إن الوثيقة التي أصدرتها جماعة العدل والإحسان بتوقيع المجلس القطري للدائرة السياسية تحمل أسباب نزولها ومراميها وغاياتها. ومن ثم فكل الذين يُجْرُون قراءات تجميلية للوثيقة أو يراهنون على مراجعات جوهرية لقناعات الجماعة، إنما هم يروجون أوهاما أو يعيشونها. ذلك أن الوثيقة تكرس توجهات الجماعة وخياراتها الأصلية التي وضعها الشيخ ياسين ولا زال يرسخها عقائد ثابتة. ومن ثم لا تزيد الوثيقة عن كونها ترجمة لثوابت الجماعة وعقائدها إلى مواقف وتصريفها إلى تكتيكات يُراد من بعضها المناورة ومن بعضها الآخر المكر والاستغفال. لهذا فكل قراءة تعزل الوثيقة عن إطارها المرجعي بمحدداته العقائدية والمذهبية، كما هي مثبتة في كتب المرشد، ستسقط ـ في الغالب ـ ضحية مكر الوثيقة.
فالوثيقة لم تصدر عرضا ولم يكن أبدا من أهدافها فك العزلة عن الجماعة، كما ذهبت بعض القراءات. ذلك أن الوثيقة جاءت تعبر عن مسعى الجماعة لاستغلال ظرف سياسي محدد لتحقيق مآرب شتى، سواء تلك المرتبطة بمبادئ الجماعة وكلياتها، أو التي تقتضيها المناورة والخدعة. ففيما يتعلق بالظرف السياسي أعلنته الوثيقة كالتالي (إن يوم 07/09/2007 وما سبقه وما لحقه علامة من العلامات البارزة في تاريخ الخراب السياسي الذي تعيشه البلاد منذ عقود طويلة، حيث أثبتت انتخابات شتنبر المعلومة وما تلاها من فصول غير مُشَوِّقَةٍ وغير مُشَرِّفَة لتشكيل الحكومة أن الوضع في البلاد لا يزداد على مر الشهور والسنين إلا ترديا وانحطاطا، وأن الهوة بين الشعب وبين الحاكمين لا تزداد إلا اتساعا وانسحاقا. حوالي 80% من المواطنين عبَّروا عن رفضهم للَّعِبِ). بالتأكيد لم يكن همّ الجماعة هو ردم “الهوة بين الشعب وبين الحاكمين”، إذ لو أن الأمر كذلك لسلكت الجماعة مسلكا مغايرا في الخطاب والممارسة. بل الجماعة أرادت بوثيقتها استغلال “الهوة” لتمرير خطابها وحشد التأييد لمشروعها الانقلابي (إن جماعة العدل والإحسان تتوجه في هذه الظروف بهذه الرسالة إلى الشعب المغربي المسلم وإلى مختلف قواه الحية.. تحديدا مباشرا للمسؤوليات فيما جرى ويجري، وتسليطا للأضواء على بؤر الانحرافات الكبرى التي تنخر كيان هذا الوطن، وتريد أن تهده هدا، وتأكيدا على المطالب المشروعة ليعيش أبناء وبنات هذا البلد الحبيب في كفاف وأمن وكرامة). فالجماعة تجعل من أسس إستراتيجيتها خلق “هوة” بين الشعب والحاكمين لعزل النظام وإضعافه، ومن ثم الانقضاض عليه. وأية وسيلة تحقق للجماعة مرادها هذا لن تتردد في استعمالها مهما كانت خطورتها، كما هو بيّن في البرنامج العام الذي سطره المرشد (نبرز بمشروعنا، ونعلنه، ونحارب دونه بأساليب السياسة ما انفتح لنا فجوة، وبكل الأساليب إن اضطهدنا)(ص 27 المنهاج). وتنزيلا لهذه الأساليب يقول الشيخ (مقاومة الظلم حتى الموت ولو نشرا بالمناشير.. ثم مقاطعة الظالمين : لا نواكلهم ولا نشاربهم ولا نجالسهم. وهذه هي الصيغة المثلى للقومة. فلو قدرنا أن نتجنب استعمال السلاح ضد الأنظمة الفاسدة، ونقاطعها حتى تشل حركتها، ويسقط سلطانها، وترذل كلمتها)(ص 36 رجال القومة والإصلاح). وبذلك لا تسعى الجماعة أبدا إلى إصلاح النظام السياسي من داخل مؤسساته.
والذين تعاطوا بتفاؤل مع وثيقة الجماعة وآنسوا فيها استعداد الجماعة للمشاركة السياسية ضمن الإطار القانوني والدستوري الحالي، سيكون من المفيد تذكيرهم بمبادئ الجماعة وثوابتها التالية : 1 ـ النظام الملكي يمثل الحكم “العاض والجبري”، وكل مشاركة سياسية في ظله هي “ترميم لصدعه” (ليكن واضحا أننا لسنا نرمي لترميم صدع الأنظمة المنهارة معنويا، المنتظرة ساعتها ليجرفها الطوفان.. يندك ما كان يظنه الغافلون عن الله الجاهلون بسنته في القرى الظالم أهلها حصونا منيعة وقلاعا حصينة، وتندثر وتغرق)(ص576 العدل).
2 ـ رفض أية مصالحة مع النظام (ليكن واضحا جليا أننا لا نخطب ود الأنظمة الفاسدة الكاذبة الخاطئة. وليكن واضحا أن خطة بعض المترددين من فلول الحركة الإسلامية المتكسرين إلى مصالحة مع المزورين ليست خطتنا)(ص 571 العدل).
3 ـ الإصرار على رفض الاعتراف بالملك أميرا للمؤمنين. وهذا ما أكده الشيخ ياسين بنفسه لجريدة البايس كالتالي (سنة 1991، حينما كنت في بداية إقامتي الجبرية، اقتربت منا السلطة وعرضت علينا الاعتراف بنا كحزب سياسي بل وعدتنا بمنحنا كرسيا في البرلمان، في مقابل التزامنا الاعتراف ب…. لكننا رفضنا هذه العروض ومازلنا نرفضها إلى اليوم متشبثين بموقفنا). وأي اعتراف من الشيخ بإمارة المؤمنين سيضعه في تناقض مع ما أضفاه على شخصه من قداسة لما ارتقى بنفسه إلى مقام الإحسان فتجسدت فيه “المشيخة الربانية” التي جعلها شرط بناء وقيادة دولة الخلافة (لن تكون كذلك إلا إن قادها الربانيون أولياء الله)(ص251 الإحسان1). وليس بمقدور أي جماعة إسلامية أن تقيم دولة القرآن، حسب الشيخ، إذ (ينبغي أن تكون نقطة الانطلاق، أولى الأولويات، من وجود قائم، قائم مؤمن بالله وباليوم الآخر، عالم بما فرض الله عليه.. منبعث للتنفيذ مخلص صادق، منتظم في جماعة المؤمنين)(ص 346 العدل). والشيخ، بهذه المواصفات التي يخص نفسه بها، لن يقبل الانخراط في مؤسسات “دولة السلطان” التي يزعم أنه “منبعث” لهدم أسسها. كما لن يرضى بمصالحة الملك والشيخُ وجماعته يتهمانه بمحاربة الدين وتخريب الأخلاق. فقد كتب أحد أعضاء الجماعة في حق الملك (أن من كان عليه أن يحمي حمى الملة والدين هو مصدر كل مآسي الشعب المغربي والراعي لذلك). وهو نفس الاتهام الذي جاءت به وثيقة الجماعة (زد على ذلك جهود النظام الخبيثة وبرامجه المعلنة والسرية في الإفساد الممنهج للمجتمع واستهداف الأسرة المغربية المسلمة في قاعدتها الأساس).
4 ـ أن الشيخ مبعوث لإقامة “دولة القرآن” وموعود بالنصر. ومن ثم فهو يتطلع إلى اليوم الذي يصير فيه حاكما فعليا للمغرب وليس مجرد مرشد جماعة. ومما يزيده إصرارا على رفض أي توافق مع النظام الملكي اعتقاده أنه وأتباعه أصبحوا(على عتبة المسؤولية عن الحكم).إذن فالجماعة لن تتنازل عن خيار “القومة” ولن تتخلى عن إستراتيجية تغيير النظام الملكي بأي أسلوب كان. وطالما لا تمتلك الجماعة القوة الضاربة التي تزحف بها على السلطة، فإنها تناور من أجل تشكيل تكتل يضم القوى الفاعلة. وفي هذا الإطار جاءت وثيقة “جميعا من أجل الخلاص”. فهل حقا تحمل الجماعة “خلاصا” للقوى الفاعلة؟ وهل الشيخ سيغير نظاما يحكم عليه بالعض والجبر بنظام غير إسلامي وإن كان ديمقراطيا؟ وهل المتحالفون مع الشيخ سيقبلون بالنظام البديل الذي يرتضيه؟
للحديث بقية.
selakhal@yahoo.fr
* المغرب