حفلت الانتخابات التشريعية الباكستانية التي جرت في الثامن عشر من فبراير المنصرم بأمور كثيرة تصلح لأن تكون شواهد و أدلة دامغة على خرافة بعض المقولات والنظريات الرائجة. غير أن المحللين و المراقبين العرب – ولأنهم يحكمون على الأمور بعواطفهم أو ميولهم السياسية أو من منطلقات كراهيتهم المرضية المزمنة لأمريكا وحلفائها، لم يتوقفوا إلا عند أمرين: اولهما هو الخسارة التي مني بها أنصار الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف من مرشحي حزب الرابطة الإسلامية – جناح القائد الأعظم الذي حل في المركز الثالث بحصوله على 41 مقعدا. وهي الخسارة التي وصفت أيضا بأنها هزيمة لنفوذ واشنطون في هذا البلد ولحربها على الإرهاب. وثانيهما هو شكل الحكومة المقبلة في ظل عدم حصول أي من الأحزاب السياسية على الأغلبية المطلقة، ورجحان احتمال تشكيل حكومة ائتلافية بقيادة الحزب صاحب العدد الأكبر من المقاعد النيابية، أي حزب الشعب.
وبعبارة أخرى، لم يسترع انتباه المراقبين و المحللين العرب مثلا أن مشرف هذا الذي يتهمونه بالعمالة والديكتاتورية هو أول حاكم عسكري في تاريخ باكستان – وربما العالم – ينظم انتخابات حرة ونزيهة وشفافة باعتراف المراقبين الدوليين وقوى المعارضة، بل ويقبل بنتائجها التي جاءت في غير صالح حلفائه السياسيين.
لم يسترع انتباههم أيضا فشل تنظيمي القاعدة وطالبان الإرهابيين في ترجمة تهديداتهما بإعاقة الاستحقاق الانتخابي وقتل كل من يقترب من صناديق الاقتراع، رغم كل ما قاما به من عمليات قتل للأبرياء و تفجير للمراكز الانتخابية وسرقة لصناديق الاقتراع. إلى ذلك – وهذا هو الأهم – لم يسترع انتباههم أن قوى الإسلام السياسي منيت بهزيمة نكراء غير مسبوقة، الأمر الذي يؤكد مجددا أن الباكستانيين قد استوعبوا مدى خطورة التصويت لمن يستغل عواطفهم الدينية كورقة انتخابية من اجل الوصول إلى السلطة وإقامة دولة فقهية متسلطة وقمعية. فهؤلاء لئن كانوا ضد تعسف و ديكتاتورية المؤسسة العسكرية، وهو ما ثبت في إسقاطهم لرموز كبيرة ممثلة في نظام الجنرال برويز مشرف من أمثال وزير الدفاع اسكندر إقبال، ووزير السكك الحديدية شيخ رشيد، وزعيم حزب الرابطة الإسلامية – جناح القائد الأعظم تشودري شجاعت حسين، ووزير الخارجية خورشيد محمود قوصوري، فإنهم أيضا وربما بدرجة اكبر ضد نظام الدولة الفقهية التي جربوا بعض معالمها زمن الراحل ضياء الحق في سبعينات القرن الفائت وذاقوا الأمرين منها، خاصة فيما يتعلق بالحريات الاجتماعية والحقوقية الشخصية.
أما دليلنا على أن الغالبية العظمى من الباكستانيين هم في الأصل علمانيون في فكرهم وسلوكهم وحياتهم، فلا ينحصر فقط في حقيقة ما أفرزته صناديق الاقتراع من فوز كبير لحزب البلاد العلماني الأكبر (حزب الشعب بقيادة آل بوتو)، وحصوله على المركز الأول ب 87 مقعدا من مقاعد الجمعية الوطنية البالغ عددها 272 مقعدا، فضلا عن تحقيقه لانتصارات قوية ومهمة في انتخابات المجالس التشريعية الإقليمية، أو فوز حزب علماني آخر هو حزب رابطة عوامي ذو الميول الاشتراكية في معقل الإسلاميين المتشددين في ولاية الحدود الشمالية الغربية، بل يتعدى كل ذلك إلى تلقي تحالف الأحزاب الإسلامية المعروف باسم “جمعية العمل المتحدة” ضربة موجعة بحصولها فقط على نسبة 3 بالمائة من الأصوات مقابل 11 بالمائة في الانتخابات السابقة التي جرت في عام 2002 ، ناهيك عن خسارة كل زعاماتها المعروفة لمقاعدهم البرلمانية.
الأمر الآخر الذي يمكن استنتاجه من نتائج هذه الانتخابات، هو أن قوى الإسلام السياسي التي كثيرا ما تصور نفسها على أنها صاحبة سطوة و نفوذ في أوساط الجماهير، أو أنها بإشارة منها تستطيع إرباك الأمور وقلب النتائج لصالحها، فيما هي في الحقيقة لا تملك سوى الجعجعة الفارغة والتلاعب بعواطف العامة و المحبطين والأميين. فها هو تحالف “جمعية العمل المتحدة” الذي لم يكف منذ ظهوره على الساحة السياسية في عام 2002 كجماعة معارضة لنظام الرئيس برويز مشرف على خلفية انضمام الأخير إلى الحرب الدولية ضد الإرهاب، عن التهديد والوعيد باكتساح أية انتخابات نزيهة أو إخراج الملايين إلى الشوارع للاحتجاج، يفشل حتى في الاحتفاظ بسيطرته على المجلس التشريعي لمعقله القبلي في إقليم الحدود الشمالية الغربية الذي كثيرا ما تباهى بنفوذه فيه.
والمعروف أن هذه القوة السياسية التي لم تعد تملك اليوم سوى 36 مقعدا من مقاعد البرلمان، من بعد أن كان لها في البرلمان السابق 69 مقعدا (فازت بها في انتخابات عام 2002 بفضل استغلالها الجيد للعواطف الشعبية الملتهبة وقتذاك في أوساط أبناء وزيرستان وبلوشستان ضد التدخل الأمريكي في أفغانستان) هي عبارة عن تحالف خمس جماعات متشددة لا يجمعها سوى هدف إقامة الدولة الدينية المطبقة للشريعة والحدود والحسبة في باكستان بدعوى أن الأخيرة قامت على أساس الإسلام وان دستورها يعتبر الشريعة المصدر الوحيد للقوانين، في إشارة إلى دستور 1979 الذي اقر زمن الرئيس الأسبق ضياء الحق. وإن كان من أمر آخر تشترك فيه هذه الجماعات الخمس فهو السياسات الغامضة و الملتوية إزاء الإرهاب و أعمال العنف والعمليات الانتحارية. و تشمل هذه الجماعات كل من:
1- جماعة علماء الإسلام – فصيل مولانا فضل الرحمن الذي يتبنى خطا متشددا من الأفكار الديوبندية من تلك التي تلقى رواجا لدى أبناء القبائل البشتونية والبلوشية في شمال البلاد.
2- جماعة علماء الإسلام – فصيل مولانا سميع الحق الذي له أنصار و مريدين في قرى السند و البنجاب الريفية، و الذي اختلف لاحقا مع جماعة فضل الرحمن وانسحب من التحالف في أواخر عام 2005.
3- جماعت إسلامي وهو بمثابة الفرع الباكستاني لجماعة الإخوان المسلمين، ويقوده قاضي حسين احمد. ولهذه الجماعة امتداد في بنغلاديش يعود إلى زمن ما قبل انشطار باكستان في عام 1971 ، وهو ممثل في البرلمان البنغلاديشي بعدد من المقاعد رغم الشكوك التي تطارده حول ضلوعه في الإرهاب و حوادث العنف التي شهدتها دكا في السنوات الأخيرة.
4- تنظيم طريق إسلامي، وهو تنظيم شيعي كان يعرف سابقا بالطريقة الجعفرية الباكستانية.
5- تنظيم جماعة أهل الحديث، وهو تنظيم سياسي يتبنى التعاليم الوهابية.
وإذا كان هناك من شيء يمكن أن نضيفه حول هذه القوة السياسية الانتهازية فهو أنها كانت قد هددت في العام الماضي بالانسحاب من الجمعية الوطنية والمجالس التشريعية الإقليمية، لكن دون أن تنفذ تهديدها – وذلك احتجاجا على تمرير البرلمان لتعديل دستوري يتيح للمحاكم المدنية النظر في قضايا الاغتصاب بدلا من المحاكم الإسلامية العاملة وفق قوانين وضوابط الشريعة، من تلك التي لا تعترف بحدوث الاغتصاب إلا بوجود خمس شهود ذكور عدول، وإلا اعتبر ادعاء المغتصبة قذفا يستوجب معاقبتها. والجدير بالذكر أن الرئيس مشرف وقف شخصيا خلف التعديل في محاولة منه للحد من حوادث الاغتصاب في باكستان ومعاقبة مرتكبيها، وأيضا من اجل تحسين صورة البلاد أمام جماعات حقوق الإنسان.
وأخيرا فانه من الأهمية بمكان التوقف عند ظاهرة أخرى غير مسبوقة في الانتخابات الباكستانية، ألا وهي طريقة التصويت و الاقتراع التي لم تعتمد على كاريزما المرشح أو فصاحته، أو نفوذه، أو علاقاته، أو ما ينفقه من مال سياسي، بقدر ما اعتمدت على معايير جديدة متعلقة بالخطط والبرامج الهادفة إلى تحسين مستويات المعيشة وانتشال البلاد من أتون العنف والجريمة والفوضى والفساد وسطوة الميليشيات. ولعل هذه الظاهرة هي التي تفسر كيف أن الفائز هذه المرة لم يكن رجل الدين المختفي خلف لحية طويلة أو عمامة سوداء وشعارات وحلول طوباوية، وإنما رموز الطبقة الوسطى من العلمانيين المتعلمين، أصحاب المهن الرفيعة مثل الأطباء والمحامين والمهندسين والأكاديميين والصحافيين.
elmadani@batelco.com.bh
*باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين