بالرغم من اعتقاد المحللين أن سقوط نظام صدام حسين في العراق عام 2003 سيدعم الفكر الليبرالي والتيار السياسي الليبرالي ويشجع القيام بإصلاحات ديموقراطية في المنطقة، إلا أن نجاح ذلك لا يزال محدودا جدا. ففي الكويت، على سبيل المثال، لا يزال التيار الليبرالي غير قادر على تحديد السبب المؤثر القادر على إحداث تحولات ليبرالية، وتغير الواقع الاجتماعي والسياسي الكويتي باتجاه الديموقراطية الحقيقية والانفتاح على قضايا حقوق الإنسان والحريات ومواجهة الفكر المناهض لذلك. وسبب هذا القصور، هو نجاح التيار الإسلامي والمستقل، الذي يعبّر عنهما بالمحافظين، في السيطرة على مفاتيح الحراك السياسي والاجتماعي في المجتمع، فقد قاد ذلك إلى بقاء هذا الحراك في الإطار المحافظ، وهو ما سهل سيطرة المحافظين عليه، وصعّب دور الليبراليين الاجتماعي والسياسي في التغيير.
ورغم أن المشروع السياسي للجماعات الإسلامية في الكويت غير واضح ولا يعوّل عليه في النجاح أو الفشل بالانتخابات البرلمانية، بل إنه متباين من جماعة إلى أخرى، ومن مستقل إلى آخر، وقد يحظى بدرجة من التطرف عند العديد منها، إلا انه – أي المشروع – لم يكن سببا رئيسيا في استمرار تفوق الإسلاميين على الليبراليين في الانتخابات، بل إن سيطرة المفاهيم التقليدية المحافظة على المجتمع، وهي المتبنّاة من قبل الإسلاميين والمستقلين، كانت سببا رئيسيا في ذلك النجاح. فالليبراليون مازالوا بعيدين عن الواقع الاجتماعي الكويتي، ولم يوظفوا جهودهم للتأثير على ذلك الواقع بغية تغييره، بل انشغلوا، وبإفراط، في النشاط السياسي دون الاجتماعي، وبالذات مع أطراف في السلطة، متأملين الحصول على مكاسب سياسية من خلاله، وهو باعتقادي انشغال مشروع، غير أن النتيجة جاءت على عكس التوقعات، وأثبتت أن أحد مفاصل التحرك السياسي هو الواقع الاجتماعي ومدى سيطرة كل جهة عليه وعلى ثقافته ومن ثم على جمهوره.
إن النخب الثقافية الليبرالية، بوصفها معول بناء الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية الليبرالية بالمجتمع، تتحمل مسؤولية عدم حدوث تحولات ليبرالية في المجتمع الكويتي. فهي كانت أقل قوة وقدرة من النخب الإسلامية والمحافظة في نشر أفكارها والدعاية لها، وبالتالي لم تنجح في التأثير كثيرا على الواقع الاجتماعي الكويتي بغية “لبرلته”. وبالطبع، ذلك لا يعني تجاهل عوامل أخرى مؤثرة في هذا الأمر، وبالذات تلك المرتبطة بالدور الحكومي المناهض للفكر الليبرالي والمتصل بتنفيذ الأجندة “المصلحية” الحكومية. إلا أن ذلك لا يلغي مسؤولية النخب الليبرالية وفشلها في استيعاب الواقع الاجتماعي والسياسي الكويتي، مما أخر عملية التغيّر نحو الديموقراطية الليبرالية وساهم في استمرار سيطرة المفاهيم الأصولية والمحافظة على أفراد المجتمع مما أثّر على نتائج الحركة السياسية الليبرالية. فالنخب الليبرالية الكويتية انشغلت بالتنظير للصراع السياسي أكثر من انشغالها بالتنظير للصراع الاجتماعي. بل هي تجاهلت في كثير من الأحيان قضايا اجتماعية مرتبطة بالحريات العامة في المجتمع وتوجهت صوب المكاسب السياسية. فعلى سبيل المثال، لم تكن قضايا حقوق المرأة الاجتماعية أو حرية التعبير أو حقوق الإنسان همّاً رئيسيا لها وإنما همٌّ ثانوي يأخذ حيزه الرئيسي في الطرح كلما ظهرت قضايا تحقق لليبراليين مكاسب سياسية، وبالتالي كان من نتائج ذلك عدم تغيير الواقع الاجتماعي المؤثر بدوره في الصراع السياسي.
لذلك، نعتقد أن الخطاب الليبرالي الكويتي يتصف بالمثالية في الجانب السياسي، ويبتعد عن الواقعية في الشأن الاجتماعي. فهو يسعى إلى تحقيق أهداف سياسية مشروعة، غير أن ذلك يتم على حساب الواقع الاجتماعي الكويتي غير المتماشي مع طبيعة العديد من تلك الأهداف، وهو ما أدى إلى خلق فجوة كبيرة بين الهدف وبين الواقع، مما صعّب عملية قبول المجتمع لذلك الهدف. فحينما يسعى الخطاب للدفع بمشروع سياسي اقتصادي ما، مثل مشروع الضرائب، فعليه أن يسعى إلى الدفع به في النسيج الاجتماعي الكويتي قبل تهيئته للتداول السياسي. فحصول المشروع على قبول اجتماعي هو مقدمة رئيسية ولازمة من لوازم حصوله على القبول السياسي، خاصة في بيئة سياسية اجتماعية مثل الكويت. إن المثالية مطلوبة في الخطاب السياسي، بل هي تعكس الصورة الأخلاقية للخطاب. لكن حينما تقوم أدوات تفعيل تلك المثالية بتجاهل الواقع الاجتماعي الراهن وتسعى للقفز عليه، فإن ذلك من شأنه أن يعرقل مرور مشاريع ذلك الخطاب.
فالنجاح الذي يحققه الإسلاميون في انتخابات مجلس الأمة، لم يكن ليتحقق من دون الأخذ بعين الاعتبار عجز الخطاب الليبرالي في تغيير الواقع الاجتماعي الكويتي باتجاه اللبرلة والديموقراطية والانفتاح على قضايا حقوق الإنسان والحريات. فقضايا حقوق الإنسان في الكويت، وبالذات تلك الرئيسية، كقضية حقوق المرأة الاجتماعية ومساواتها مع الرجل (وليس فقط حقوقها السياسية)، ومشكلة غير محددي الجنسية (البدون)، والحريات المتعلقة بالحقوق الفردية، نراها بعيدة عن هموم التيار الليبرالي، وإذا ما طرحها في الساحة السياسية والاجتماعية فذلك يتم بصورة لا تعبر عن جدية التيار في الدفاع عن تلك القضايا. ولاشك أن مفهوم حقوق الإنسان يعتبر أحد العناصر الرئيسية في الفكر الليبرالي، وإذا ما تجاهله الخطاب الليبرالي فمن شأن ذلك أن يدلل على عدم جدية أنصار الخطاب في تبني الفكر الليبرالي ورفع شعاره في المجتمع والدفاع بجدية عن قضاياه.
هناك من الليبراليين في الكويت من يزعم أن قضية حقوق المرأة الاجتماعية تخص المرأة قبل الرجل، وأنه بتباطؤ المرأة في الدفاع عن حقوقها وتساهلها في ذلك فإنها تتحمل مسؤولية الإخفاق في الحصول على حقوقها. باعتقادي إن هذا النوع من التبرير ما هو إلا عملية هروب من مسؤولية نشر الفكر الليبرالي والدفاع عن القضايا الحقوقية الليبرالية في المجتمع. فاعتبار حقوق المرأة هي مسؤولية المرأة فقط، أو أن حل قضية البدون هو من مسؤولية البدون قبل أي شخص آخر، هو محاولة لتفكيك حقوق الإنسان إلى حقوق تخص المرأة ولا تخص الرجل، أو تخص طبقة اجتماعية معينة ولا تخص طبقة أخرى. فالكويتي، ذكراً كان أم أنثى، معتنقا أي مذهب ديني أو غير مسلم، لابد أن يدافع عن تلك القضيتين بوصفهما قضايا حقوقية بشرية عامة مثل دفاعه عن قضايا الحريات والديموقراطية التي تهم جميع الناس.
إن المجتمع الكويتي، الذي يصفه الكثير من المراقبين والمحللين السياسيين والمتخصصين الاجتماعيين بأنه مجتمع محافظ متعلق بمفاهيم دينية أصولية تعادي في كثير من الأحيان المفاهيم الليبرالية، هو الذي يجب أن يصب الخطاب الليبرالي جل جهده عليه من أجل تغيير مفاهيمه وتبديلها وجعلها متناسقة مع الفكر الليبرالي. ويأتي على رأس القضايا التي من شأنها أن تساهم في “لبرلة” المجتمع الكويتي، قضية تغيير الفهم الديني الأصولي، أو ما يسمى بتجديد الخطاب الديني، والتي تقع مسؤوليته على عاتق التيار الليبرالي قبل أي تيار آخر. فالفهم الديني غير المعادي لليبرالية وغير المناهض للحداثة، يجب استثماره في تغيير الواقع الاجتماعي الكويتي ودفعه باتجاه قبول المشروع الليبرالي. فالخطاب الليبرالي عليه أن يساهم في إنتاج ما يسمى بـ”الإسلام المستنير”، المستند إلى رؤى لا تخالف الليبرالية والديموقراطية والحداثة واحترام حقوق الإنسان، الإسلام الذي يقبل التعددية الثقافية والفكرية والدينية، لا الإسلام السياسي المؤدلج وإسلام “الهوية” بل الإسلام المنطلق من التجربة الروحانية المؤسسة للإيمان. فلو ساهم الخطاب الليبرالي في ذلك، يكون قد خطا خطوة جبارة ومميزة باتجاه “لبرلة” المجتمع. لكنه للأسف لا يزال بعيد عن هذا الموضوع. فالخطاب الديني الأصولي المؤدلج يمارس الهيمنة على الهوية الدينية والاجتماعية للفرد الكويتي. في المقابل لا يستحوذ على اهتمام النخب الليبرالية سوى ممارسة النقد اللاذع والمتطرف ضد الأصولية الدينية، من دون تقديم البديل المتمثل في الفهم الديني الحداثي المستنير، القادر على أن يحل محل تلك الأصولية. فالأصوليون، من نخب وسياسيين، عادة ما يستغلون الخطاب الليبرالي لتأليب الرأي العام الكويتي ضد الفكر الليبرالي بوصفه فكرا معاديا للدين الإسلامي وليس معاديا لفهمهم للدين، وهو ما يساهم في صد الكويتيين عن الفكر الليبرالي ونفورهم منه.
ssultann@hotmail.com
* كاتب كويتي