يطلع علينا بعض العباقرة بنظرية يخالونها فاضحة ضاربة. انها «نظرية اليساري السابق»، أشبه ما يكون تردادها بنعيق البوم.
تبعاً للكشف الذي تقدّمه هذه النظرية ثمّة يساريون ارتدوا أو تاهوا أو تنكروا لماضيهم وصار من الواجب التشهير بهم كيساريين «سابقين». ليس فقط يساريين «منحرفين» أو «ضالّين»، وانما يساريون «سابقون».
وتبعاً لأحكام هذه النظرية فان معشر اليساريين السابقين هم على نوعين:
– قسم ما زال يؤكّد يساريّته، وينبغي تذكيره بأن يساريّته هذه لم تعد من حقّه، بل من حق سواه، أي من حق الحركات الجهادية والفاشية الدينية، وبمعية الأنصار العلمانيين لهذه الحركات، الذين يتصوّرون أن هذه الحركات لها جوهر علماني تقدمي ثوري تخفيه تحت ستار الحمية الدينية المراد منها تعبئة الجماهير، مع حفظ الحق في متابعة مسيرة النضال الاجتماعي والوطني في الدار الآخرة، على أبعد تقدير.
– قسم ما عاد يؤكّد يساريّته، أو ما عاد ينظر الى ثنائية يمين ويسار كذات صلاحية في هذه المرحلة بالذات من تاريخ المنطقة. وهؤلاء ينبغي تذكيرهم، وفقاً لـ«نظرية اليساري السابق» بماضيهم كيساريين، وتعييرهم بهذا الماضي، أين كانوا، واجتزاء ماذا قالوه بالأمس لنقض ما يقولونه اليوم؟
انّها فعلاً نظرية «يحتار» أمامها المرء، ولا تتراجع «الحيرة» الا بفعل العجب من رؤية أحد الخنافس يشبّه نفسه بكارل ماركس لأن الأخير أقام في المنفى، وهو بدوره يقيم على مسافة عشرات آلاف الكيلومترات بعيداً عن فلسطين ويزايد على أهلها.
فلنذكر صاحبنا بأن ماركس كان منفياً، وانه من منفاه سرّح «عصبة الشيوعيين»، بل وجدها غير مجدية، وعندما صارت الأممية الأولى تزعجه أيضاً، نقلها الى حيث طاب لها أن ترقد بسلام.
اذا ما أصرّ اليساري منّا على حمل وزر التسمية يأتي من ينكر عليه التسمية، وان تخلى أحد منّا عن هذه التسمية لسبب أو لآخر، يأتي من يعيب عليه أنه تخلّى عنها.
وكل ذلك، من أجل ماذا؟ من أجل الدفاع عن يسار افتراضي قائم على أساس موضوعة «المعذّبين في الأرض» لفرانتز فانون، وهي من أكثر التخريجات تدليساً وعداء لتراث الماركسية.
لا تحتاج «نظرية اليساري السابق» الى جهد نظري حقيقي للرّد عليها. يكفي القول أنه ليس من دلالة اصطلاحية ممكنة لعبارة «يساري سابق»، هذا بخلاف الدلالة الاصطلاحية الممكنة لعبارة «شيوعي سابق» أو «اشتراكي سابق».
أما أن تكون يسارياً سابقاً أو لاحقاً، فما الفرق؟! يمكن أن تكون يسارياً، ويمكن أن تكون يمينياً، أما أن تكون يسارياً سابقاً أو يمينياً سابقاً، فهذا باطل اصطلاحاً ولغة، وكل ما هو باطل اصطلاحاً ولغة، هو باطل نظرياً.
بيد أن «نظرية اليساري السابق» تظلّ نافعة في حيّز آخر، كونها تكشف لنا عمق المشكلة مع مناهضي العولمة من أنصار الممانعة التي تضطلع بها الأنظمة المخابراتية والحركات الجهادية بمركز الثقل.
المشكلة مع هؤلاء تتقوّم في أنهم في أبعد نقطة قطبية عن تراث الاقتصاد السياسي المرتبط بالحركة الاشتراكية، لأنهم وبدل كل الكلام عن علاقات الانتاج واعادة الانتاج الاجتماعية، اذ بهم يكتشفون نظرية خرقاء هي نظرية «مناهضة النيوليبرالية»، التي لا تشذ كثيراً، عن «تحريم الربا» في بعض الشرائع الموحى بها. ان تحريم الربا هو القاعدة الذهنية المشتركة لتحالف مناهضي العولمة مع الحركات الجهادية.
وفقاً للمنطق الداخلي لـ«نظرية اليساري السابق» فان هؤلاء اليساريين ممن يحافظ على التسمية أو يتنكر لها انما ينبغي جملهم في فئة «يساريين سابقين»، كونهم أضحوا عملاء صغار أو متوسطين للمرابين. ووفقاً للمنطق الداخلي لهذه النظرية الخرقاء، فان هؤلاء في غفلة عن «القضية الاجتماعية» ما دامت هذه، تعني في المقام الأول، القومة ضد المرابين.
سيأتي اذاً، ان لم يكن اليومَ فغداً، من يفهم هؤلاء، أن القضية الاجتماعية لا تكون باقامة الحدود على المرابين، وانما بقيام فضاءات سانحة بمناقشة غير شعبوية وغير طفيلية للسياسات الضريبية، وباعادة تأسيس نقابات حقيقية، تمثّل فعلاً، القطاعات الاستخدامية التي تتكلّم باسمها، فكما لا يمكن للطبيب القيام بعملية جراحية بأدوات السمكري، لا يمكن حمل لواء المطالب الاجتماعية من دون نقابات، والا، صار حملها خطراً، وجالباً للتعاسة، لأولئك الذين يجري التكلّم باسمهم.
ومن السهل جداً أن ينادي الواحد منّا بسياسة ضريبية «تصاعدية». لكن الأهم هو أن يتنبه الى ضرورة المواءمة بين منطق العدالة في توزيع الضرائب وبين منطق جذب الاستثمارات، لأنه في الأساس ثمة فارق كبير بين «التوزّع العادل للفقر» وبين «اعادة توزيع الثروات»، وتبعاً لذلك الفارق وجب أن لا تكون اعادة التوزيع الأخيرة ممكنة بغير الاقلاع عن العنتريات الشعبوية والغوغائيات المكابرة.
لكن أين لبنان وأين هذا النقاش؟ في لبنان اليوم مهام «ما قبل اجتماعية»، و«ما قبل وطنية». انها تتصل بكبح جماح «الما لا يطاق»، وهذا «الما لا يطاق» يتلبس حالياً ثوب «التحرر الوطني»، لكنه يريده تحرراً وطنياً لأبد الآبدين، ليس لأنه يمغط العلاقة بين المباشر والنهائي من قضايا وأهداف، بل لأنه في الأساس يصطنع علاقات تقوم لا بين مهام مباشرة وأهداف نهائية، ما يوجد برامج انتقالية، وانما بين مهام مباشرة وأهداف أخيرية (اسكاتولوجية، أي ترتبط بمصائر ما بعد فناء كل واحد منا وما بعد فناء هذه الدنيا).
ليس يمكن أن يتحمل لبنان هذه «الاسكاتولوجيا المباشرة». وليس من العجب أن يكون رفض هذه الاسكاتولوجيا المباشرة بالتحديد معياراً لرفض التحالف بين الأصوليين واليساريين. ثمة في لبنان من يخالون أنهم البلاشفة، فيما هم أشبه ما يكونون بالـ«مئة السود».
(السفير)