**
كرّم الشيخ جمال البنّا “الشفّاف” بالصفحات التالية التي سيضمّها كتاب له سيصدر قريباً. وسيكون عنوان الكتاب “قضية القبلات وبقية الاجتهادات”.
**
أهالوا علينا الاتهامات، وقالوا إننا ندعو للزنا والتحلل متأثرين بالفهم الخاطئ والعادات والتقاليد.. الخ.. واعتقدوا أن ما نقوله مخالف للقرآن الكريم.
حسناً، تعالوا إذن نقرأ ما قال كبار المفسرين (الطبري والقرطبي وابن كثير والبغوي وسيد قطب) في تفسير «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» (النجم: 32)، كنت مشفقاً أن أعلن هذا لأنه يفوق بكثير ما أعلناه، ولكن تعصبات الحمقى والأدعياء تجعلني أنقل حرفيًا ما قالوه.
فهل يمكن أن ينقلوا اللعنات التي أنهالوا بها على جمال البنا.. على (الطبري وابن كثير والبغوي والقرطبي وسيد قطب)؟!
قال الطبري وهو شيخ المفسرين في تفسيره:
وجاء في تفسير الطبري
في تأويل قوله تعالى “ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى” يقول تعالى ذكره هذا الذي يقوله هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة في الملائكة من تسميتهم إياها تسمية الأنثى مبلغهم من العلم يقول ليس لهم علم إلا هذا الكفر بالله والشرك به على وجه الظن بغير يقين علم، وكان ابن زيد يقول في ذلك ما حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم قال يقول ليس لهم علم إلا الذي هم فيه من الكفر برسول الله ومكايدتهم لما جاء من عند الله قال وهؤلاء أهل الشرك وقوله إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى يقول تعالى ذكره إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن طريقه في سابق علمه فلا يؤمن وذلك الطريق هو الإسلام وهو أعلم بمن اهتدى يقول وربك أعلم بمن أصاب طريقه فسلكه في سابق علمه وذلك الطريق أيضًا الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى “وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ”، يقول تعالى ذكره ولله ملك ما في السموات وما في الأرض من شيء وهو يضل من يشاء وهو أعلم بهم ليجزي الذين أساؤا بما عملوا يقول ليجزي الذين عصوه من خلقه فأساؤا بمعصيتهم إياه فيثيبهم بها النار ويجزي الذين أجسنوا بالحسنى يقول وليجزي الذين أطاعوه فأحسنوا بطاعتهم إياه في الدنيا بالحسنى وهي الجنة فيثيبهم بها وقيل عني بذلك أهل الشرك والإيمان ذكر من قال ذلك حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عبد الله بن عياش قال قال زيد بن أسلم في قول الله ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا المؤمنون وقوله الذين يجتنبون كبائر الإثم يقول الذين يبتعدون عن كبائر الإثم التي نهى الله عنها وحرمها عليهم فلا يقربونها وذلك الشرك بالله وما قد بيناه في قوله أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم وقوله والفواحش وهي الزنا وما أشبهه مما أوجب الله فيه حدًا وقوله إلا اللمم.
اختلف أهل التأويل في معنى إلا في هذا الموضع فقال بعضهم هي بمعنى الاستثناء المنقطع وقالوا معنى الكلام الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحس إلا اللم الذي ألموا به من الإثم والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام فإن الله قد عفا لهم عنه فلا يؤاخذهم به ذكر من قال ذلك حدثني علي قال ثنا أبو صالح قال ثنى معاوية عن علي عن ابن عباس قوله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال المشركون إنما كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله عز وجل اللمم ما كان منهم في الجاهلية قال واللمم الذي ألموا به من تلك الكبائر والفواحش في الجاهلية قبل الإسلام وغفر لهم حين أسلموا حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن ابن عياش عن ابن عون عن محمد قال سأل رجل زيد بن ثابت عن هذه الآية “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال إلا اللمم قال كبائر الشرك والفواحش الزنا تركوا ذلك حين دخلوا في الإسلام فغفر الله لهم ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الإسلام.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب ممن يوجه تأويل إلا في هذا الموضع إلى هذا الوجه الذي ذكرته عن ابن عباس يقول في تأويل ذلك لم يؤذن لهم في اللمم وليس هو من الفواحش ولا من كبائر الإثم وقد يستثنى الشيء من الشيء وليس منه على ضمير قد كف عنه فمجازه إلا أن يلم بشيء ليس من الفواحش ولا من الكبائر قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس
واليعافير الظباء والعيس الإبل وليسا من الناس فكأنه قال ليس به أنيس غير أن به ظباء وابلاً وقال بعضهم اليعفور من الظباء الأحمر والأعيس الأبيض، وقال بنحو هذا القول جماعة من أهل التأويل ذكر من قال ذلك، حدثني محمد بن عبد الأعلى قال ثنا محمد بن ثور عن معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال زنا العينين النظر وزنا الشفتين التقبيل وزنا اليدين البطش وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج ويكذبه فإن تقدم بفرجه كان زانيًا وإلا فهو اللمم، حدثنا ابن عبد الأعلى قال ثنا ابن ثور عن معمر قال وأخبرنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي أن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، حدثني أبو السائب قال ثنا أو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق في قوله إلا اللمم قال إن تقدم كان زنا وإن تأخر كان لممًا، حدثني يعقوب ابن إبراهيم قال ثنا ابن علية قال ثنا منصور بن عبد الرحمن قال سألت الشعبي عن قول الله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا.
وقال آخرون بل ذلك استثناء صحيح ومعنى الكلام الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” إلا أن يلم بها ثم يتوب ذكر من قال ذلك، حدثني سليمان بن عبد الجبار قال ثنا أبو عاصم قال أخبرنا زكريا بن إسحق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب قال وقال رسول الله :
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
حدثنا ابن المثنى قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الآية إلا اللمم قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه وقال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيغ قال ثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة أراه رفعه في “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فتلك الالمام، حدثنا ابن بشار قال ثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قول الله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال اللمة من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود، حدثني يعقوب قال ثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قول الله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال اللمة من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود. حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قوله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال قد كان أصحاب النبي يقولون هذا الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيخفيها فيتوب منها حدثنا ابن حميد قال ثنا مهران عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس إلا اللم يلم بها في الحين قلت الزنا قال الزنا ثم يتوب حدثنا ابن عبد الأعلى قال ابن ثورة قال قال معمر كان الحسن يقول في اللمم تكون اللمة من الرجل بالفاحشة ثم يتوب حدثنا ابن حميد قال ثنا مهران عن سفيان عن إسماعيل عن أب صالح قال الزنا ثم يتوب.
قال ثنا مهران عن أبي جعفر عن قتادة عن الحسن إلا اللمم قال أن يقع الوقعة ثم ينتهي حدثنا أبو كريب قال ثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال اللمم الذي تلم المرة حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد قال أخبرني يحيى بن أيوب عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال اللمم ما دون الشرك حدثنا ابن بشار قال ثنا أبو عامر قال ثنا مرة عن عبد الله بن القاسم في قوله إلا اللمم قال اللمة يلم بها من الذنوب حدثنا ابن حميد قال ثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قوله إلا اللمم قال الرجل يلم بالذنب ثم ينزع عنه قال وكأن أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وقال آخرون ممن وجه معنى إلا إلى الاستثناء المنقطع اللمم هو دون حد الدنيا وحد الآخرة قد تجاوز الله عنه ذكر من قال ذلك.
حدثنا ابن حميد قال ثنا مهران عن سفيان عن جابر عن عطاء عن ابن الزبير إلا اللمم قال ما بين الحدين حد الدنيا وعذاب الآخرة.
حدثنا ابن المثنى قال ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن الحكم عن ابن عباس أنه قال اللمم ما دون الحدين حد الدنيا والآخرة.
حدثنا ابن المثنى قال ثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن الحكم وقتادة عن ابن عباس بمثله إلا أنه قال حد الدنيا وحد الآخرة.
حدثني يعقوب قال ثنا ابن علية قال أخبرنا شعبة عن الحكم بن عتيبة قال قال ابن عباس اللمم ما دون الحدين حد الدنيا وحد الآخرة.
حدثني محمد بن سعد قال ثني أبي قال ثني عمي قال ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” قال كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة تكفره الصلوات وهو اللمم وهو دون كل موجب فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وآخر عقوبته إلى الآخرة.
حدثنا ابن حميد قال ثنا يحيى قال ثنا الحسين عن يزيد عن عكرمة في قوله إلا اللمم يقول ما بين الحدين كل ذنب ليس فيه حد في الدنيا ولا عذاب في الآخرة فهو اللم.
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة قوله “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” واللمم ما كان بين الحدين لم يبلغ حد الدنيا ولا حد الآخرة موجبة قد أوجب الله لأهلها النار أو فاحشة يقام عليه الحد في الدنيا.
وحدثنا ابن حميد قال ثنا مهران عن أبي جعفر عن قتادة قال قال بعضهم اللمم ما بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة.
حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس قال اللمم ما بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة.
حدثنا ابن حميد قال ثنا مهران عن سفيان قال قال الضحاك إلا اللمم قال كل شيء بين حد الدنيا والآخرة فهو اللمم يغفره الله.
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال إلا بمعنى الاستثناء المنقطع ووجه معنى الكلام إلى “الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ” بما دون كبائر الإثم ودون الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا والعذاب في الآخرة فإن ذلك عندي نظير قوله جل ثناؤه “إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً” فوعد جل ثناؤه باجتناب الكبائر العفو عما دونها من السيئات وهو اللمم الذي قال النبي العينان تزينان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك الفرج ويكذبه وذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج يجب وذلك هو العفو من الله في الدنيا عن عقوبة العبد عليه والله جل ثناؤه وأكرم من أن يعود فيما قد عفا عنه كما روي عن النبي واللمم في كلام العرب المقاربة للشيء ذكر الفراء أنه سمع العرب تقول ضربة ما لمم القتل يريدون ضربًا مقاربا للقتل قال وسمعت من آخر ألم يفعل في معنى كاد يفعل.
القول في تأويل في قوله تعالى “إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اتَّقَى”، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد إن ربك يا محمد واسع المغفرة عفوه للمذنبين الذين لم تبلغ ذنوبهم الفواحش وكبائر الإثم وإنما أعلم جل ثناؤه بقوله هذا عباده أنه يغفر اللم بما وصفتا من الذنوب لمن اجتنب كبائر الإثم والفواحش.
كما حدثنا يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قالق ابن زيد في قوله “إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ” يقول تعالى ذكره ربكم أعلم بالؤمن منكم من الكافر والمحسن منكم من المسيئ والمطيع من العاص حين ابتدعكم من فأحدثكم منها بخلق أبيكم آدم منها وحين أنتم أجنة في بطون أمهاتكم يقول وحين أنتم حمل لم تولدوا (!) منكم وأنفسكم بعدما صرتم رجالاً ونساءً وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ذكر من قال ذلك.
حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم قال ثنا عيسى وحدثني الحرث قال ثنا الحسن قال ثنا ورقاء جميعًا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض قال منحو قوله وهو أعلم بالمهتدين.
وحدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قوله إذ أنشأكم من الأرض قال حين خلق آدم من الأرض ثم خلقكم من آدم وقرأوا وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم وقد بينا فيما مضى قبل معنى الجنين ولم قيل له جنين بما أغني عن إعادته في هذا الموضع وقوله فلا تزكوا أنفسكم يقول جل ثناؤه فلا تشهدوا لأنفسكم بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصي.
كما حدثنا ابن حميد قال ثنا مهران عن سفيان قال سمعت زيد بن أسلم يقول فلا تزكوا أنفسكم يقول فلا تبرؤها وقوله هو أعلم بمن أتقى يقول جل ثناؤه ربك يا محمد أعلم بمن خاف عقوبة الله فاجتنب معاصيه من عباده.
القول في تأويل قوله تعالى “أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى” يقول تعالى ذكره أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله وأعرض عنه وعن دينه وأعطى صاحبه قليلاً من ماله ثم منعه فلم يعطه فبخل عليه وذكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين وكان قد اتبع رسول الله على دينه فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئاً من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة ففعل فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ثم بخل عليه ومنه تمام.
وجاء في تفسير الحافظ بن كثير
(الجزء الثامن، الطبعة الأولى، المنار سنة 1347، ص 114 ــ 116)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وإنه الغني عما سواه الحاكم في خلقه بالعدل وخلق الخلق بالحق «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى»، أي يجازي كلا بعمله إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشرًا.
ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر وإن وقع منهم بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم، كما قال في الآية الأخرى «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً»، وقال ههنا «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ»، وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال.
قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق معمر بن أرطأه عن بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي قال (إن الله تعالى كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد الرزاق به.
وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الأعلى أخبرنا ابن ثور حدثنا معمر عن الأعمش عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العينين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زانيًا وإلا فهو اللمم، وكذا قال مسروق والشعبي وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي قال سألت أبا هريرة عن قول الله «إِلاَّ اللَّمَمَ» قال القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة فإذا مس الختان الختان، فقد وجب الغسل وهو الزنا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إلا اللمم إلا ما سلف وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور عن مجاهد أنه قال في هذه الآية «إِلاَّ اللَّمَمَ» قال الذي يلم بالذنب ثم يدعه قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: «إِلاَّ اللَّمَمَ» قال الرجل يلم بالذنب ثم ينتزع عنه قال وكان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت وهم يقولون:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعًا قال ابن جرير حدثني سليمان بن عبد الجبار حدثنا أبو عاصم حدثنا زكريا بن إسحاق عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس «إالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» قال هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال قال رسول الله :
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان أي عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل ثم ثال هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق وكذا قال البزار لا نعلمه يروي متصلاً إلا من هذا الوجه وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة تنزيل وفي صحته مرفوعًا نظر.
ثم قال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا يونس عن الحسن عن أبي هريرة أراه رفعه في «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» قال اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود قال فذلك الإلمام.
وحدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن في قوله تعالى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» قال اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود.
وحدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن أبي رجاء عن الحسن في قول «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» قال كان أصحاب رسول الله يقولون هو الرجل يصيب اللمة من الزنا واللمة من شرب الخمر فيجتنبها ويتوب منها.
وقال ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس «إِلاَّ اللَّمَمَ» يلم بها في الحين قلت الزنا؟ قال الزنا ثم يتوب وقال ابن جرير أيضًا حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس قال اللمم الذي يلم المرة، وقال السدي قال أبو صالح سئلت عن اللمم فقلت هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب وأخبرت بذلك ابن عباس فقال لقد أعانك عليها ملك كريم، حكاه البغوي.
وروي ابن جرير من طريق المثنى بن الصباح وهو ضعيف عن عمرو بن شعيب أن عبد الله بن عمرو قال اللمم ما دون الشرك، وقال سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن عطاء عن ابن الزبير «إِلاَّ اللَّمَمَ» قال ما بين الحدين حد الزنا وعذاب الآخرة، وكذا رواه شعبة عن الحكم عن ابن عباس مثله سواء، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله «إِلاَّ اللَّمَمَ» كل شيء بين الحدين حد الدنيا وحد الآخرة تكفره الصلوات فهو اللمم وهو دون كل موجب فأما حد الدنيا فكل حد فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وآخر عقوبته إلى الآخرة، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك.
وقوله تعالى «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» أي رحمته وسعت كل شيء ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب كقوله تعالى «قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
وقوله تعالى «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ» أي هو بصير بكم عليم بأحوالكم وأفعالكم وأقوالكم التي ستصدر عنكم وتقع منكم حين أنشأ أباكم آدم من الأرض واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ثم قسمهم فريقين للجنة وفريقاً للسعير وكذا قوله «وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ»، قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد؟
وجاء في تفسير البغوي الذي طبع أسفل تاريخ ابن كثير
«وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى» وحدوا ربهم بالحسنى بالجنة وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسئ إذا كان كبير الملك ولذلك قال «وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ» ثم وصفهم فقال «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» اختلفوا في معنى الآية فقال قوم هذا استثناء صحيح واللمم من الكبائر والفواحس، ومعنى الآية إلا أن يلم بالفاحشة مرة ثم يتوب ويقع الوقعة ثم ينتهي وهو قول أبي هريرة ومجاهد والحسن ورواية عطاء عن ابن عباس، قال عبد الله بن عمرو بن العاص اللمم ما دون الشرك وقال السدي قال أبو صالح سئلت عن قول الله تعالى إلا اللمم فقلت هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاوده فذكرت ذلك لابن عباس فقال لقد أعانك عليها ملك كريم وروينا عن عطاء عن ابن عباس في قوله إلا اللمم قال قال رسول الله :
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وأصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان الحين بعد الحين ولا يكون له عادة ولا إقامة عليه، وقال آخرون هذا استثناء منقطع مجازه لكن اللمم ولم يجعلوا اللمم من الكبائر والفواحش ثم اختلفوا في معناه فقال بعضهم هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم الله به وذلك إن المشركين قالوا للمسلمين أنهم كانوا بالأمس يعملون معنا فأنزل الله هذه الآية وهذا قول زيد بن ثابت وزيد بن أسلم وقال بعضهم هو صغار الذنوب كالنظرة والغمزة والقبلة وما كان دون الزنا وهذا قول ابن مسعود وأبي هريرة ومسروق والشعبي ورواية طاوس عن ابن عباس.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا محمود بن غيلان أنا عبد الرازق أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال ما رأيت أشبه باللمم مما قاله أبو هريرة عن النبي (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك ويكذبه) ورواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي وزاد (والعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطى).
وقال الكلبي اللمم على وجهين كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة فذلك الذي تكفره الصلوات ما لم يبلغ الكبائر والفواحش والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به المسلم المرة بعد المرة فيتوب منه، وقال سعيد بن المسيب هو ما لم على القلب أي خطر، وقال الحسين بن الفضل اللمم النظرة من غير تعمد فهو مغفور فإن أعاد النظرة فليس بلمم وهو ذنب «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» قال ابن عباس لمن فعل ذلك وتاب تم الكلام ههنا ثم قال «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ» أي خلق أباكم آدم من التراب « » جمع جنين.
وقال القرطبي (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي):
في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن)
طبع دار الكتب المصرية 1367 هـ / 1948م
لام العاقبة، أي ولله ما في السموات وما في الأرض؛ أي وعاقبة أمر الخلق أن يكون فيهم مسيئ ومحسن: فللمسيئ السوءى وللمحسن الحسنى وهي الجنة.
قوله تعالى: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ»، فيه ثلاث مسائل:
الأولى: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ»، هذا نعت للمحسنين ؛ أي هم لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك ؛ لأنه أكبر الآثام، وقرأ الأعمس ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي (كـََبـِـيرَ) على التوحيد وفسره ابن عباس بالشرك، «وَالْفَوَاحِشَ» الزنى، وقال مقاتل: كَبَائِرَ الإِثْمِ» كل ذنب ختم بالنار “وَالْفَوَاحِشَ” كل ذنب فيه الحد، وقد مضى في “النساء” (راجع جـ 5، ص 158، فما بعدها، طبعة أولى أو ثانية)، القول في هذا، ثم استثنى استثناء منقطعا وهي:
المسئلة الثانية: فقال: «إِلاَّ اللَّمَمَ» وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه، وقد اختلف في معناها، فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي: «اللَّمَمَ» كل ما دون الزنى، وذكر مقاتل بن سليمان: أن هذه الاية نزلت في رجل كان يسمى نبهان التمار، كان له حانوت يبيع فيه تمرًا، فجاءته امرأة تشتري منه تمرًا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها فأبت وانصرفت فندم نبهان، فأتى رسول الله فقال: يا رسول الله ! ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته إلا الجمــاع، فقال: “لعل زوجها غازٍ” فنزلت هذه الآية، وقد مضى في آخر “هود” وكذلك قال ابن مسعود وابو سعيد الخدري وحذيفة ومسروق: إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة، وروي مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: زنى العينين النظر، وزنى اليدين البطش، وزنى الرجلين المشي، وإنما يصدق ذلك أو يكذبه الفرج، فإن تقدم كان زنى وإن تأخر كان لممًا، وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللممم مما قال ابو هريرة أن النبي قال: ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه )، والمعنى إن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدينا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم ــ والله أعلم ــ وفي رواية أبي صالح عن النبي قال (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذبك لا محالة فالعينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زنا الخطا والقلب يهوي ويتمنى ويصدق ذلك الفرج ويكذبه) (أخرجه مسلم)، وقد ذكر الثغلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر فيه الأذن واليد والرجل، وزاد فيه بعد العينين واللسان، وزنى الشفتين القبلة، فهذا قول، وقال ابن عباس أيضًا: هو الرجل يلم بذنب ثم يتوب، قال: ألم تسمع النبي كان يقول:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
رواه عمرو بن دينار عن عطاء بن عباس (روي هذا الحديث الترمذي بهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن غريب، والبيت لأمية بن الصلت قاله عند احتضاره) قال النحاس: هذا أصح ما قيل فيه وأجلها إسنادًا، وروي شعبة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله عز وجل «إِلاَّ اللَّمَمَ»، قال: هو أن يلم العبد بالذنب ثم لا يعاوده، قال الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وكذا قال مجاهد والحسن: هو الذي يأتي الذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري، قال: اللمم أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أو يشرب ثم يتوب فلا يعود، ودليل هذا التأويل قوله تعالى: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ» (آل عمران: 135)، ثم قال: «أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ»، كما قال عقيب اللمم: «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ»، فعلى هذا التأويل يكون «إِلاَّ اللَّمَمَ» استثناء متصل، قال عبد الله بن عمرو بن العاص: اللمم ما دون الشرك، وقيل: اللمم الذنب بين الحدين وهو ما لم يأت عليه حد في الدنيا، ولا توعد عليه بعذاب في الآخرة تكفره الصلوات الخمس، قاله ابن زيد وعكرمة والضحاك وقتادة، ورواه العوفي والحكم بن عيينة عن ابن عباس، وقال الكلبي: اللمم على وجهين كل ذنب لم يذكر الله عليه حدًا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه، وعن ابن عباس أيضًا وابي هريرة وزيد بن ثابت: هو ما سلف في الجاهلية فلا يؤاخذهم به، وذلك أن المشركين قالوا للمسلمين: إنما كنتم بالأمس تعملون معنا فنزلت، وقاله زيد بن أسلم و (ابنه) (في الأصل: وأبوه، وما أثبتناه يوافق ما في تفسير أبي حيان والطبري)، وهو كقوله تعالى: «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ»، وقيل: اللمم هو أن يأتي بذنب لم يكن له بعادة، قاله نفطويه، قال: والعرب تقول ما يأتينا إلا لمامًا، أي في الحين بعد الحين، قال: ولا يكون أن يلم ولا يفعل ؛ لأن العرب لا تقول ألم بنا إلا إذا فعل الإنسان لا إذا هم ولم يفعله، وفي الصحاح: وألم الرجل من اللمم وهو صغائر الذنوب، ويقال: هو مقاربة المعصية من غير مواقعة، وأنشد غير الجوهري:
بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب وقل إنْ تملينا فما ملك القلب
أي أقرب، وقال عطاء بن أبي رباح: اللمم عادة النفس الحين بعد الحين، وقال سعيد بن المسيب: هو ما ألم على القلب، أي خطر، وقال محمد بن الحنفية: كل ما هممت به من خير أو شر فهم لمم، ودليل هذا التأويل قوله عليه الصلاة والسلام: (إن للشيطان لمة وللملك لمة) الحديث، وقد مضى في “البقرة” (راجع جـ 3، ص 329، طبعة أولى أو ثانية)، عند قوله تعالى «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ»، وقال أبو إسحق الزجاج: أصل اللمم والإلمام ما يعمله الإنسان المرة بعد المرة ولا يتعمق فيه، ولا يقيم عليه، يقال: ألممت به إذا زرته وانصرفت عنه، ويقال: ما فعلته إلا لمما وإلمامًا، أي الحين بعد الحين وإنما زيارتك إلمام، ومنه إلمام الخيال، قال الأعشي:
ألم خيال من قتيـــــلة بعد ما وهي حبلها من حبلنا فتصرما
وقيل: إلا بمعنى الواد وأنكر هذا الفراء، وقال: المعنى إلا المتقارب من صغار الذنوب، وقيل: اللمم النظرة التي تكون فجأة.
قلت: هذا فيه بعد إذ هو معفو عنه ابتداء غير مؤاخذ به؛ لأنه يقع من غير قصد واختيار وقد مضى في “النور” (راجع جـ 12، ص 227، طبعة أولى أو ثانية)، بيانه، واللمم أيضًا طرف من الجنون ورجل ملموم أي به لمم، ويقال أيضًا: أصابت فلاناً لمة من الجن وهي المس والشيء القليل، قال الشاعر:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن إلا كلمة حالم بخيــــــــال
(ابن مقبل، والواو في ذلك زائدة كقول أبي كبير الهذلي:
فإذا وذلك ليس إلا حينــــه وإذا مضى شيء كأن لم يفعل)
الثالثة: قوله تعالى «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» لمن تاب من ذنبه واستغفر، قاله ابن عباس، وقال أبو ميسرة بن شرحبيل وكان من أفاضل أصحاب ابن مسعود رايت في المنام كأني أدخلت الجنة فإذا قباب مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقالوا: لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قتل بعضهم بعضًا، فقلت: وكيف ذلك؟ فقالوا: إنهما لقيا الله فوجداه واسع المغفرة، فقال ابو خالد: بلغني أن ذا الكلاع أعتق اثنى عشر ألف بنت.
قوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ» من أنفسكم «إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ» يعني أباكم آدم من الطين وخرج اللفظ على الجمع، قال الترمذي أبو عبد الله: وليس هو كذلك عندنا، بل وقع الإنشاء على التربة التي رفعت من الأرض، وكنا جميعًا في تلك التربة وفي تلك الطينة، ثم خرجت من الطينة المياه إلى الأصلاب مع ذرة النفوس على اختلاف هيئتها، ثم استخرجها من صلبها على اختلاف الهيئات، منهم كالدر يتلألأ، وبعضهم أنور من بعض، وبعضهم أسود كالحممة، وبعضهم أشد سوادًا من بعض، فكان الإنشاء واقعًا علينا وعليه.
وقال سيد قطب (في ظلال القرآن):
الجزء السابع والعشرون ــ الطبعة الأولى
” الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ”.
وكبائر الإثم هي كبار المعاصي، والفواحش كل ما عظم من الذنب وفحش، واللمم تختلف الأقوال فيه، فابن كثير يقول: وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغار الذنوب ومحقرات الأعمال، قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرازق، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة، عن النبي قال: “إن الله تعالى إذا كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه” (أخرجه في الصحيحين من حديث عبد الرازق).
وقال ابن جريـر: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن ثـور، حدثنا معمر، عن الأعمش، عن أبي الضحى أن ابن مسعود قال: زنا العين النظر، وزنا الشفتين التقبيل، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين المشي، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زتنيًا، وإلا فهو اللمم، وكذا قال مسروق والشعبي.
وقال عبد الرحمن بن نافع الذي يقال له ابن لبابة الطائفي، قال: سألت ابا هريرة عن قول الله: «إِلاَّ اللَّمَمَ»، قال: القبلة والنظرة والغمزة والمباشرة، فإذا مس الختان الختام فقد وجب الغسل، وهو الزنا.
فهذه اقوال متقاربة في تعريف «اللَّمَمَ».
وهناك أقوال أخرى:
قال علي بن طلحة عن ابن عباس: «إِلاَّ اللَّمَمَ» إلا ما سلف، وكذا قال زيد ابن أسلم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن المثني، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن منصور، عن مجاهد، أنه قال في هذه الآية: «إِلاَّ اللَّمَمَ»، قال: الذي يلم بالذنب ثم يدعه.
وقال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار، حدثنا أبو عاصم، حدثنا زكريا عن ابن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ».. قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب، وقال: قال رسول الله :
إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبـــــد لك ما ألما؟
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن عثمان البصري عن أبي عاصم النبيل، ثم قال: هذا حديث صحيح حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق، وكذا قال البزار لا نعلمه يروي متصلاً إلا من هذا الوجه.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيع، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي هريرة (أراه رفعه) في ” الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ “، قال: اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، قال: فذلك الإلمام، وروي مثل هذا موقوفا على الحسن.
فهذه طائفة أخرى من الأقوال تحدد معنى اللمم تحديدًا غير الأول.
والذي نراه أن هذا القول الأخير أكثر تناسبًا مع قوله تعالى بعد ذلك: ” إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ “، فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش، ثم التوبة، ويكون الاستثناء غير منقطع، ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إلا أن يقعوا في شيء منها ثم يعودوا سريعًا ولا يلجوا ولا يصروا، كما قال الله: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (آل عمران: 133ــ136)، وسمى هؤلاء “المتقين” ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض، فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة.
وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوءى وبالحسنى مستند إلى علم الله بحقيقة دخائل الناس في أطوارهم كلها.
«هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ».
فهو العلم السابق على ظاهر أعمالهم، العلم المتعلق بحقيقتهم الثابتة، التي لا يعلمونها هم، ولا يعرفها إلا الذي خلقهم، علم كان وهو ينشئ أصلهم من الأرض وهم بعد في عالم الغيب، وكان وهم أجنة في بطون أمهاتهم لم يروا النور بعد، علم بالحقيقة قبل الظاهر، وبالطبيعة قبل العمل.
هذا هو ما قاله المفسرون في تفسير اللمم، وهو يجاوز ويفوق ما قالوه.. فهل يستطيعوا أن ينقلوا اللعنات التي انهالوا بها علينا إلى هؤلاء المفسرين الأجلاء.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة
مواضيع ذات صلة:
جمال البنّا يردّ على “العربية”: “لم أتراجع عما قلته”
وسأصدر كتابًا بعنوان “قضية القبلات وبقية الاجتهادات” أعرض فيه اجتهاداتنا ومبرراتها
ماذا قال المفسرون عن “اللمم”؟ حسام ابوالدهب — thegoldenboy_8@yahoo.com الا اللمم يعنى ما صغر من الذنوب (قد) يقع فيها الانسان ثم يتوب عنها (توبه صادقه) هذا هوالتفسير انما الى عايز يدور هنا ويخترع هنا ويفسر قول المفسرين على مزاجه مصيره معروف ولنفترض انى دى مثلا شبه وقعنا فيها مش المفروض اننا نجتنبها (عن أبي عبد الله النعـمان بن بشير رضي الله عـنهما قـال: سمعـت رسـول الله صلي الله عـليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحـرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام كـالراعي… قراءة المزيد ..
ما بك يا كافر؟
الى الكافر جمال البنا , لعنه الله عليك في الدنيا و الاخره .
ماذا قال المفسرون عن “اللمم”؟ اللمم/ الى سيدي الفحل علما وفقها واجتهادا ومعرفة وتنورا واستنارة المجتهد جمال ألبنا :أتابع يا سيدي ما يسطر قلمكم الفذ وانا على يقين أنك ستلقى من العنت والتعب والمكابدة فتلك جائزة المبدعين والتنويريين ولنا في كتب التاريخ عبر في جميع الأمم فقد اعتاد الناس على الدعة لما ألفوا حتى ولوكان في الجديد نفعا كبيرا لهم أو كان ماهم عليه مجانب للصواب وكما قيل الناس أعداء لما جهلوا. أنت ياسيدي فوق ثنائي وليس هذا تعقيبا على ما كتبت ولكن تسجيل حالة ملموسة تدلل على صحة ما ذهبتم إليه, أخوالي من قبيلة هذيل ومنازلهم على سفوح سراة… قراءة المزيد ..