يجد القارئ متعة كبيرة في كتب التراجم والسير وهي من أكثر الكتب رواجا في الأسواق والمكتبات. ومن المعلوم ينقسم فن التراجم والسير إلى قسمين، الأول سيرة ذاتية والثاني غيرية إن صح التعبير. السيرة الذاتية هي ما يكتبه الكاتب عن نفسه مثل سيرة طه حسين في كتابه الأيام وكتاب في سبيل الحق أو قصة حياتي لداعية اللاعنف غاندي، وكتاب سيرتي الذاتية للفيلسوف براند راسل. وأما الغيرية فهي ما يكتبه الكاتب عن غيره مثل “العبقريات” للأستاذ عباس محمود العقاد وكتاب “كانط” للفيلسوف عبد الرحمن بدوي وكتاب “سيرة رامبو” للباحث جان جاك لوفرير. وأنا شخصيا أحب التاريخ وكتابة التراجم والسير منذ الصغر، وأكتب بين الحين والآخر عن بعض الشخصيات الهامة من المفكرين والمبدعين والفلاسفة الذين أثروا في، وأحاول استعراض سيرة حياتهم وأتحرى الدقة والأمانة والصدق في الكتابة وفي تخير الأوصاف والنعوت آملا أن يجد القارئ فيها المتعة والنفع معا. مع التنويه هنا أنا مع تقدير العظماء لا تقديسهم. ومن الدراسات العلمية القيمة لعباقرة التاريخ ما كتبه دين كيث سايمنتن أستاذ علم النفس بجامعة كاليفورنيا. وأذكر هنا كتابه الشهير “العبقرية والإبداع والقيادة”. يجمع هذا الرجل في كتاباته بين دراسات الإبداع ودراسات علم النفس السياسي. ويذكر الرجل أن توماس كارليل كتب في مقاله عن الأبطال وعبادتهم والبطولة في التاريخ «إن تاريخ العالم ليس إلا سيرة الرجال العظماء». ويرى البعض: «ليس هناك تاريخ بالمعنى الدقيق للكلمة، هناك فقط سيرة شخصية». ويحضرني الآن من كتب التراث في فن التراجم والسير كتاب قيم لابن خلكان بعنوان “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”. وكان إذا وصف ابن خلكان أحدا بقوله: النحوي،أو الأديب أو اللغوي أو المفسر، فليس من الميسور زحزحته عن مكانه الرئيسي والاختصاصي ووضعه في طبقة أخرى وهذه الخصيصة امتاز بها العلامة ابن خلكان. وهذا قلما تيسر لمؤلفي كتب التراجم والسير حسب الأديب الندوي: «ولا يقدر عليه إلا صاحب سليقة في فن التراجم ومن أعطاه الله الدقة في الحكم، ورقة الشعور، وحسن الذوق، والاطلاع الواسع الدقيق.». ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع كتابات المفكر الكبير إبراهيم البليهي وخاصة كتابه الرائع “وأد مقومات الإبداع”. ومن الكتاب الفرنسيين المعاصرين أذكر على سبيل المثال لا الحصر مؤلفات ماكس غالو عن سير العظماء، وكذلك كتابات الأديب جان دورميسون. ففي كتابه “تاريخ آخر للأدب الفرنسي”، يحدثنا بأسلوبه الباهر ولغته الجميلة عن سيرة كورني وراسين وموليير وينتقل بنا إلى باسكال وستندال ثم إلى الفريد دوموسيه وبودلير واندريه جيد وبول فاليري. وهكذا نمضي ونرحل معه في عوالم فولتير وجان جاك روسو و رامبو.. إلى آخره. ومن خلال القراءة الممتعة لهذا الكتاب نعرف رأيه في كل المبدعين في تاريخ الأدب الفرنسي.
إن فكرة أن التاريخ سيرة شخصية تظهر بوضوح في أعمال المؤرخين المعاصرين البارزين مثل توينبي وويلز واشبنجلر وديورانت . ففي موسوعة “قصة الحضارة” لول وآرييل ديورانت مثلا، هناك أربعة مجلدات متتالية بعنوان عصر لويس الرابع عشر، وعصر فولتير، وروسو والثورة، وعصر نابليون. وفي قناعتي، من لم يعرف علم التاريخ يشك في فهمه. وليس العبرة في أن يقرأ الإنسان مائة كتاب أو ألف كتاب ولكن كل العبرة هي في ماذا يقرأ. وأعتبر من الكتب التأسيسية والمراجع الهامة في التاريخ، كتاب ابن خلدون للتاريخ “خبر العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”،. وكتاب “معالم تاريخ الإنسانية “لويلز، ثم “قصة الحضارة” لويل ديورانت، وكتاب “دراسة التاريخ” لتوينبي. وكذلك كتاب “أفول الغرب” لاشبنجلر. ولكن كتاب “قصة الحضارة” للفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ول ديورانت بأجزائه الستة والأربعين عمل فريد ورائع لا بل أكثر من رائع لا يقاربه عمل آخر ولا يغني عنه سواه. فقد درس ديورانت في هذا الكتاب الضخم الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ وحتى مطلع القرن التاسع عشر.
ولد مؤلف كتاب قصة الحضارة الفيلسوف والمؤرخ ول ديورانت عام1885م بولاية ماساتشوستس الأمريكية، وتلقى تعليما كاثوليكيا في طفولته فقد كانت أمه كندية فرنسية، وامرأة متدينة، ولكن مع ذلك سرعان ما تحول إلى التعليم المدني وحصل على البكالوريوس في الآداب عام 1907م ، ثم الماجستير في السنة التالية. قرأ ديورانت أثناء دراسته مؤلفات وكتابات هكسلي وداروين وهربرت سبنسر وهيغل واسبينوزا وآخرين غيرهم وانضم إلى الأفكار الاشتراكية في عام 1905م ومع ذلك دخل مدرسة اكليريكية في عام 1909م ولكنه لم يبق فيها طويلا. مارس مهنة الصحافة ثم ترك مهنة المتاعب ليشتغل بالتدريس في الكلية التي تخرج منها حتى عام1911م ودرس بعد ذلك في المدارس الفرنسية وهناك أحب إحدى تلميذاته وتوثقت علاقته بها وهي أدا كوفمان فتزوجها عام 1913م. ثم تابع ديورانت دراسته حتى حصل على الدكتوراه في الفلسفة في عام1917م من جامعة كولومبيا وكانت رسالته بعنوان “الفلسفة والمشكلة الاجتماعية”. وكتب ديورانت مقالات كثيرة في المجلات وألف عدة كتب منها: “قصة الفلسفة”، و”قصة عقل واحد وحقبة واحدة”، و”قصور الفلسفة”، و”قضية الهند”، و”مباهج الفلسفة”، و”مغامرات في العبقرية”، و”برنامج للأمريكيين”، و”في معنى الحياة”، و”مأساة روسيا”، و”دروس التاريخ” ، و”تفسيرات الحياة” ، وسيرة ذاتية ثنائية بالاشتراك مع زوجته. ثم أصدر آخر كتاب له بعنوان “أبطال من التاريخ”.
لكن هذه الكتب جميعا لم تحقق نجاحا يقاس بما حققه كتاب “قصة الفلسفة” الذي أصدره في عام 1926م. فقد لاقى هذا الكتاب نجاحا كبيرا في السوق، وصار من أكثر الكتب رواجا، فقد كان بيضة من ذهب حسب تعبيره. ومن عوائده المالية تحرر ديورانت من رق الوظائف وعناء التدريس، وفي عام1927م ترك التدريس وتعليم الفلسفة وتفرغ للكتابة والتأليف. ودخل في مشروع فريد من نوعه وعظيم وشامخ في مضمونه ومنهجه وأسلوب رفيع يليق بفيلسوف فنان، استغرق خمسين عاما من عمره. وهذا المشروع المذهل هو كتاب “قصة الحضارة”. ويعتبر هذا الكتاب عمل موسوعي ضخم ومن أهم كتبه وآثاره ويتألف من 11 مجلدا ضخما.وقد راودته فكرة هذا الكتاب عندما كان شابا يافعا يقوم برحلة إلى الشرق في عام1912م، زار فيها سوريا ونزل دمشق وفي تلك الزيارة مرض ديورانت ولازم الفراش وتذكر المؤرخ الانكليزي هنري توماس بكل الذي زار دمشق منذ نصف قرن ومرض ثم مات دون أن يبدأ في كتابة تاريخ الحضارة. وهكذا فكر ديورانت في دمشق ثم قرر أن ينجز ما عجز عنه ذلك المؤرخ الانكليزي المعروف.
في عام 1935 اصدر الجزء الأول من قصة الحضارة ونجح في تغير نمط حياته واستقر بضواحي مدينة لوس انجلوس في ولاية كاليفورنيا وأعتكف في الريف الأمريكي الهادئ و تفرغ تماما للقراءة والكتابة وكان يعمل كل أيام الأسبوع مع زوجته ويقرأ آلاف الكتب ويتعلم اللغات ويسافر سفرات طويلة من أجل رؤية ومعاينة المنابت الأولى للحضارات. فقد كان يقرأ نحو خمسة آلاف كتاب من أجل أن يكتب جزءا واحدا من قصة الحضارة بمساعدة زوجته وابنته. وكان هدفه من هذا العمل الرائع كما يقول في مقدمته:
«أن أكتب تاريخاً للمدنيّة، أردت فيه أن أروي أكثر ما يمكن من النبأ في أقل ما يمكن من الصفحات، بحيث أقصّ في روايتي ما أدته العبقرية وما أداه دأب العاملين في ازدياد تراث الإنسانية الثقافي- وأن تكون قصتي مصحوبة بتأملاتي في العلل ووصف الخصائص وما ترتب من نتائج لما أصابه الاختراع من خطوات التقدم، ولأنواع النظم الاقتصادية، وللتجارب في ألوان الحكم، وما تعلقت به العقيدة الدينية من آمال، وما اعتور أخلاق الناس ومواضعاتهم من تغيرات، وما في الآداب من روائع، وما أصابه العلم من رُقى، وما أنتجته الفلسفة من حكمة، وما أبدعه الفن من آيات، ولست بحاجة إلى من يذكرني بأن هذا المشروع ضرب من الخبل، ولا إلى من يذكرني بأن مجرد تصور مثل هذا المشروع إمعان في غرور المرء بنفسه؛ فلقد بينت في جلاء أنه ليس في مستطاع عقل واحد أو حياة واحدة أن تقوم بهذه المهمة على الوجه الأوفى، ورغم ذلك كله، فقد خيلّت لي الأحلام بأنه على الرغم من الأخطاء الكثيرة التي ليس عنها محيص في هذا المشروع، فقد يكون نافعاً بعض النفع لأولئك الذين يرغمهم ميلهم الفلسفي على محاولتهم أن يروا الأشياء في كلُ واحد، وأن يتابعوا التفصيلات في موضعها من صورة مجسدة واحدة، فيروها متحدة ويوقفوا إلى فهمها خلال الزمان في تطورها التاريخي، وأن ينظروا إليها كذلك في المكان عن طريق العلم.»
ثم يشرح طريقته في كتابة التاريخ :
«لقد أحسست منذ زمن طويل بأن طريقتنا المعتادة في كتابة التاريخ مجزءاً أقساماً منفصلاً بعضها عن بعض، يتناول كل قسم ناحية واحدة من نواحي الحياة فتاريخ اقتصادي، وتاريخ سياسي، وتاريخ ديني، وتاريخ للفلسفة، وتاريخ للأدب، وتاريخ العلوم، وتاريخ الموسيقى، وتاريخ للفن – أحسست أن هذه الطريقة فيها إجحاف بما في الحياة الإنسانية من وحدة، وأن التاريخ يجب أن يكتب عن كل هذه الجوانب مجتمعة، كما يكتب عن كل منها منفرداً، وأن يكتب على نحو تركيبي كما يكتب على نحو تحليلي، وأن علم تدوين التاريخ في صورته المثلى لابد أن يهدف- في كل فترة من فترات الزمن إلى تصوير مجموعة عناصر ثقافة الأمة مشتبكة بما فيها من مؤسسات ومغامرات وأساليب عيش؛ لكن تراكم المعرفة قد شطر التاريخ- كما فعل بالعلم- إلى نواحي اختصاص تعد بالمئات، وجفل العلماء الحكماء من محاولة تصور الكل في صورة واحدة- سواء في ذلك العالم المادي أو ماضي البشرية الحي، ذلك لأن احتمال الخطأ يزيد كلما اتسع نطاق المشروع الذي يأخذه الإنسان على نفسه؛ وإن رجلاً كائناً من كان يبيع نفسه في سبيل تكوين صورة مركبة تشمل الكلَّ جملة واحدة، لابد أن يكون هدفاً يبعث على الأسى، لما يصيبه من ألوف السهام التي يوجهها نقد الأخصائيين إليه؛ فتصيبه غير عابثة بجهده؛ لقد قال فتاح حوتنب منذ خمسة آلاف عام: “أنظر كيف يمكن أن تتعرض لمناوأة الخبراء في المجلس؛ إنه لمن الحمق أن تتحدث في كل ضروب المعرفة”؛ إن تاريخاً يكتب للمدنية لشبيه بجرأته بالمحاولات الفلسفية كلها: وذلك أنه يعرض علينا صورة تبعث على السخرية لجزء يشرح الكل الذي هو جزء منه؛ ومثل هذه المغامرة لا تستند على سند من العقل، كما هي الحال في الفلسفة، وهي مغامرة أحسن ما تكون حالا أن تكون حماقة جريئة؛ لكن ليكن أملنا أن تصيب ما تصيبه الفلسفة من توفيق فتستطيع دائماً أن تجذب إليها طائفة من النفوس المغامرة فتغوص في أعماقها المميتة.».
كان ديورانت يتمتع بعقل نقدي وفلسفي، وثقافة واسعة وعميقة، وكان رجلا نزيها وموضوعيا، يتحرى الحقيقة، ويحرص عليها ، وكان عالما وأديبا وفيلسوفا وفنانا في آن واحد ولهذا يرى من الواجب في كتابة التاريخ:«الإحاطة بجميع النواحي الاقتصادية والسياسية والقانونية والحربية والأخلاقية والاجتماعية والدينية والتربوية والعلمية والطبية والفلسفية والأدبية والفنية، ولقد بذلنا جهدنا على الدوام في أن نكون بعيدين عن الهوى والتحيز وأن ننظر إلى كل دين وكل ثقافة كما ينظر إليهما أهلهما، ولكنا مع هذا لا ندعي العصمة من الهوى ذلك أن العقل كالجسم سجين في جلده لايستطيع الفكاك منه».
وتجلى ذلك كله بوضوح في كتاب قصة الحضارة ومن هنا جاءت روعة وعظمة هذا الكتاب.
يحكى أن ديورانت سئل ذات مرة أن يصف نفسه وعمله فقال الرجل لا أعتبر نفسي مفكرا أو فيسوفا وإنما عاشق لعشاق الحكمة.ولما سئل أن يلخص الحضارة قال:« هي نهر ذو ضفتين يمتلئ أحيانا بدماء الناس الذين يقتلون ويسرقون ويصيحون ويفعلون أشياء يسجلها المؤرخون عادة. ولكننا نجد على الضفتين في الوقت ذاته أناسا لا يحس بهم أحد وهم يبنون البيوت، ويمارسون الحب والجنس، ويربون الأطفال، ويتغنون بالأغاني، وينظمون الشعر، بل ينحتون التماثيل.وقصة الحضارة هي قصة ماحدث على الضفتين.ولكن المؤرخين متشائمون، لأنهم يتجاهلون الضفاف ويتعلقون بالنهر».
كان ديورانت عضوا بالمعهد القومي للفنون والآداب في واشنطن، وفاز بجائزة بوليتزر في عام 1968م وهي أكبر جائزة للأدب والصحافة في الولايات المتحدة الأمريكية عن الجزء العاشر من قصة الحضارة .ومنح ميدالية الحرية في عام1977م ،فقد عاش هذا الفيلسوف والمؤرخ الحجة نحو قرن كامل تقريبا في بيئة تحترم العلماء والمفكرين والمبدعين والفنانين وبهذا اجتمعت المواهب الفردية مع الوسط الاجتماعي المناسب، فأسفرت عن هذا المشروع الرائع.
مات ديورانت عام 1981م فشعرت زوجته وشريكة عمره بفراغ كبير وماتت بعده بخمسة شهور
soubhidarwish@gmail.com
كاتب سوري ـ باريس
الفيلسوف والمؤرخ ول ديورانت
ارجوا منكم ان تصححوا معلوماتكم
الفيلسوف والمؤرخ ول ديورانت
منذ ان قرأت كتاب” قصة الحضارة” صار الكتاب رفيقي الدائم في كلّ سفري وترحالي، وما أعرفه عن الكتاب أنه كتبه بعد الحرب العالمية الأولى . وعندما شاهد صعود غرائز الأنسان نحو الحرب مرة ثانية. وعاش فوران الأوضاع نحو حرب وشيكة. حينئذ ألّف الكتاب ليكون شهادة تعلّم البشريه دروسا ضد الحرب والدمار لان تاريخ البشرية واحد.
لم يتعلم منه من شرع بالحرب العالمية الثانية..
أما نومه في دمشق وووحي فكرة الكتاب لأكمال مشروع من مات فهذه معلومة أغناني بها كاتب المقال مشكورا.
الفيلسوف والمؤرخ ول ديورانت
شكرا لك استاذ صبحي على هذا الموجز عن الكاتب و الكتاب.