، صراخ.. عويل..غبار… لينجلي المشهد عن آلاف الجثث. السيرجنت ميشيل، الذي أنقذ حياة صموئيل، أخبرهم بأن الانكليز كانوا على علم بأن الأكراد، سوف يقومون بذبح الآشوريين في أية لحظة، ولكنهم غير قادرين على فعل شيء ما. وحين يسأل صموئيل قرياقوز:
“ماذا يعني مذبحة؟”
“هي بالضبط ما يفعله الجزارون مع الخراف.”
بعد المجزرة يقول قرياقوز لصموئيل:
“أنا الآن أصبحت يتيما مثل آلاف غيري من الآشوريين. هذا كله جزء من الماضي، فلا تعره اهتمامك، لأننا كلنا في النهاية ضحايا التخلف. وماذا يعني التخلف؟ عندما يفكر الإنسان مثل الخراف، هذا يعني انه متخلف.
مواسم الهجرة
بعد هذا الإعصار ازدهرت مواسم الهجرة عبر تركيا. مشاكل الهجرة، وإعادة المهاجرين الذين تفشل محاولاتهم، وحكايا الرحيل، كلها ذكريات تختزنها ذاكرة الكاتب، الذي ارتحل الى الرمادي، ليعيش في كنف عائلة هناك مدة ثلاث سنوات، قبل ان يعود باحثا عن أهله.
الجيش المصري
تصحو الحبانية على هتاف
“أين عكا؟
عكا هي مدينتي.
أين حيفا؟
حبفا هي مدينتي”
انها تظاهرة للكوماندوس المصري الذي جاء للتدريب في معسكرات الحبانية، والانطلاق نحو فلسطين لتحريرها.
فرض المصريون حضورهم بعرض الأفلام المصرية في الهواء الطلق، حتى شاعت اللهجة المصرية لسلاستها سيما بين الشباب. المشاكل الاجتماعية التي نشأت نتيجة وجود هؤلاء الجنود، وجدت مكانها في ذاكرة الكاتب، وها هو الخوري،مثلا، يزور جاكلين في بيتها واعظا وهاديا، بعد أن شاعت علاقتها بأحد الجنود.
الصحوة العربية
صيف 1968 كان صيفا حاسما في حياة الكثيرين من أهل الحبانية، حيث هاجر معظمهم الى الخارج، على أثر الانقلاب الذي فرض حظر التجول. قرأ قرياقوز خبرا مرعبا في الصحف: “العراق سوف يتغير كلّيا. الحكومة الجديدة لا تؤمن إلا بالقومية العربية”.
يختم الكاتب روايته بسرد أخبار العائلة وما حل بها، وحين زار أمريكا لأول مرة بعد قرابة الخمسين سنة، استقبلته أمه التي سبقته لزيارة ابنها قائلة لقد تأخرت كثيرا في الوصول إلى أمريكا.
الرواية تؤرّخ لحقبة نصف قرن من المعاناة والآلام، تجاوزها الكاتب بأسلوبه الساخر المحمل بمرارة التجربة. تستدرجك القراءة بسلاسة السرد وحيث يغلف الألم بسخرية تترك عند القارىء ارتباكا وتشوشا في مشاعره.
عراقي في باريس هي العمل الروائي الأول للشاعر والقصاص العراقي صموئيل شمعون. هذه الرواية تدخل فنيا ضمن اطار ما تعارف عليه باسم “رواية السيرة الذاتية”. فبعد مسيرته الفنية في الشعر والقصة القصيرة تمخض إبداعه الفني عن هذا العمل الروائي المتميّز حقّاً، حيث أن هناك محطات في حياة المبدع لا يستطيع الشعر ولا القصة القصيرة أن تعبر عنها. لأن بانوراما الحياة والتجوّل في ثناياها المتنوعة، إنما يدخل ضمن قدرات الفن الروائي، لذلك يعتبر العديد من النقاد، أن الرواية هي وريثة كل فنون الإبداع بمعنى أنها الفن القادر على التعبير عن كافة جوانب الحياة التي يمكن للشعر أن يعبر عن ناحية منها، والقصة القصيرة عن ناحية ثانية والمسرحية عن ناحية ثالثة. ضمن هذا الإطار الفني لحدود الإبداع تقدم رواية “عراقي في باريس” كسيرة ذاتية للمبدع، جوانب من عذابات المنفى التي عاشها الكاتب عبر محطات عدة….
أعتقد أن هذه الرواية سوف تأخذ مكانتها الأدبية ضمن رواية السيرة الذاتية، خاصة وأن العديد من القراء وتحديدا العرب، سوف يجدون فيها لقطات من حياتهم، خاصة وأن تجربة المنفى قد أصبحت شائعة في حياة شعوب عربية، العراقي والفلسطيني. لذا أرى كم انه من المهم أن تنقل هذه الرواية الى اللغة العربية كي يرى الكثير من المثقفين العرب، حياتهم في المنفى معبرا عنها بشكل روائي. ولا أبالغ اذا قلت أنه عندئذ سيشعر بعض القراء أن هذه هي سيرتهم الذاتية، وليست سيرة صموئيل شمعون وأنّ الكاتب روائي من عيار يتجاوز أفق أمة العرب بكثير….
Albakir8@hotmail.com
روائية فلسطينية من لبنان
عذابات المنفى في رواية “عراقي في باريس”صموئيل شمعون من أكثر المواهب الروائية العربية صدقا وأصاله. فهو يأخذ قارئه في رحلة ممتعة يستشعر المرء فيها أجواء الف ليله وليله .. لكنها قصص من الواقع عن معاناة بشر أرادوا الحياة فأبت الأديان والأيديولوجيات والمصالح المتضاربة ألا أن يكتووا بنارها. والمعاناة التي يشرّحها بأسلوبه الرائع تشير الى تاريخ بشرحقيقيين والى أحداث تاريخية في تاريخ العراق والشرق الأوسط. و يخلو كتابه من أي طابع للتكلّف والتملّق والبلاغة العربية الخادعة. أنه شاهد صادق على عصرة وصوت صارخ بأسم آلام أنسان شرقنا المتوسط . أسلوبه السهل الممتنع يفتن القاريء. أنه أسلوب عبقري يذكّر ببساطة وعمق وشاعرية… قراءة المزيد ..