المعركة بين شاعر وجنرال تغوي الخيال، وتنعش أدواراً نائمة. بالأمس كانت معركة من هذا القبيل استجابت لها نخبٌ بعينها بيسر ومن غير فتور: وقفتْ صفا متراصاً خلف الشاعر اللبناني بول شاوول، قائدها، شاهرة بياناتها التضامنية الاستنكارية في وجه العماد ميشال عون، أحد زعماء المعارضة المسيحية اللبنانية: هبّة مثقفين دفاعاً عن «حرية الرأي والابداع».
ولكن مهلاً يا اخوان؛ القصة ليست كما في رواية غابريال غارسيا ماركيز «خريف البطريرك». الجنرال عون عسكري لبناني وزعيم لم يبلغ بعد مرتبة طموحاته الرئاسية. وحتى لو بلغها، فلن يكون على صورة العسكر المعهودة في البلدان العربية واللاتينية. صحيح ان لسانه يخونه احياناً، فينزلق الى العبارات التي تستشري الآن في المشهد السياسي اللبناني. لكن قلمه لم يخنه كما خان شاعرنا بول شاوول. فجرّه الى كتابة مقال ردّ عليه الجنرال برفع دعوى قدح وذم قضائية.
مهلا ايضاً: مقال شاعرنا على الصفحة الاولى من جريدة «المستقبل» اللبنانية (5/1/2008)، ولا يحتاج هذا المقال الى متخصص في تحليل مضمون الخطاب ليلاحظ بأنه يحتوي على أبشع عبارات الذم بحق الجنرال، وهذه بعض منها: بدل ذكر اسمه كاملا، يعمد شاعرنا حوالى أربع مرات الى ذكره بـ»عو» بدل عون، أو «ميشا عو» بدل ميشال عون، أو «جنرال العمالة الاولى في لبنان»، أو «المقصّر وفصّو حامي»، أو «عماد الخراب»، او «هذا المجنون»، أو «أخوت الرابية»، أو «عميل العملاء»، أو «ها هو يجدّد جنونه وبذاءاته وقذاراته»، أو «هذا المخبول»، «هذا الجعاري»، او «نطالب بالحجر الصحي والنفسي عليه من قبل لجنة طبية تفحص رأسه لأنه بات يشكل خطرا على المجتمع: فالعصفورية ودير الصليب جاهزان لإستقباله»، أو «هو مرشح الفراغ والإفراغ والاستفراغ والتفريغ»… الى ما هنالك.
كان يمكن للجنرال ميشال عون ان يتغاضى عن هذا المقال، وما سبقه من مقالات شبيهة. خاصة وانه يتحمل هو نفسه جزءا من المسؤولية في تفشّي الالفاظ السياسية النابية. ولكن كما انجرّ شاعرنا الى الفاظ السياسيين، فكتبَ ما كتبَ، انجرّ ايضا الجنرال الى المعركة، وقرر خوضها قضائياً، ضمن مؤسسات الدولة. وهذا من كامل حقه القانوني. ومن حق اي مواطن لبناني يتعرض للشتم. فدولة القانون والمؤسسات جلّ ما يُفترض أن ترمي اليه جماعة 14 آذار التي يرأس الشاعر قسم الثقافة في اهم صحفها، إلا اذا طوّبنا لازمة «ردّ الكلمة بالكلمة»، المنتشرة وسط المتضامنين مع الشاعر، فتوقّعنا من الجنرال ردّا يوازي مقال الشاعر قدحا وذما، او يتجاوزه.
المهم ان الشاعر، وبعد رفع الدعوى ضده، قرّر انه حان الآن موعد الانتقال الى مستوى ثان من المعركة. معركة المثقفين والاعلاميين دفاعا عن حريته ضد الجنرال: شاعر ضد جنرال. فيما الدعاوى من هذا القبيل تضج بها المحاكم اللبنانية، وعشرات منها رفع خلال العامين المنصرمين، وكلها على خلفية القدح والذم الا قضية الشاعر والجنرال. لا بل اكثر: الدعوى التي رفعها مشيال عون كانت موجهة ضد بول شاوول وصحافي آخر من نفس الجريدة، هو الزميل فارس خشان. أين فارس خشان من تدفّق مشاعر «الدفاع عن حرية التعبير»؟ اين هو فعلاً؟
الحملة من اجل الدفاع عن الشاعر ضد الجنرال تنطلق اذاً. أولا البيان اللبناني المتضامن مع الشاعر، وقد وقّعته عشرات الاسماء اللبنانية المعروفة، تليه مبادرة من «المنتدى الثقافي اللبناني» في فرنسا الذي يصدر بيانا يوقعه مثقفون واعلاميون وفنانون إيمانا منهم «بأن الحرية هي خبز لبنان»، وان المعركة بين الشاعر والجنرال «تكشف مجددا معنى حرية التعبيرفي لبنان». يليهم «بيت الشعر المغربي» الذي يتابع «بقلق كبير محاولة النيل من الشاعر العربي اللبناني بول شاوول، بسبب الدعوى المرفوعة ضده من طرف الجنرال ميشال عون». ودعوة في صحيفة مصرية مستقلة للتضامن مع الشاعر، يكتبها احد كبار المثقفين المصريين، عنوانها «المثقفون في لبنان يواجهون الاغتيال والحبس والمنع»، حيث يصف الكاتب الوقائع حرفياً كالتالي: «في الاسبوع الماضي بدأ ايضا ترهيب الاقلام الحرة بالحبس والمنع، عندما مثل امام قاضي التحقيق يوم الثلاثاء الكاتب والشاعر والصحافي بول شاوول، بدعوى مرفوعة ضده من رئيس احد الاحزاب ميشال عون».
ثم مقابلة في صحيفة «الغد» الاردنية مع بول شاوول؛ وفيها يقول ان لغته «تحترف الجدل والاختلاف، غير تلك التي تقوم على الشتم والسباب ويمارسها عون نفسه». ويعبر عن تخوّفه «من ذهنية العسكرة التي يتعامل بها عون»؛ متسائلا عن مآل المثقفين والسياسيين اللبنانيين اذا تسلم عون السلطة». وفي مقابلة اخرى مع موقع nowlebanon يكشف الشاعر عن خطته للإستمرار في حملة التضامن معه. فيقول: «ان بيان الاستنكار الذي وقعه مئة مثقف خطوة اولية ونواة لتحركات اخرى ستلي، وقد يكون بينها تظاهرات او تحركات في اماكن عامة لأن لا يجوز للديكتاتور الذي خرب البلد في حربين ان يستمر في ما يفعله». فالمعركة مع الجنرال شخصية كما يفصح: «هنا اقول وللمرة الاولى ان عون دمّر منزلي في (منطقة) الحمراء خلال ما سماه حرب التحرير التي خاضها، والمشكلة ليست هنا بل في ألف كتاب احترق في المنزل، وكل كتاب يساوي الكثير مما لا يفهمه عون».
كيف تنتهي هذه المعركة؟ حتى هذه اللحظة اجلّت جلسة البتّ بقضية القدح والذم حتى اواسط شهر نيسان (ابريل) المقبل. ومن الآن وحتى هذا التاريخ سوف تكون حملة تضامن مع الشاعر ضد الجنرال الذي احرق منزله ويريد الآن خنق صوته. الجنرال، وهو عصبي المزاج، ربما لن يتراجع عن القضية. وسوف تحكم المحكمة بما تحكم. ولكن سوف يخرج علينا ساعتئذ بطل الحريات المكلّل بغار الشجاعة والفصاحة والجوائز والتكريمات… كما يحصل الآن تماماً في غير عاصمة عربية.
ما الذي يسمح بتشويه معركة الحريات الى هذا الحدّ؟ أسباب لا تحصى. الاخلاق، السياسة، الاعلام، السلطة، المثقف… تستطيع ان تغرف الكثير من سلّة الاهتراء. ولكن اقوى ما تجده فيها من اسباب هو: ان الثقافة تسيّست، ابتلعتها السياسة فأصبحت لها لغتها الخشبية (ايضا)، وأضاليلها، وأدبياتها الفارغة القريبة من الغوغائية. وكل هذا جهاز قائم بذاته يحرّك اللازمة «حرية التعبير والابداع». في حين ان الحرية في مكان آخر: ويقع بعضها على تخوم السلطة التي بناها لنفسه المثقف، صاحب الرتبة العالية من بين المثقفين. وهذه قد تكون ألعن السلطات.
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة